- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
حسن أبو هنية يكتب: بين غزة والموصل: "حماس" ليست "داعش"
حسن أبو هنية يكتب: بين غزة والموصل: "حماس" ليست "داعش"
- 31 أكتوبر 2023, 9:06:20 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عصف فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مع انطلاق عملية "طوفان الأقصى" التي دشنتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي بأحلام وعقول قادة المستعمرة الصهيونية اليهودية، وتحكّمت في نفوس الإسرائيليين حالة من الشك الوجودي في قدرة المستعمرة على الاستمرار والبقاء، وسادت مشاعر فقدان الثقة بكفاءة النخب السياسية والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية بعد الإخفاق والفشل الاستخباري والعملياتي المذهل، وسرعان ما فقدت الإمبريالية الأمريكية- الأوروبية ثقتها بقدرة المستعمرة الصهيونية على الصمود، فتقاطر رؤساء الحلف الإمبريالي- الصهيوني إلى تل أبيب، ودفعت بسفن حربية وقوات قتالية ومستشارين عسكريين للمشاركة في مجلس الحرب الإسرائيلي.
وقد استقرت خطة العمل الإمبريالية الصهيونية الخطابية والعملياتية في التعامل مع حركة "حماس" باعتبارها نسخة أسوأ من تنظيم "داعش" على صعيد الخطاب كمنظمة إرهابية لا تتمتع بالحصانة الإنسانية ولا تسري عليها قواعد القانون الدولي وقوانين الحرب، وفي الجانب العملياتي ذهبت الخيارات العسكرية بوجوب التعامل مع غزة كما الموصل باتباع سياسة الأرض المحروقة وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية وعمليات قتل المدن. لكن تلك الخطابات والممارسات لا تعدو عن كونها هذيانات إمبريالية استعمارية تخفي حالة البؤس والعجز والفشل أمام مقاومة الشعب الفلسطيني؛ الذي برهن على إمكانية التحرر واستحالة بقاء الاستعمار الأخير في العالم.
تهدف السردية الخطابية الإمبريالية الصهيونية بنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة، فهذه ليست معركة إسرائيل فقط بل معركة "الحضارة ضد الوحشية
لم تكن عملية "طوفان الأقصى" سوى استجابة حيوية ضرورية لما أفضت إليه محاولات تصفية القضية الفلسطينية، بعد لحظة تاريخية تماهى فيها الخطاب الرسمي العربي مع العنف الإسرائيلي في غزة الذي حوّلته إلى معتقل وسحن كبير مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، التي تجاهلت الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري لإسرائيل والذي يستند إلى لإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، وتناست طبيعة المقاومة الفلسطينية المناهضة لهذا الاستعمار وكحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئاً ممكناً، بل واجباً يقوم على حق الدفاع عن النفس.
فقد أصبح الوهم القائل بأن الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا. وعززت مسارات التطبيع مع الدول العربية من جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، فقد تماهت الخطابات الإمبريالية والصهيونية والاستبدادية مع خرافة أن الشعب الفلسطيني هو مرتكب الإرهاب، وأن الإسرائيليين المستعمرين هم ضحايا الإرهاب دوماً، وباتت خرافة وأسطورة حق إسرائيل في الوجود والدفاع عن نفسها ثيمة شائعة.
لا تحتاج الإمبريالية الأمريكية- الأوروبية إلى خطابات الاستعمارية الصهيونية، لتبرير خطاب استعلائي عنصري تجاه الفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمين، فالكراهية الغربية العميقة المتأصلة للإسلام والمسلمين عموماً والعرب خصوصاً، تستند إلى سياسات الهوية الصلبة. إذ يعرّف الغرب العلماني نفسه بنسخته المسيحية- اليهودية المحدثة كنقيض للإسلام كدين وشكل حياة، فالإسلام إبان قوته ولا يزال رغم ضعفه يشكل للغرب هاجساً مقلقاً، باعتبار الإسلام كينونة مناهضة للغرب كنقيض إبستمولوجي وتحد جيوسياسي.
إذ تهدف السردية الخطابية الإمبريالية الصهيونية بنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة، فهذه ليست معركة إسرائيل فقط بل معركة "الحضارة ضد الوحشية"، حسب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وفي اليوم الذي استقبل فيه رئيس الولايات المتحدة جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتز، قال نتنياهو: "حماس هي النازية الجديدة. حماس هي داعش، وفي بعض الحالات أسوأ من داعش. وكما توحد العالم لهزيمة النازيين، تماما كما اتحد العالم لهزيمة داعش، يجب على العالم أن يقف متحداً خلف إسرائيل لهزيمة حماس". وبعد مجزرة المعمداني، غرد نتنياهو قائلاً: "إنه صراع بين أطفال النور وأطفال الظلام.. بين الإنسانية وقانون الغاب".
يتشارك الخطاب الإمبريالي والصهيوني ذات القيم العنصرية التفوقية ونفس استراتيجيات المحو والإبادة والغزو، فقد قام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بدعم إمبريالي غربي على المحو والإبادة والتطهير العرقي، ونفذ عشرات المجازر عام 1948 كتكتيكات إرهابية للتهجير وإفراغ الأرض من الفلسطينيين. واليوم تحاول المستعمرة اليهودية بدعم ومشاركة أكبر من الإمبريالية الغربية استكمال عملية الإبادة والتطهير باستخدام ذات التكتيتكات الاستعمارية بمجازر مشهدية. في حرب التطهير الأولى (1948) شاركت الأنظمة العربية على ضعفها آنذاك في الحرب، واليوم تجري عملية التطهير والطرد في ظل أنظمة عربية متواطئة وخانعة، وأصبحت الاستراتيجية الصهيونية والإمبريالية والاستبدادية واضحة بتصفية القضية الفلسطينية.
أصبحت إسرائيل مستعدة أيديولوجياً لتنفيذ عملية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في الوقت الحالي، بالانتقال إلى ما يسمى "المرحلة الحاسمة" بتصفية القضية الفلسطينية وتخطي الوضع الراهن عبر الإرهاب الجذري والإبادة الجماعية على طريقة سموتريتش، وهو الحل الذي يتأسس على رواية مأخوذة من سفر يشوع، حيث يقوم الإسرائيليون الغزاة بتنفيذ عملية إبادة ضد الكنعانيين الأصليين، حتى لا تُترك روح واحدة تتنفس، باقتباس توصيف الحاخام موسى بن ميمون
تتجسد عقيدة الإبادة الجماعية وأيديولوجية الإرهاب الجذري الخالص في الخطاب البائس لرئيس وزراء دولة الإرهاب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على أسس عقدية دينية توراتية سابقة بتحقيق "نبوءة إشعياء" في الحرب التي يشنها على قطاع غزة، واصفاً الفلسطينيين بأنهم "أبناء الظلام"، والإسرائيليين بـ"أبناء النور".
وبهذا أصبحت إسرائيل مستعدة أيديولوجياً لتنفيذ عملية إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في الوقت الحالي، بالانتقال إلى ما يسمى "المرحلة الحاسمة" بتصفية القضية الفلسطينية وتخطي الوضع الراهن عبر الإرهاب الجذري والإبادة الجماعية على طريقة سموتريتش، وهو الحل الذي يتأسس على رواية مأخوذة من سفر يشوع، حيث يقوم الإسرائيليون الغزاة بتنفيذ عملية إبادة ضد الكنعانيين الأصليين، حتى لا تُترك روح واحدة تتنفس، باقتباس توصيف الحاخام موسى بن ميمون. وبحسب المدراش، كانت هناك ثلاث مراحل لهذه العملية؛ أولاً، أرسل يشوع إلى الكنعانيين رسالة نصحهم فيها بالفرار، ثم يمكن للذين بقوا أن يقبلوا بمكانة المواطنة الدنيا وباستعبادهم، وأخيراً إذا قاوموا، سوف تتم إبادتهم. وقد قدم سموتريتش هذه الخطة علناً باعتبارها التحول المطلوب إلى المرحلة الحاسمة، وها هو نتنياهو يتبناها دون لبس.
بلغت الوقاحة الصهيونية حد الجنون في عنصريتها، عندما صرّح وزير الحرب في إسرائيل يوآف غالانت، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر، بأن إسرائيل "ستفرض حصاراً على قطاع غزة بصورة كاملة، بحيث لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، بل سيكون كل شيء مغلقاً، ذلك لأننا نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس". ويشكل هذا الخطاب العنصري جوهر المشترك القيمي للإمبريالية والصهيونية، ويستكمل خطاب شاع مع نشوء الحركة الصهيونية، واندرج ضمن نطاق خطاب التفوق العنصري الأوروبي الاستعماري، الذي عبّر عنه بوضوح تيودور هرتزل، منذ سنة 1896 في كتابه "دولة اليهود"، والذي خاطب فيه الدول الاستعمارية الأوروبية، التي كان يطمح إلى الحصول على مساعدتها في إقامة هذه الدولة، بقوله: "سنشكّل هناك مكوّناً من حاجز في آسيا وموقعاً متقدماً للحضارة ضد البربرية".
خطاب الحضارة البربرية الإمبريالي- الصهيوني لا يرى في المسلمين والعرب والفلسطينيون سوى مشاريع إرهابيون، فحركات المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها السياسية والأيديولوجية تعد منظمات إرهابية، وليست مقاربة حماس بداعش سوى حلقة في سلسلة من استراتيجيات الهيمنة والإخضاع، وقد استحضر الخطاب الإمبريالي- الصهيوني ظاهرة الإسلاموفوبيا.
بتشبيه "طوفان الأقصى" بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وهو خطاب متجذر وراسخ، فقد شبّه رئيسُ وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون الرئيسَ الفلسطيني السابق ياسر عرفات بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ولم تغادر سردية الإرهاب الاستعمارية الخطابات الإمبريالية- الصهيونية حول الحضارة والبربرية عند كل حادثة، فقد جاء في خطاب نتنياهو، الموجّه إلى السفير الفرنسي، عقب هجمات "داعش" في فرنسا سنة 2015، قوله: "نحن فخورون بقيمنا وصداقتنا وحريتنا.. عندما تشخّص القوى المتحضرة المشكلة، لن يبقى أمامها سوى الاتحاد من أجل القضاء على هذه الحيوانات، هذه الحيوانات لها اسم، وهو الإسلام المتطرف، نحن ملزمون بالوقوف معاً لنحارب الإسلام المتطرف".
لم يكن مستغرباً أن يتبنى الخطاب الإمبريالي الغربي الرواية الاستعمارية الإسرائيلية، فضحايا الاستعمارية تاريخياً لم يتمكنوا من إقناع مستعمريهم الأوروبيين بمعاناتهم ورغبتهم العميقة في الحرية، والغرب غير متأثر بمعاناة الفلسطينيين في مواجهة الاستعمار الصهيوني الذي ساندته وتدعمه، فالزعماء الغربيون ووسائل الإعلام الغربية يطالبون الفلسطينيين بإدانة أنفسهم وإدانة سعيهم إلى التحرر، ويتصرفون كما لو أن هذا الصراع قد بدأ مع طوفان الأقصى، كما لاحظ إدوارد سعيد منذ ما يقرب من 40 عاماً، حيث يتجاهلون حق الفلسطينيين في سرد روايتهم، فهم يصرون على تصوير الفلسطينيين "على أنهم الجناة، ومنتهكو القانون، والإرهابيون المطلقون على الرغم من وجود أدلة وفيرة تشير إلى عكس ذلك".
وعلى الرغم من توثيق الفلسطينيين معاناتهم في ظل نظام الفصل العنصري، فصدى الخطاب الصهيوني الإسرائيلي العنصري الاستشراقي ظهر في خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، عندما وصف عملية طوفان الأقصى بـ"الشر الخالص المحض"، وأن "حماس" هي "جماعة هدفها المعلن هو قتل اليهود"، واعتب طوفان الأقصى شكلاً من أشكال الإرهاب، مصرّحاً بأن "وحشية حماس تعيد إلى الأذهان أسوأ هيجان لداعش". وهكذا تواترت خطابات زعماء الإمبريالية الأوروبية بالتماهي بين الخطاب الإسرائيلي والخطاب الأمريكي في توصيف مقاومة الشعب الفلسطيني بالإرهاب، ونزع صفة حركة التحرر الوطني عنها، مع وصمها بالداعشية، وذلك لتبرير الممارسات الإسرائيلية الإبادية العنيفة تجاه الفلسطينيين.
إن الخطابات الإمبريالية- الصهيونية ونزع صفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني واعتبار المقاومة الفلسطينية إرهابية ومقارنة حماس بداعش؛ تهدف إلى التمهيد لتطبيق سياسة الأرض المحروقة في غزة كما حدث في الموصل، وقد بلغت الوقاحة الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية حد الغطرسة والخرف بالدعوة لتشكيل تحالف دولي لإبادة غزة أرضاً وشعباً على غرار التحالف الدولي ضد داعش وتدمير الموصل. والأدهى والأشد وقاحة أن تطلب الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية من الأنظمة الاستبدادية العربية والإسلامية المشاركة في حفلة الإبادة الجماعية لإخوتهم الفلسطينيين الغزيين، بعد عقود من الاحتلال والإذلال وحشرهم في معتقل وسحن كبير، والحقيقة أن الغرب الإمبريالي خاب أمله وفشل بتشكيل حلف يضم المستبدين العرب لتصفية القضية الفلسطينية، ليس بسبب صحوة الضمير الأخلاقي للمستبدين العرب؛ وإنما دفاعاً عن سلطتهم التي ستصبح في مهب الريح ومهددة وجودياً بانكشاف آخر رصيد لشرعية البقاء والوجود، فهم يدركون جيداً أن الانضمام إلى حلف الشر يعني غرقهم في الطوفان.
لم يكن الخطاب الإمبريالي- الصهيوني باعتبار حماس هي داعش سوى خطوة عملياتية لمطابقة خيار الموصل على غزة، في سياق استراتيجية مكافحة التمرد الاستعمارية ومرتكزات قتل المدن، لكن غزة ليست الموصل، ومع ذلك لا تحتمل المستعمرة كلفة حرب كالتي جرت في الموصل لاستعادتها من مقاتلي تنظيم الدولة، فقد كانت مهمة تطهير الموصل من الجهاديين مكلفة وشاقة وطويلة، واستغرقت وقتا أطول بثلاث مرات مما كان مخططا له
لم يكن الخطاب الإمبريالي- الصهيوني باعتبار حماس هي داعش سوى خطوة عملياتية لمطابقة خيار الموصل على غزة، في سياق استراتيجية مكافحة التمرد الاستعمارية ومرتكزات قتل المدن، لكن غزة ليست الموصل، ومع ذلك لا تحتمل المستعمرة كلفة حرب كالتي جرت في الموصل لاستعادتها من مقاتلي تنظيم الدولة، فقد كانت مهمة تطهير الموصل من الجهاديين مكلفة وشاقة وطويلة، واستغرقت وقتا أطول بثلاث مرات مما كان مخططا له، وخلفت نحو 10 آلاف قتيل من المدنيين، وقُتل عدد أكبر من المتوقع من جنود التحالف.
فتحرير الموصل والرقة من قبضة تنظيم "داعش" (2016-2017) كانت من بين المعارك الأكثر حسماً في المدن منذ نصف قرن، جرت من حي إلى حي، بين جيوش نظامية ومقاتلين غير نظاميين. تمت محاصرة المدينتين واقتحامهما، مع مستويات مرتفعة من الخسائر ودمار هائل. دُمِّرت المدينتان بنسبة تفوق 60 في المائة، ولم يُعَد بناؤهما حتى اليوم.
ويبدو أن الذهاب إلى خيار الموصل الذي يتمتع بقبول واسع أمريكياً وإسرائيليا رغم التشابهات العرضية والفروقات الكبيرة، ولكن في ظل فشل القضاء على المقاومة في غزة وفق سياسات "جز العشب" على مدى سنوات، يجد مجلس الحرب الصهيوني نفسه أمام خيارات صعبة ومؤلمة، إذ لم تحقق الهجمات الإسرائيلية المتكررة على النسيج الحضري الكثيف لقطاع غزة أهدافها في 2008، و2012، و2014، و2021 و2022، بشكل شبه كلي عن طريق الجو أو بالمدفعية، رغم مقتل أكثر من 4000 شخص، فالاستراتيجية الهجينة لقتل المدن، والتي يتم اللعب فيها على مدى فترات طويلة بين الأشكال العنيفة والبطيئة، جعلت 750 ألف ساكن في غزة المدينة و1.25 مليون من السكان الآخرين في هذا السجن الذي يمتد على 365 كيلومتراً مربعاً، يعيشون "قتل المدينة" كأسلوب حياة في نهاية المطاف.
عند التأمل في معركة الموصل فإن تطبيقها في غزة يبدو أكثر صعوبة، لصعوبة تنفيذ خيارات الأرض المحروقة وغياب تأييد دولي واحتمال الحرب الإقليمية. ففي معركة الموصل التي انطلقت في16 تشرين ثاني/ أكتوبر 2016 لم تتمكن القوات العراقية المسندة من طائرات التحالف الدولي بقيادة أمريكا من استعادتها دون تدمير المكان بصورة شبه كاملة، بعد أكثر من تسعة أشهر من القصف، رغم وجود أكثر من 150 ألف مقاتل من قوات الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية وقوات الشرطة الاتحادية وقوات جهاز مكافحة الإرهاب وسلاح الجو العراقي، وفصائل مليشيا "الحشد الشعبي" الشيعي وفصائل "الحشد العشائري" السني، فضلا عن قرابة 5 آلاف عسكري ومستشار أمريكي وأوروبي، في مواجهة قرابة 3000 إلى 4500 عنصر من مقاتلي تنظيم الدولة في المدينة، حسب تقديرات وزارة الدفاع الأميركية آنذاك.
لا يحتمل الاحتلال الإسرائيلي في الحرب البرية على غزة الخسارة التي احتملتها القوات العراقية في الموصل، فحسب إحصائية تنظيم الدولة، وهي تتطابق مع تقديرات أخرى، تمكن تنظيم الدولة من قتل نحو 11 ألفا و700 عنصر من القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي، والبيشمركة، وذكر التنظيم أن معركة الموصل خلّفت عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين من القوات العراقية، مشيرا إلى أن عناصره تمكنوا من قنص 1629 عنصرا. ووفقا للتنظيم، فإن 482 من عناصره فجروا أنفسهم خلال معركة الموصل، حيث أسفرت تلك العمليات، بالإضافة إلى استهداف الجنود، عن تفجير وإعطاب أكثر من ألف عربة همر، ومئات الآليات الأخرى، إضافة إلى إسقاط 15 مروحية، ونحو 100 طائرة استطلاع.
رغم التهويلات الإسرائيلية والحرب النفسية يدرك كافة الخبراء العسكريين صعوبة المهمة في غزة وتعقيدات الحرب البرية، فقد صمد تنظيم الدولة في الموصل بأقل من 5 آلاف مقاتل أكثر من 9 أشهر، مقارنة بغزة حيث يوجد لدى حماس ما يقدر بـ30 ألفا إلى 40 ألف مقاتل، وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية 15 ألف رجل آخر يحملون السلاح، فضلاً عن بقية الفصائل.
وحسب جون سبنسر، وهو رائد أمريكي سابق يعمل الآن في معهد الحرب الحديثة في وست بوينت، فإن داعش كان أمامه عامان فقط لتجهيز دفاعاته في الموصل، بينما كان أمام حماس سبعة أعوام في غزة، ومما يزيد من تعقيدات تضاريس غزة وجود شبكة ضخمة من الأنفاق التي بنتها حماس تحت القطاع. وفي الموصل كانت هناك حكومة وطنية لإدارة المدينة بعد ذلك، على عكس ما سيحدث في غزة إذا تمت إزالة حماس، التي تحكم الجيب بالكامل ولا ترغب القوات الإسرائيلية، التي غادرت غزة عام 2005 في إعادة احتلالها بشكل دائم.
تبدو مقاربة غزة بالموصل هي المسيطرة على الأذهان رغم الشكوك حول نجاعتها. فقد قال ديفيد بتريوس، الجنرال الأمريكي السابق الذي قاد القوات المتحالفة في العراق خلال عام 2007 بعد زيادتها هناك ثم قوات حلف شمال الأطلسي والقوات الأمريكية في أفغانستان: "سيكون الأمر صعباً للغاية"، مضيفا "لا أستطيع أن أتخيل ظروفا أكثر صعوبة".
وقال مسؤولون عسكريون ومحللون إن من بين التحديات التي تواجه قوات الاحتلال الإسرائيلية في غزة، على الأرجح، المنازل المجهزة للانفجار، والمقاتلون الذين يرتدون ملابس مدنية، والمنشآت العسكرية المختبئة تحت المباني المدنية، والأسلحة المخزنة في مختلف الأماكن، كما أن حماس متجذرة بعمق في المجتمع الفلسطيني.
يبدو الحديث عن تطبيق سيناريو الموصل في غزة بعيد المنال وتكتنفه تعقيدات عملية ظاهرة للعيان، وصعوبات عملياتية واضحة، وسرعان ما ستظهر كلف الغطرسة. فعملية "طوفان الأقصى" شكلت إمكانية للتحرر، وخلقت واقعاً جديداً، لن تتوقف تداعياتها على مستوى الصدمة النفسية للكيان الإسرائيلي، وفقدانه للتوازن والمس بكبريائه وغطرسته
وحسب ضابط في القوات الخاصة الغربية رافق القوات العراقية التي تقاتل في الموصل قبل ستة أعوام: "إن حرب المدن هي عبارة عن مشكلة تلو الأخرى"، وأضاف: "لا يوجد أيضًا حد لمتطلبات القوات" فحتى لو أرسلت إسرائيل عشرة ملايين جندي إلى غزة، فإن الأمر سيستغرق وقتا طويلا وهذا لمجرد الاستيلاء على المنطقة؛ أما الاحتفاظ بها فامر آخر"، وثمة إجماع على أن فرص القيام بعملية إسرائيلية سريعة في غزة ضئيلة.
خلاصة القول أن غزة ليست الموصل وحماس ليست داعش، فثمة مليارا مسلم ومن خلفهم معظم شعوب العالم في أفريقيا وآسيا وحتى جماهير داخل الولايات المتحدة والدول الأوربية، يساندون المقاومة الفلسطينية ويعتبرونها حركة تحرر وطني تناضل من أجل الحرية ضد نظام استعماري فاشي عنصري. ولم تفلح الحملة الخطابية الإمبريالية- الصهيونية في قلب الحقائق والبداهات باعتبار المقاومة الفلسطينية حالة إرهابية، بل تنامى الإدراك بحقيقة المستعمرة لاستيطانية اليهودية وممارساتها الإرهابية ونظامها العنصري، ولم تفلح محاولات طمس السياقات التاريخية والاستعمارية لواقع دولة الاحتلال، وحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة والاستقلال.
ويبدو الحديث عن تطبيق سيناريو الموصل في غزة بعيد المنال وتكتنفه تعقيدات عملية ظاهرة للعيان، وصعوبات عملياتية واضحة، وسرعان ما ستظهر كلف الغطرسة. فعملية "طوفان الأقصى" شكلت إمكانية للتحرر، وخلقت واقعاً جديداً، لن تتوقف تداعياتها على مستوى الصدمة النفسية للكيان الإسرائيلي، وفقدانه للتوازن والمس بكبريائه وغطرسته. فحدث الطوفان عزز الشكوك حول ديمومة الكيان الاستعماري واستمرار وجوده، وسرعان ما امتدت الصدمة وتنامت الشكوك لدى الغرب الإمبريالي الراعي للكيان الاستعماري الإسرائيلي حول قدرات جيش وأجهزة استخبارات وحكومة المستعمرة وقدرتها على الصمود والبقاء والسيطرة.
وبعيداً عن خطابات التهويل الإمبريالي- الصهيوني وممارساته الوحشية الإبادية، فإن الفشل سيتعمق مع بدء الحرب البرية، وستبدأ محاولات البحث عن حل حقيقي لأول مرة منذ 75 عاماً من الاستعمار الاستيطاني الأخير على وجه الكرة الأرضية.