نجيب سرور ... حبات البدار.. الجزء الأول

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 15 مارس 2021, 11:17:17 م
  • eye 1530
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01


( نشر فريد الإبن الباق لنجيب سرور نداء ورجاء أليم موجع.. كي تتمكن أمه البالغة من العمر ٩٠ عاما الحصول على معاش والده الراحل .. حيث لم يعد لهم أي مصدر رزق آخر.. إلا أن هناك إجراءات بيروقراطية حصيفة تمنع ذلك حتى الآن..)


"يا نابشا قبري حنانك...
ها هنا قلب ينام..
لا فرق بين عام ينام..وألف عام...
هذي العظام حصاد أيامي..فرفقا بالعظام..
أنا لست أحسب بين فرسان الزمان..
إن عد فرسان الزمان..
لكن قلبي كان دوما قلب فارس..
كره المنافق والجبان..
مقدار ما عشق الحقيقة..." 



الأول من يونيو عام ١٩٣٢..طفل صغير يولد في قرية أخطاب.. هل من المهم أن أذكر إسم المحافظة وموقعها الجغرافي؟.. هي واحدة من آلاف القرى والنجوع المنتشرة كالنجوم الصغيرة على إمتداد سماء الوطن.. هناك حيث الفقر والبؤس والإهمال.. والخوف من السلطة وكل من يمثلها.. هي علاقة ملتبسة تجذرت عبر مئات السنوات.. لم يعتادوا الظلم والقهر.. لكنهم قبلوا بهم كمعتادات الحياة.. صبرهم محيط عميق غائر.. لكن الحذر كل الحذر من هبتهم.. فإنها لا تبقي ولا تذر..

إلتحق " نجيب" بالمدرسة.. كان يتعلم الكلمة.. قليلون هم من أدركوا أن الكلمة معني وصورة وتجسيد وخيال وإحاطة ودلالة ومذاق.. الكلمة ليست وسيلة تواصل وحسب.. هي روح ورسالة وحياة أخرى تقارع الفناء.. لا زمان محدد يمكن للمرء فيه أن يحدد مطمئنا متى تولدت لغته الفريدة.. سرديته الخالدة.. لا يمكن لأحد أن يجزم ويأتي بمحددات صارمة كيف تمكن من تخليق عالمه السحري التي صاغ فنون الشعر والمسرح منحوتات سامقة تعادي الزمن والبلي وتسخر منه قائلة " أنا باقية رغم أنف الفناء"..

خبر الفتى الصغير  محددات العلاقات في مجتمعه.. الفوارق وتجبر السلطة وإضطرار البسطاء لمداهنتها... علم قسوة الشقاء والكد فقط ليبقى المرء على قيد الحياة.. عرف كيف ولماذا ومتى وكيف.. أجاب على كل الأسئلة.. هل يمكن للعقل أن يستوعب. كل تلك المهالك ولا يشقى؟..



"أنـا ابن الشـــقاء.. 
ربيب (الزريبــة والمصطبــة).. 
وفي قـريتي كلهم أشـــقياء.. 
وفي قـريتي (عمدة) كالإله.. 
يحيط بأعناقنــا كالقـدر.. 
بأرزاقنـا.. 
بما تحتنــا من حقول حبالى.. 
يـلدن الحياة.. 
وذاك المساء.. 
أتانـا الخفيـر ونادى أبي.. 
بأمر الإله !.. ولبى أبي.. 
وأبهجني أن يقـال الإله.. 
تنـازل حتى ليدعـو أبى !.. 
تبعت خطاه بخطو الأوز.. 
فخورًا أتيه من الكبرياء.. 
أليس كليم الإله أبي.. 
كموسى.. وإن لم يجئه الخفير.. 
وإن لم يكن مثـله بالنبي.. 
وما الفرق ؟.. لا فرق عند الصبي !.. 
وبينا أسير وألقى الصغار أقول “اسمعوا..
أبي يا عيـال دعـاه الإله” !.. 
وتنطـق أعينهم بالحسـد.. 
وقصر هنالك فوق العيون ذهبنـا إليه. 
يقولون.. في مأتم شـيدوه.. 
ومن دم آبائنا والجدود وأشلائهم.




(٢)


كان " لنجيب" فكر ورأي وإنتماء وميول وموقف.. حمل الموبقات الخمس في بقعتنا العربية التعيسة.. أن يكون لك فكر فأنت كائن متسائل في مجتمع يفرض الإجابة الصحيحة دائما.. الرأي مروق وشطط.. إنتماء؟.. هل من حقك أن تنتمي سوي للبطل والزعيم؟.. الميول من فعل الشيطان والموقف كالسير العكسي في إتجاه واحد.. يلعنك الجميع ويضبطوك متلبسا بالفعل المزري البغيض والحرم المشهود في مجتمع يقدس السير كالقطيع خلف الراعي الملوح بالعصا.. إلا أنه شفوق ينثر بعض الحبوب بين فينة وأخري ليطعم أبناؤه.. لا بأس من جزه أصوافهم...بل هم فداء له.. أضحية بلا أعياد..

يفرضون عليك الصمت.. يقهرونك بالخرس.. لا تحرك شفتيك سوي وأنت تنشد مع الجوقة.. وأنت تلوك الطعام.. لا تنبس بما يكرهون من القول.. ثم يتسائلون حيري.. لماذا يبدو العبوس على الوجوه؟.. أين ذهبت الإبتسامة؟.. الإبتسامة لا ترتسم على الشفاه المخيطة.. لقد أعتقلتم الأسارير..

 


“وهنا فى قلب مدينتنا ..
يتعلم كل غلام ..
ما معنى صمت الأفواه .. الأقلام ..
مامعنى أى كلام يخلو من أى كلام ..
مامعنى أن تخرس فى القلب «لماذا ؟» ..
أو «كيف ؟» و «أين ؟» و «لم لا ؟» ..
وجميع علامات الاستفهام ..
لا تبقى إلا الـ «مش معقول »..
أللامعقول ..
لاتبقى غير علامات تعجب ..
ورويداً يغدو العجب ذهول ..
ورويداً تنصب خيمات الصمت على المعقول ..
الصمت .. الصمت ..
ويحل على الغلمان ظلام الموت ..
والواحد بعد الأخر .. يسكت صوت ..
بعد الصوت ..”  



لكن " نجيب"  لم يصمت.. ظل ينطق بما يؤمن.. لابد أنه " شيوعي كافر"..يعاقر الخمر.. أصابه مسا من الجنون أو طائفا من الشيطان.. إنه يعارض السائد.. يلعنه.. يشير لخطله وهشاشته.. توقع بحدة ذكائه أن يسجن في أي لحظة.. لكنهم كانوا شياطين مردة.. في السجن يمكنه أن يحاور العقلاء.. يحاورهم.. يكتب..يبدع.. و الأمثلة كثيرة.. هو " مجنون" ألقوه في " المصحة".. الكلام جنون... الرأي جنون.. هناك يمكنهم أن يذهبوا بثنايا عقله.. يمحقوا الكلمات من بين خلاياه .. يطهروا تلافيفه المتقدة من حروف تنير الطريق وتدل على السبيل.. حارقة تقض المضاجع...

التعليقات (0)