- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
جمعة رمضان يكتب : من يفيق العقل العربي من الغيبوبة
جمعة رمضان يكتب : من يفيق العقل العربي من الغيبوبة
- 2 مايو 2021, 7:16:14 م
- 850
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سرداب الجبر .. جائحة الالف عام !
( متى يفيق العقل العربي من غيبوبته الكبرى ؟ )
شارع الشيخ الشعراوي – عبد السلام عارف سابقاً !
معلوم أن ثمة علاقة طيبة ربطت بين الزعيمين العربيين الراحلين، المصري جمال عبد الناصر ( ١٩١٨ - ١٩٧٠) والعراقي عبدالسلام عارف ( ١٩٢1 - ١٩٦٦ )، ومعلوم أيضاً انهما كانا من أبرز القادة العرب المؤمنين بفكرة القومية العربية ومن أشد الداعين والداعمين لها، ومن أبرز مظاهر التقدير بين القادة العرب في اوج ظاهرة المد القومي تبادُل إطلاق أسمائهم على الشوارع المهمة بالعواصم والمدن كلُ في دولته، ومن هنا نستطيع ان نتفهم الخلفية السياسية والتاريخية التي تفسر تسمية أحد أهم وأطول شوارع مدينة بني سويف جنوبي القاهرة ( حيث اعمل واعيش ) باسم الزعيم العراقي الراحل عبد السلام عارف .
لكن بماذا نفسر إقدام الادارة المحلية لمدينة بني سويف قبل أكثر من عقدين على رفع اسم عبد السلام عارف من على مدخلي الشارع ووضع اسم الشيخ محمد متولي الشعراوي بدلاً منه ؟..مالدافع وماهو المستجد ؟ قد يبدو الامر عاديًا ومحض تجديد ومسايرة لمعطيات عصرية ولا يعكس بالضرورة مغزى من اي نوع، غير أن اللافت ورغم انقضاء اكثر من عقدين على اطلاق اسم الشيخ الشعراوي على الشارع فلا يزال مواطنوا المدينة حتى الساعة يقطعون الشارع ذهاباً واياباً على مدار اليوم، يقضون حوائجهم ويستدلون على وجهتهم، ويحددون أماكن تواجدهم ويصفون العناوين للعابرين بدلالة واحداثيات عبد السلام عارف وليس الشعراوي !، اللهم ( يجتهد أحدهم أحياناً ويصحح لك السؤال ظناً منه بأن مقصدك هو مدرسة الشيخ الشعراوي الكائنة بنفس الشارع أو " مول الشعراوي " التجاري الكائن بحي مقبل الشهير ببني سويف مسقط راس الاعلامي الشهير مفيد فوزي) ! .
قد نتفهم تمسك الناس بالاسم القديم للشارع لدواع حياتية ومعيشية، أو تحت تأثير نوستالجيا إجتماعية ثقافية ترسخت عبر عقود منذ ستينيات القرن الماضي، بيد ان مبتغانا في الحقيقة هو الاجابة على السؤال الذي طرحناه آنفاً، مالدافع وماهو المستجد ؟..أو بالأحرى ما هي الخلفية والدلالات والتحولات والمعطيات السياسية والثقافية والاجتماعية التي طرأت على المشهد العام للمجتمع والدولة، وما تجانس معها بالضرورة من اجراءات ادارية وثقافية ودعائية تتعلق بالوعي، وتستهدف إعادة تشكيل هوية المجتمع في شتى تفاصيله الحياتية بما فيها أسماء الشوارع كي تتسق وتنسجم والأوضاع والتوجهات الجديدة ؟.
واقع الحال أن مسار تلك التحولات أخذ بالتشكل في سبعينيات القرن الماضي قبل أن يترسخ لا حقًا فيما تلى من عقود، آخذاً وجهته يميناً على صعيد الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع، دينياً ماضوياً على صعيد الهوية والمرجعية ( فيما عرف بالصحوة او الاحياء )، يرافقه جنوح باذخ للتقارب مع ثقافة أنظمة الخليج الريعية بتوجهها الديني المتشدد وما يستدعيه ذلك التوجه من ادوات الترويض والتاثير في وعي المجتمع لتقبل تلك التوجهات اليمينية المحافظة عبر تعزيز الشواهد الدينية وتكثيف جرعتها في الميديا خاصة المرئي منها الذي يستهوي البسطاء، ناهيك عن ميل السلطة البراجماتي للمهادنة مع فصائل الاسلام السياسي بدرجاتها وإبرام صفقات السياسة الظاهر منها والباطن مع تلك الفصائل الرجعية بجموحها العقائدي المنغلق ومنهجها الاقصائي المفارق للعقل وحرية الاختيار.
بيان على المعلم ( المرشد ) !
في مشهد له دلالاته ذات الصلة أتذكر جيدأ مشهداً رأيته بأم عيني للدكتور محمد بديع المرشد الأخير لجماعة الأخوان ( محكوم بالسجن على ذمة قضايا إرهابية ) وهو يخطب في سرادق منصوب أمام البناية التي أقطنها في مدينة بني سويف شرق النيل وسط حشد من انصاره، احتفالاً بحصول حزب الاخوان على الاكثرية البرلمانية في انتخابات 2012 باعتباره نصر من الله وفتح مبين، مستحثًا أنصاره واهل مدينتي مبينًا لهم اهمية تبديل أسماء الشوارع الحالية بأسماء الصحابة والتابعين وأبطال الجهاد والصحوة السابقين واللاحقين ( بحسبه ) لتتسق وهوية المجتمع الجديدة، أو بالأحرى لتنسجم مع توجهات وسعي الاخوان لاعادة تشكيل وعي المجتمع وفق الهوية الاخوانية الجديدة، مقترحًا أسماء أبو هريرة وابن تيمية وابو عبيدة والقعقاع والبنا والهضيبي والشيخ كشك وغيرهم ( بسمته الكريم تطوع ابني الأصغر بإعارتهم اكواب النيش الثمينة منتشيًا بصخب الاحتفال والعصائر التي وزعت بكثافة على الحاضرين والمارين، دون أن يبحث عقله الغض في أسباب غياب صديقه المسيحي القاطن بالدور الاول بنفس البناية عن اجواء الاحتفال !) .
" يارب سدد .. يارب جول ".. !
يارب سدد !
قبل أكثر من عامين تداول نشطاء مواقع التواصل مقطع فيديو منسوب لتنظيم الدولة الارهابي يصور لحظة استهداف مروحية وزيري الدفاع والداخلية المصريين السابقين الرابضة في مطار العريش بقذيفة موجهة، وقد مر الحادث كغيره مصحوباً بالتعليقات والتحليلات المعتادة كيفما اتفق، دون الانتباه لزاوية أخرى أمكن الاطلال منها على الحادث بخلاف زاوية الجدل والتحليلات السياسية والأمنية التي صاحبته آنذاك، فقد استرعى انتباهي وأنا أتابع الفيديوعبارة " يارب سدد ..يارب سدد " التي ظل يرددها أحد أفراد التنظيم الإرهابي لحظة ظهور وهج القذيفة المتجهة صوب الطائرة الرابضة قبل ان تصيبها إصابة مباشرة أعقبها تكبيرات وتهليلات ( وربما سجدات لم تظهرها الكاميرا ) ! .
( ب ) يارب جول !
عبارة اعتاد سماعها جمهور الكرة المصرية والعربية بصوت المعلق الرياضي مدحت شلبي في لقاءات المنتخب المصري ضد المنتخبات الاخرى النظيره، قبل ان يخر جميع اللاعبين المسلمين سجداً على أرض الملعب عقب احراز الهدف، لافرق هنا إن كان الفريق المنافس عربياً مسلماً أو أجنبياً على غير دين الاسلام .
واللافت هنا وهناك وبرغم تباين الوازع والغرض والبعد الاخلاقي بين الحدثين قطعاً، هو ذلك الاقحام الايماني اليقيني في العبارتين ( يارب سدد – يارب جول ) بمدلولهما الجبري الناف لإرادة الفاعل، حيث الفعلين منسوبين الى الله تعالى ( سبحانه عمّ يزعمون )- يقين يُنزل الانسان منزلة الجماد نافيًا عنه المسئولية والقدرة والارادة، ان هو الا ريشة في مهب الريح تتلاعب به المقادير كيفما شاءت، مسيراً لاشأن له في خلق أفعاله المقدرة سلفاً ( بحسب عقيدة الاشاعرة )، ولا استطاعة له على التعديل او التأثير فيها، يستوي في ذلك الساجد لهدف احرزه او لهدف دمره ، .. فـكلاهما مع الفارق الاخلاقي يخضعان لذات الموروثات الثقافية وذات الرؤية والتصور لماهية العالم حولهما .
بالنظر الى النتائج نعتقد أننا بازاء قضية جوهرية لا تتعلق بـ ملامسة أعتاب النهضة - فقد فات الاوان- بل فقط بممارسة اللحاق ان استطعنا انجاز ثورة العقل بحسب تعبير المفكر الراحل سمير امين [1].. وبقياس آخر فإن ثمة إشكالية وربط لم ينتبه اليه الفاعل في الحالتين يجسده على ارض الواقع اتجاهين متعارضين كل التعارض ولاسبيل للجمع بينهما في مجال العقل والحداثة ..أولهما الحصاد الجبري لـ عبارتي " يارب سدد - يارب جون " ، وثانيهما الحصاد العقلي المتعلق بحرية التفكير ومنطق التسبيب المتصل بالحقائق الكونية متمثلا بقوانين الحركة لـ نيوتن على سبيل المثال لا الحصر، فوفق قوانين الحركة لنيوتن فإن " جميع الاجسام تخضع في حركتها وسكونها لمحصلة قوى معروفة في الطبيعة تحدد مسارها واتجاهها ، تكسبها طاقتها او تحد منها " [2].. نشير هنا ومن حيث الربط الى منهج العقل والاختيار الذي رتب لـ ثورة في العلم والانجاز الحضاري والقيم الانسانية وذهب بالبشرية الى ذرى التمكن من سبر أغوار الطبيعة والتغلب على كثير من معضلاتها في مجال الحركة والجاذبية، ربط على أساسه حُسبت حسابات وصممت معدات وادوات، احداها ويالا المفارقة تلك المعدة وذلك المقذوف وكذا اجهزة التوجيه التي استخدمها الارهابيون وهم يسددون ضربتهم الاثمة الى طائرة الوزيرين، وكذلك هاتيك الكاميرات ومعدات التكنولوجيا التي نقلت احداث المباراة صوتاً وصورة اليك وانت جالس في غرفة بيتك على بعد آلاف الاميال .
دماء على ناصية التاريخ .. الحصاد الجبري :
الشاهد في الأمر أن مرآة الحاضر بـ ( بنّاها، وقطبها، ومودوديها، وكشكها، وبديعها، وشعراويها، وبغداديها، وقاعدتها، وداعشها، ونصرتها، وإخوانها )عكست حصاد تلك المجابهة التاريخية المفصلية، مجابهة الثلاثة قرون الاسلامية الاولى..حصاد الهزيمة المبكرة لنواة العقل النقدي وتكريس العقل الاشعري الجبري وروافده وتجلياته في ساحات ومنصات الجهاد والحاكمية والولاء والبراء والسمع والطاعة والاجماع والفرق الناجية..حصاد تلقفته السلطة على طريق طنجة جاكرتا ( بحسب تعبير يحيى زكريا مذيع الميادين ) كيفما اتفق في تمظهرها الرجعي الاستبدادي وممارستها الوحشية عبر سيرورتها الزمنية الممتدة منذ أن أشار سيد الخطباء الى سيفه متوعدأ القاعدين عن بيعة يزيد بن معاوية في حضرة أبيه منتصف القرن الاول الهجري وحتى عصرنا الراهن المبتلى بفيروس الجبر؛ عصرنا الراهن الذي اعتلاه حياً وميتاً أشهر رجال الجبرية، وأعتى أقطابها، الكاريزمي المفوه الشيخ محمد متولي الشعراوي، يرى د . عبد الرحمن الشيخ في مقدمة كتابه القضاء والقدر في الاسلام أن كل ماصدر عنه ( = الشعراوي ) من ( فتوح ربانية ) تفسيراً لمعاني الرزق والاجل والقضاء والقدر والخير والشر والمسؤلية والاختيار وغيرها من المسائل الخلافية لم يكن سوى رجع صدى لمقولات الاشعري فيقول : " فالشيخ الشعراوي يردد في سلسلة كتب واسعة الانتشار عن ( الرزق ) و ( الخير والشر ) و ( القضاء والقدر ) ...الخ ماقاله الاشعري المتوفي ( 324 هـ ) " . [3]
ويشهد التاريخ في كثير من محطاته بأنه حصاد أثخن فيه الاشاعرة ضد مخالفيهم في كل مناسبة أطل فيها العقل على الواقع المكبل بالخرافة .. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أُلقي ابن المقفع في آتون ملتهب وقطعت أوصاله لقوله أن الانسان يشرّع لذاته من خلال العقل، ولأنه طالب بتوحيد القوانين لمنع استعمال تعددها في ظلم الفقراء، وكذا الحلاج لاعتقاده الصوفي الحلولي، ونُكل بـ ابن رشد واحرقت كتبه، وشوه الافغاني ومحمد عبده لتبنيهما مشروعاً نهضوياً تنويرياً حداثياً، وجرد علي عبد الرازق من عالميته لموقفه المتحفظ تجاه نظام الخلافة، وطورد طه حسين بسبب تناوله التاريخي النقدي للشعر الجاهلي وللتراث ككل، وقتل فرج فودة لمواقفه التنويرية التسامحية، وطعن نجيب محفوظ لابداعاته الادبية، وهُجّر نصر ابو زيد وأخلي عن زوجته لتحليله النقدي المتعمق للنص الديني، واغتيل ناهض حتر في الاردن واعدم محمود محمد طه في السودان لذات الاسباب المتعلقة بمعاداة ومحاصرة العقل النقدي .
كذلك وفي مجال فلسفة الحكم ومفهوم السلطة التقليدي يظل الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي أسيراً لمقولات الجبر بشتى تجلياته، فاعلاً في حصار العقل، مقصياً الشعوب عن المشاركة الحقيقية في تقرير مصيرها والاختيار الحر لولاة الامر ومن يديرون الشأن العام مكرساً للاستبداد ومعادياً للحرية والديمقراطية عبر خطاب متملق فاضح لا ينفك عن تقديس الحاكم وإنزاله منازل الحكمة التي لايأتيها الباطل، يجرّمون حق الشعوب الاصيل في مجابهة المظالم بكل السبل المشروعة والممكنة بما فيها الثورة - فـ بحسبهم يكون النظام الاجتماعي انعكاساً لتدبير إلهي وبالتالي فإن كافة ما يتعلق بالتغيير الإجتماعي هو كفر وانتهاك للحرمات، والتغيير في نظرهم من عمل الشيطان لانه تعد على الارادة الالهية - لا فرق عندهم بين عروش ملكية وقائد الضرورة المهيب الركن، حيث لا يجوز الخروج عليهم شرعاً حتى وإن جُلد ظهرك أو أخُذ مالك .
الغيبة الكبرى وأفول شمس المعتزلة
من المحزن حقاً خسارتنا نواة عقل نقدي حقيقي كاد أن يتشكل وينهض بالشرق مع مقولات المعتزلة ( فرقة كلامية غلبت عليها النزعة العقلية اوائل القرن الثاني الهجري )، سابقين بذلك على عصور النهضة في الغرب بـ قرون زمنية طويلة لولا الردة التي لحقت بالعقل المسلم مع صعود الاشاعرة وباقي الفرق الجبرية وما اطلق عليه اعتسافاً مذهب أهل السنة والجماعة، وتمكنهم من الدولة والمجتمع وفرض رؤيتهم الفقهية المناقضة للعقل والاختيار الحر على الخاصة والعامة طوال القرون التي اعقبت غياب شمس المعتزلة وحتى وقتنا الراهن .
لقد قاومت تلك النواة العقلية الصلبة التفكيراللاعقلي ببطولة نادرة قلما تتكرر بمعايير زمانها وزماننا ، وبلغ انبهار الباحثين والمستشرقين الاوربيين بالفكر المعتزلي حد اعتباره نواة عقلية أصيلة سبقت شعارات الثورة الفرنسية ( حرية – اخاء – مساواة ) وكذلك الفكر الليبرالي الاوروبي جميعه بقرون، ولو قدر لافكارهم الاستمرارية لتغير وجه الشرق والغرب معاً " ومما لا شك فيه أنه كانت هناك احلام ضاعت سدى أن يسير الاسلام والمسيحية وقد تأبط كل منهما ذراع الاخر كاخوة حقيقيين، اذا ما اقتفى الاسلام – فقط – أثر المعتزلة، أو بتعبير آخر اذا أصبح الاسلام معتزلي النزعة، او اذا سار المسلمون على نهج المعتزلة ولم يحيدوا عن طرقهم الى طريق الاشعرية، الذين يفترض انهم يشكلون رد فعل مواجه للفكر المعتزلي، ولم يتحقق شئ كثير في مال المؤاخاة بين المسيحية والاسلام لان الغرب نفسه سرعان ما ادار ظهره للفكر التحرري الليبرالي الى حد كبير " !
فيما يصل بنا العلامة اللبناني حسين مروة الى مستوى لم يصل اليه اشد المتحمسين لهم من عرب ومستشرقين بمنحه إياهم الجائزة الكبرى المستحقة لهؤلاء المتكلمين الافذاذ - أو بالاحرى الفلاسفة – وما أجدرهم بهذا التوصيف المنصف كما خلُص مروة في سفره الاشهر " النزعات المادية " اذ يقول :
" ان الفارق بين علم الكلام المعتزلي وبين الفلسفة التي انفصلت عنه واستقلت بنفسها ليس هو بالفارق القاطع الذي يقيم بينهما حدودا على شاكلة الحدود بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية مثلاً ، فان علم الكلام كما بناه المعتزلة، لم يكن شيئاً آخر غير الفلسفة اتخذت من العقائد الاسلامية شكلها المعين، لأنه كان الشكل الاكثر ملائمة للظروف الاجتماعية التي كانت تتفاعل مع هذه العقائد وتطرح قضايا المجتمع يومئذ على اساسها " ( حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية والعربية، دار الفارابي ، بيروت 1979 ، جـ 2، ص 29 )
بتعبير آخر اكثر مباشرة يضع مروة النقاط فوق حروفه الذهبية فيقول " ان معنى استقلال الفلسفة عن علم الكلام في تلك المرحلة من تاريخ تطور المجتمع العربي - الاسلامي ، هو انتقالها ( أي الفلسفة ) من الموقع الذي كانت تحل فيه مشكلة المعرفة - مثلاً - حلاً عقلياً لا هوتياً مزدوجاً الى موقع تملك فيه الحق بأن تحل فيه مثل هذه المشكلة حلاً فلسفياً محضاً منفصلاً عن سيطرة النظرة اللاهوتية التي كانت من مستلزمات علم الكلام " ( المرجع السابق ص 30 )
واذ لايتسع المقام لـ تعداد مآثر المعتزلة الغزيرة وتراثهم الثمين في مجال تحقيق العقل والارادة واثبات الحرية والاختيار، لكن يكفي ان نورد هاتين المقولتين الثريتين بصياغتهما المحكمة عقلاً ومنطقاً واللتين تلخصان الى حد بعيد جوهر مذهبهم : " ان العدل الالهي هو مايقتضيه العقل من الحكمة، وهو اصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة " وأن " الانسان قادر، خالق لافعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً " [8] وهم هنا يرون أن الانسان حراً بالكلية، وحريته تجعله مسئولاً عن فعله .. وقد لا نبالغ حين نقول أن تلك المقولة اختزنت في ثناياها جنيناً عقلياً جدلياً فلسفياً اجتماعيا تنويريا استولده فولتير وروسو وكانط وجوته وهيجل وماركس من بعدهم بقرون عديدة، ولعله كذلك ابن رشد حين جاء بعدهم بزمن لم يبرح مغزاها العقلي العميق حين قال : " أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات، فقول سفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك، ومَن ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أن كل فعل لا بد له من فاعل "
خاتمة - تثاقف فلاسفة أم فلاسفة تثاقف !
لا يفوتنا في مقام الجبر ايضاً الا أن نضع علامة استفهام كبرى حول ثنائية ( ابن تيمية - ابن رشد ) عند الدكتور مراد وهبه، تلك الثنائية التأصيلية التأسيسية بحسبه، واللاحقة زمنياً على تجربة المعتزلة الاكثر صخباً وجرأة وثراء وعمق وتقدمية بمعايير وسياقات عصرهم الثقافية والاجتماعية .. ربما .. أقول ربما لأن المعتزلة كجماعة ( تنظيم - تيار ) بانكارهم لمبدأ الجبر ودفاعهم المستميت عن مبدأ الاختيار الحر سعوا لتطبيق مشروعهم العقلاني ( المدني ) فانخرطوا فعلياً في ممارسة السلطة وادماج مشروعهم الفكري والسياسي في الدولة مع خلافة المأمون واعتناقه مذهبهم، في حين ان ابن تيمية الثيوقراطي وابن رشد العقلاني تواجها فكرياً وفقهياً على هامش السلطة والدولة سواء من على يمينها او يسارها دون تيار منظم او مشروع سياسي اجتماعي واضح المعالم والرجل كما يبدو لا يحبذ الخوض فيما يؤرق السلطة ويقوض استقرار الدولة، لذا أشفق عليه ( وهبه ) من تناقضه ، فوفقا لتصريحاته المتمسحه في أردية السلطة في غير مناسبة يبدو وهبه جبرياً أشعرياً واقرب لابن تيمية منه لابن رشد متماهياً مع القاعدة الثيوقراطية الملزمة لطاعة الحاكم والتسويق له، فهو مع القائد الضرورة ، أي قائد حتى " وان جلد ظهرك واخذ مالك " !