- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
جلبير الاشقر يكتب: حلمٌ سوداني
جلبير الاشقر يكتب: حلمٌ سوداني
- 26 أبريل 2023, 2:35:41 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
إزاء الكابوس الذي تعيشه السودان في هذه الأيام، يساورنا حلمٌ ـ هذا الحلم هو أن يفعل اقتتال العسكر في بلد شهد تاريخه تناوباً بين الوثبات الثورية والانقلابات العسكرية، وكانت الثانية تقضي على إنجازات الأولى بانتظام، أن يفعل الاقتتال بين القوات المسلّحة النظامية بقيادة عبد الفتّاح البرهان و«قوات الدعم السريع» بزعامة محمد حمدان دقلو، مفعول الحروب في بعض الثورات الكبرى التي شهدها العصر الحديث. فقد تمّت بعض الانتفاضات الثورية الكبرى في التاريخ الحديث على خلفية هزيمة للقوات المسلّحة التابعة لبلدها: من كومونة باريس في عام 1871 إلى الثورة الروسية الأولى في عام 1905 والثانية في عام 1917 والثورة الألمانية في عام 1918 وغيرها.
أما سبب ذلك فجليّ حيث إن المعضلة الأعظم التي تواجه الثورات في البلدان غير الديمقراطية تتمثّل في القوات المسلّحة التي ما دام النظام القائم متحكّماً بها، فهو يستطيع استخدامها في قمع الحركة الشعبية ولو بإراقة الدماء على نطاق واسع. وقد لخّص أحد أبرز قادة الثورة الروسية مهمّة القوى الثورية بأنها تقوم على كسب «أفئدة وعقول» الجنود وضباط الصفّ والرُتَب الدنيا، وهو الأمر الذي سمح للثورة بالانتصار في عام 1917. والحقيقة أن كسب الأفئدة والعقول أسهل بكثير عندما يكون العسكر ممتعضين بسبب هزيمة ينسبون مسؤوليتها إلى قادتهم وأرباب النظام القائم. هذا وتقدّم منطقتنا العربية نموذجاً عن ذلك ولو بصورة غير ثورية تماماً، في كون الانقلاب الذي قضى على الحكم الملكي في مصر عام 1952 إنما كان نتيجة مؤجّلة لهزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين.
فإن تلاقي الهزيمة بتأثيرها على المعنويات مع وجود تنظيم ثوري قادر على مدّ نفوذه في صفوف القوات المسلّحة، هذا التلاقي إنما يوفّر أفضل مدخل إلى الانتصار الثوري، سواء أكان على طريقة ثورية من خلال انتفاضة جماهيرية وحزب مدني ثوري، على غرار ثورة 1917 في روسيا، أم كان بالطريقة الانقلابية من خلال تنظيم ثوري سرّي داخل القوات المسلّحة ذاتها على غرار تنظيم «الضباط الأحرار» الذي قاد الإطاحة بنظام الملك فاروق في مصر. أما إخفاقات الموجتين الثوريتين اللتين عمّتا المنطقة العربية في عامي 2011 و2019، فتعود في المقام الأول إلى عجز الثورات الشعبية عن كسب القسم الأعظم من القوات المسلّحة إلى قضيتها وهو عجز مرتبط بتقاعس الحركة الثورية عن مدّ نفوذها داخل القوات المسلّحة، أو عجزها إن حاولت.
عجز الثورات الشعبية عن كسب القسم الأعظم من القوات المسلّحة إلى قضيتها وهو عجز مرتبط بتقاعس الحركة الثورية عن مدّ نفوذها داخل القوات المسلّحة، أو عجزها إن حاولت
فقد تداركت القيادات العسكرية في كل من مصر والجزائر والسودان خطر تعاطف قواعدها مع الثورات الشعبية العارمة ضد حكّام فقدوا مشروعيتهم بصورة كاملة، فبادرت بنفسها إلى خلع هؤلاء الحكام (حسني مبارك وعبد العزيز بوتفليقة وعمر البشير) بينما عجزت الحركة الثورية عن كسب قاعدة القوات المسلّحة إلى قضية إنهاء حكم العسكر بأسره. أما الاستثناء الليبي، وهي الحالة الوحيدة التي تمكّنت انتفاضة شعبية فيها من إسقاط نظام سياسي برمّته خلال «الربيع العربي» فيعود سببه إلى أن التدخّل العسكري الخارجي ساهم في إقناع قسم كبير من القوات المسلّحة بالارتداد عن نظام القذّافي والالتحاق بالانتفاضة.
أين حلمنا السوداني من كل ما سبق؟ لقد كان السودان حتى الآن مسرحاً للتجربة الثورية الأكثر تقدماً بين التي شهدتها المنطقة العربية بعد عام 2010. فإن الحراك الشعبي السوداني بجناحه الراديكالي، الذي تشكّل «لجان المقاومة» رأس حربته، بلغ مستوىً من القدرة على التعبئة والصمود، فاقت كل ما شهدته الساحات الأخرى. وهذا ما حال دون أن يتمكن العسكر من إحباط الحراك الشعبي السوداني، لخشيتهم من رفض قواعد القوات المسلّحة الانصياع لأمر تنفيذ مجزرة عظمى، وهو الأمر الوحيد الذي كان من شأنه أن يقضي على الحراك السوداني المتميّز بتفوّق أشكاله التنظيمية وأفقية اتخاذ القرارات فيه التي تجعل من إحباطه بالأساليب القمعية العادية أمراً مستعصياً. بيد أن الحركة الثورية السودانية على الرغم من تقدّم وعيها وأشكالها التنظيمية، لم تكن حائزة على مستوىً من التنظيم السرّي يخوّلها مدّ خيوطها داخل القوات المسلّحة، وهو أمر بالغ الصعوبة والخطورة. هذا العجز هو ما عوّضت عنه حالات الهزائم العسكرية التي وصفنا.
فهل يكون تقاتل ركني القوات المسلّحة السودانية الذي من شأنه أن يضعفهما ويستنزفهما، هل يكون تقاتلهما سبباً لامتعاض القواعد ضد القيادات، في القوات النظامية على الأخص، ومدخلاً إلى تسعير النقمة الشعبية ضد الحكم العسكري إلى حدّ يمكّن الحركة الثورية من قيادة الجماهير إلى الإطاحة بحكم العسكر وإحلال الديمقراطية المنشودة؟ إنه حلمٌ بالتأكيد، لكنّ الحالة الراهنة هي الأقرب إلى ذلك «التماس بين الحلم والحياة» الذي تحدّث عنه أحد الفلاسفة الراديكاليين الروس وقد استشهد به قائد آخر من أبرز قادة الثورة الروسية في تبرير قوله الشهير «ينبغي أن نحلم» في مطلع القرن العشرين. فإن الأحداث المأساوية الجارية في السودان قد عزّزت من دور لجان المقاومة في تأطير الضروريات على صعيد الأحياء، بحيث إن قدرتها على إنجاز ما تصبو إليه، على خلفية تصاعد النقمة الشعبية ضد القيادات العسكرية وتضعضع القوى المسلّحة الناجم عن اقتتالها، قد تبلغ ذروتها.
هذا الحلم السوداني من شأنه لو تحقق أن يدشّن مرحلة مدّ جديدة في السيرورة الثورية طويلة الأمد التي انطلقت من تونس قبل اثنتي عشرة سنة ونيّف. أما لو أدّى اقتتال العسكر إلى وأد الحراك الشعبي السوداني من خلال تدهور الأوضاع نحو حرب أهلية طويلة الأجل أو فرض أحد الطرفين المتصارعين دكتاتورية عسكرية إجرامية على البلاد، فنكون قد شهدنا، بعد عودة الدكتاتورية إلى تونس، استكمال الجزر ونهاية آخر ما تبقى مما حققته الموجتان الثوريتان اللتان شهدتهما المنطقة العربية حتى الآن. عندئذ، يبقى على الجيل الثوري الصاعد أن يستنبط على أكمل وجه دروس الموجتين وإخفاقاتهما ليستعدّ للموجة الجديدة القادمة لا محال، وفي أجل ليس بالبعيد نظراً لتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرّ في منطقتنا.