- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
تجليات اللاشعور الجمعي في ديوان: أوراق الجنوب والشمال
تجليات اللاشعور الجمعي في ديوان: أوراق الجنوب والشمال
- 8 أبريل 2021, 11:25:35 م
- 1116
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
على افتراض أن النفس هى أم كل عمل أدبي، والوعاء الذي يحتويه؛ فــاللاشعور الجمعي في علاقته بالإبداع هو الذي يحدد نمط أفعال وردود أفعال النفس، لأن الصور المنبثقة من قريحة الشاعر الغارق في الأحداث نابعة في الأساس من تراث تشترك فيه الإنسانية، والشاعر مصهور في ثنائية(الإنساني/ الشخصي) و(اللاشخصي/ الإنساني)، من خلال هذا المدخل يمكننا الإعتقاد مع "فرويد" بأن دائرة المعاناة الشخصية للشاعر تمنحنا المفتاح الأصلح للنفاذ إلى قصائده(1)، ويبدأ تناولنا لديوان: "أوراق الجنوب والشمال" للشاعر الجنوبي "محمود سباق"، من خلال علاقة ذات الشاعر بذاتها كـــ(فعل غريزي وسيط)، وعلاقة ذات الشاعر بالعالم الخارجي التي (تعكس الواقع عن طريق إدراكها للصور والمفاهيم) معتمدًا على(الذاكرة الذاتية) التي لم تكتف بتصوير رؤيته لذاته وللآخر، وإنما تجاوزتها للتعبير عن قضايا الإنسان الكبرى من المهمشين والعمال والفقراء، ليدرك المتلقي أن جوهر القهر والفقر والظلم واحد، وأن المقهورين جميعًا متشابهون.
أولًا: فينومينولوجيا الذاكرة وعلاقتها بمخيلة الشاعر
على افتراض أن تصورات الشاعر الكونية محكومة بإطار(الذاكرة)، وتدور حول (التساؤلات)، نجد أن موضوع الذاكرة هو(الأنا) بصيغة المتكلم، بالتالي مفهوم(الذاكرة الجمعية) لايمكن أن يكون سوى مفهوم تماثلي"(2)، ولكي نتمكن من كشف ذلك التداخل بين(ذاكرة الأنا) و(الذاكرة الجمعية) كان علينا النظر إلى الذكريات الأقرب إلى(الإنفعالات)، كموضوعات تتبادر إلى ذهن الشاعر لنصبح في مواجهة الجانب (المعرفي) للذاكرة، والنظر إلى فعل(التذكر) كآلية يستخدمها الشاعر في عملية(الإسترجاع)، هذا من الناحية اللغوية التداولية، أما عن علاقة مخيلة الشاعر بذاكرته؛ فإثارة(الخيال) تعني إثارة(التذكر) على سبيل تداعي المعاني، فيقول"سوف يرفعنا الخيال إلى مقام آخر/ وإلى بدايات الكلام عن الحنين لأول الأشياء"، تذكر الماضي يعتبر هنا بمثابة(إعتراف) لاينفصل عن الزمان، وعلى هذا الأساس فالزمان هو"النسق الوسيط المتجانس في الوقت نفسه مع المحسوس الذي يكون فيه أسلوب الشاعر أميل إلى التبعثر والتمدد، وهذا مانستشفه في قول"أوغسطين": خطأ أن نقول بوجود ثلاثة أزمنة، ماضي وحاضر ومستقبل، وقد يكون الأصح أن نقول في الكون أزمنة ثلاثة هى حاضر الماضي(الذاكرة)، وحاضر الحاضر(الرؤية المباشرة)، وحاضر المستقبل(الترقب)(3)
(الذاكرة) في الديوان محل القراءة، لاتعتمد على(التوالي الزمني) وإنما هى محكومة بقوانين(التراكم)، فيقول: "والليل كان على سجيته حنونًا مثلنا/ قمر يغيب وآخر يسعى يحيينا ويشرب شاينا/ من قبل أن يجد الزمان مكانه/ من قبل أن كان الوجود وجودنا"
و(التداعي الحر)، حين يقول: "لو لم يضع يده على الفستان/ مااشتعلت حرائق/ ماتشردت الخيول/ وما نما الوحش الصغير/ وماتفتحت الحدائق/ ماتغير طعم ايامي/ وما سال الحليب على المحارم"، و(التشبيه)، حين يقول: "النيل يركض كالغزالة/ والشمس عين الله تحرسنا" ومنها يقوم العالم الخيالي الذي يتسم بزمانه الخاص واختزال الأحداث أو تكثيفها، لتصبح(الذكريات) بمثابة عناصر جمالية تحمل معاني الشوق والفقد والحنين، ولذاكرة(التصوف) موقعها المميز في قصائد لديوان حين يقول الشاعر"وذهابنا لسمائنا الأولى سيفقدنا المكان" لأنها تعتبر هروبًا للداخل يزدهر عندما يتأزم الواقع
ثانيًا: الذات المدركة وقراءة العالم حواسيًا
على افتراض أن النفس الإنسانية تصل إلى المعرفة عن طريق الحواس(4)؛ فلإحساس الشاعر هُنا أهمية بالغة في الإتصال بالعالم الخارجي وبذلك يعتبر (الإحساس) المظهر الأول لعملية انعكاس(الواقع الخارجي) في(الذات العارفة) فــ"المحسوس الأول هو الذي ارتسم في آلة الحس"(5)، والعمليات المعرفية الحسية تحددت في شكل تأثير وتأثر وتفاعل بين(الذات) و(الموضوع)، ولأن علاقة الذات بالعالم الخارجي تتوقف على حالة الشوق الفعال لمعرفة الأشياء واستقبال كيفياتها التي تؤثر في الحواس(6)؛ كانت(المعرفة الحسية) شرطًا من شروط ذلك التفاعل، و(الحواس) في المعجم اللغوي ومشتقاتها تفيد معاني(الإدراك)، و(الوعي)، و(المعرفة)؛ فالحواس جمع حاسة وهى القوة التي ندرك بها الأعراض الحسية من قولهم: أحسست أى علمت بالشىء(7)؛ ولأن(الإحساس) وجدان الشىء بالحاسة(8)؛ فقد توسع البعض في دلالة(الحواس) فجعل من ضمنها(الإحساس النفسي) نظرًا لوجود حواس ظاهرة وأخرى باطنة، فإن كان(الإحساس بالحس الظاهر) فهو المشاهدة، وإن كان(بالحس الباطن) فهو الوجدان، فيقول" ووجداني المعبأ والحواس الخارجية تنتمي للجسد، والداخلية تنتمي للنفس لأن جواهر الأشياء تقوم على ثنائية المادي والمعنوي(9)، ومن منظور(تداولية الحواس)، نجد أن لغة(الحواس) هى لغة(الإيحاء) لأنها لاتكتفي بوصف ماتراه، بل ترتبط(بالإسقاطات الداخلية) على العالم و(الذاكرة) و(الخيال)، الشاعر من خلال(الحواس) برع في المزاوجة بين(الوصف) و(التصوير)؛ فقام بتفجير العواطف في حال ارتباط(الحسي باللغوي)، فيقول"بهياج عمال المناجم حين يسقط بعضهم إثر انهيار الحامل الخشبي فوق رؤوسهم وكأنه أمر طبيعي" وتكثيفها في حال تحول(الموضوعات) إلى(علامات دالة)، فيقول"مايحدث الآن أعمق مما يظن النهار/ وأبسط من دهشة الله حين نغني" معتمدًا في خطابه على عنصر بصري مكاني بداية من العنوان(الجنوب والشمال)، وهو عنصر يمنح المتلقي مفاتيح التأويل، القائم على وحدات تقابلية من خلال التركيز على البعد الواقعي للعالم الخارجي، والمفارقات الصاخبة بين الباطن والظاهر وبين الحاضر والماضي، رصدها الشاعر في شكل لوحات برؤية مغرقة في الذاتية، وصور(بصرية سينمائية) اعتمدت على الإضاءة والتركيز على حركية الشخصيات، في قوله"كان شعب كامل ينساب في الميدان"، وألوان المشاهد"وكانت الحرية البيضاء مثل قلوبهم وهتافهم"
كذلك(المدركات السمعية) لها علاقة بالتوتر والهدوء في قصائد الديوان فيقول"وفي الليل يطلق كل النجوم الحبيسة في البهو/ مثل دجاج يقأقىء في باحة البيت"، السمع هنا يعد وسيلة لفهم الزمن في علاقته بالوجود الخارجي لأن الأصوات تموضع الزمن وتُشيئه، على اعتبار أن الزمن بدون صوت لا يمكن أن يكون موضوعًا للإدراك الحسي.
ازدحمت قصائد الديوان محل القراءة بتوظيف الحواس أيضًا في الحوار الداخلي للشخصيات، في قوله"وجدتي كانت تقول: إذا أردت الصيد فاكتسب الفراسة من طيور الماء وانس الآن هيكلك الطري، وكن رؤوفا بالنساء فهن من غنين في ليل قديم"، ولأن البصر حاسة السطح الخارجي والسمع يتخذ من الأصوات موضوعاته فإن هناك تصورًا حسيًا متحركًا ينطبع في الذات، فيقول"لكنا سنسرع في اصطياد النار قبل تصلب الأبصار بالزمن الجديد" ،الخيال، والذاكرة، والتصور، والتمييز تعتبر حواس داخلية(10) استخدمها الشاعر من أجل إعادة بناء وترتيب الواقع
ولأن(اللمس) أول الحواس إذ له صفة الإمتداد ويحمل ميزة إنفعالية لا تتواجد في الحواس الأخرى، فيقول"مفتوحة كل الدروب على منازلنا/ ومشتاق إلى كف الأحبة بابنا"، مع رصد الشاعر للتعارض بين الأماكن التي تطغى فيها القيم المادية والتي ازدهر فيها الصوت البشري وغطى على صوت الآلات، فيقول"بعد دقائق/ سوف يغني للعمال/ وسوف يقوي عزيمة أضعفهم/ وسيحمل قصعته ويقود السرب على السقالة"، فالجنوب والشمال أماكن حقيقية عبر عنها الشاعر وهو منحاز للصور الحسية، "هنا الجنوب/ وفي الجنوب حقولنا/ وجهي ووجه حبيبتي/ وقصيدتي الأولى/ في الجنوب أبي وعزلته وقسوته" ثم ينتقل إلى الشمال قائلًا"أنا الشمالي ان بحر اسكندرية/ أول المدن التي انكسرت على شطآنها أحزاننا"
خاتمة:
التعبير عن هموم الآخر ومعاناته من خلال الوعى الباطن كان المرتكز في ديوان: أوراق الجنوب والشمال، وكان(التداعي الحر) في عرض صور الذاكرة الحسية التي ترصد مشاهد الإنتقال من مكان إلى مكان هو السبيل لإكتشاف العالم عبر الحواس ذلك أن(المكان) هو المحرض الأساسي للحواس من أجل إعادة إنتاج الصور التي تم استرجاعها من(الذاكرة الإشراقية) التي مكنت روح الشاعر من استرجاع الماضي والحلول فيه خياليًا(11)، ولأن القصائد كتبت على أنها تحدث الآن شاع استخدام(الزمن المضارع) معبرًا عن المضامين النفسية المترسبة خلف(الذاكرة) في(اللاشعور)،فيقول"يهش/ نسكن/ نهب/ نأتي/ نسكب/ نمضي/ يبني/ يركض/ يحكي/ تسقي/ يصعدون/ يتذوقون/ يزفون/ يودعون/ يؤكدون/ ....إلخ" والتي من خلالها استطاع الشاعر خلق لحظات زمنية حاضرة، هُنا يمكننا الوقوف على أهمية دور الذاكرة التي كشفت قيمة الذات وفق حضورها الزمني، وإلا كيف يصبح الماضي ماضيًا لو لم يكن حاضرًا وفق"فرويد"؛ فموضوعات الماضي تمتد للحاضر لأنها تحفظ نفسها بنفسها، والإنخراط في حياة حالمة يشكل ذاكرة متأملة يتطابق فيها التعرف إلى صور الماضي مع التعرف إلى الذات بعينها(12)، وربما لأن في استرجاعها نوعًا من(المحاكاة) حسب المفهوم الأرسطي باعتبارها عالمًا متخيلًا بديلًا للعالم الخارجي؛ فالإعتراف بالذات من خلال تعرف صورة الماضي والإعتراف بالآخر من خلال الشهادة، ولأن المضامين التي يطرحها النقد السيكولوجي يصدر عن التجارب الإنسانية؛ نجد أن الشاعر كشف للمتلقي وجوه المهمشين والإرادات التي تعلو على الإنسان و(الخوف البدائي) حين يقول: "نخاف لنسلم من هاجس الىخرين/ ونهدأ من ربكة تعترينا" والمقاومة العنيفة التي أوحى بها ليبتكر تعبيرات منسجمة مع تجاربه الذاتية، في قوله"هكذا/ سنكون أجمل/ حين يمكن للدلالة أن تكون شهية كدماء ثوار العواصم"، ولتبدو تجليات(اللاشعور الجمعي) ذات الطابع التعويضي والتي بفضلها إستعاد الشاعر حياته الشعورية وارتفعت روحه بالموضوعات الآتية من(الذاكرة) إلى مستوى(حياته الباطنة) ثم منحها درجة عليا من الوضوح والوعي ليعيد ترتيبها وطرحها بشكل جديد.