- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
النسخة الثالثة: دلالات انعقاد منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي
النسخة الثالثة: دلالات انعقاد منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي
- 4 سبتمبر 2023, 5:10:10 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عقدت وزارة الدفاع الوطني الصينية النسخة الثالثة من “منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي” في الفترة (28 أغسطس – 2 سبتمبر) 2023، وقد شهد الحدث مشاركة ممثلين رفيعي المستوى من الصين، وعلى رأسهم عضو مجلس الدولة ووزير الدفاع الصيني “لي شانج”، وقادة وزارات الدفاع والقادة العسكريون لما يقرب من (50) دولة أفريقية، بالإضافة إلى (100) من كبار ممثلي الاتحاد الأفريقي. وقد أقيم المنتدى تحت عنوان “تنفيذ مبادرة الأمن العالمي وتعزيز التضامن والتعاون بين الصين وأفريقيا”، ويهدف – وفقاً لرؤية الجانب الصيني – إلى تعزيز التواصل الاستراتيجي بين الصين ووزارات الدفاع في أفريقيا، وبناء مجتمع صيني–أفريقي يكون له مستقبل مشترك في العصر الجديد القائم على التعددية القطبية. وتجدر الإشارة إلى أن النسخة الأولى للمنتدى عُقدت في الصين في منتصف عام 2018، وأقيمت النسخة الثانية افتراضياً في عام 2022.
أبعاد حاسمة
ثمة العديد من الأبعاد الملحة المرتبطة بانعقاد النسخة الثالثة من “منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي”، وهي الأبعاد المتمثلة فيما يأتي:
1– تفعيل “مبادرة الأمن العالمي” الصينية: شكَّل هذا الأمر الموضوع الرئيسي لهذه النسخة من المنتدي، وقد اقترح هذه المبادرةَ الرئيسُ الصينيُّ “شي جين بينج” خلال افتتاح “منتدى بواو الآسيوي” في أبريل 2022، كما تم الإفصاح عن التفاصيل الموضوعية الخاصة بها في فبراير 2023، التي تضمنت جملة من المبادئ الرئيسية لضمان الأمن العالمي من المنظور الصيني، المتمثلة في احترام وحماية أمن كل دولة، وتعزيز التعاون والحوار السياسي، واحترام سيادة وسلامة أراضي جميع الدول، واحترام أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة الصادر في عام 1945، ومراعاة تحقيق التوازن في المصالح الأمنية مع مختلف دول العالم، والتمسك بالحلول السلمية للصراعات والنزاعات بين الدول، وكذلك ضمان الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية.
2– دعم جهود أفريقيا في مواجهة تحدياتها الأمنية: يأتي على رأسها استشراء وانتشار الجماعات الإرهابية العابرة للحدود؛ حيث سجلت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء أكبر زيادة في وفيات الإرهاب على المستوى العالمي؛ إذ ارتفعت بنسبة (8%) وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2023، علماً بأن نحو (60%) من جميع وفيات الإرهاب على مستوى العالم كانت في إقليم أفريقيا جنوب الصحراء في عام 2022، كما صنف المؤشر حركة الشباب المجاهدين ضمن الجماعات الإرهابية الأكثر دمويةً في العالم؛ حيث ارتفعت نسبة الوفيات المسؤولة عنها بنحو (23%) في عام 2022 بالمقارنة بالعام السابق له، كما ارتفعت عملياتها الإرهابية لتسجل نحو (315) هجوماً إرهابياً.
ويضاف إلى ما سبق تفاقم التداعيات المصاحبة لتنامي الاضطرابات الداخلية في الدول الأفريقية، وعلى رأسها الصراع الداخلي في السودان منذ 15 أبريل الماضي، والانقلابان العسكريان الحادثان في كل من النيجر في 26 يوليو والجابون في 30 أغسطس من العام الجاري، وما يصاحب ذلك من تنامي موجات اللجوء والنزوح القسري من جانب، وتزايد مختلف أشكال الجرائم المنظمة العابرة للحدود من جانب آخر.
3– تأكيد الدعم المستمر للمصالح الأمنية الأفريقية: يعد انعقاد هذا المنتدي بمنزلة دلالة واضحة على أولوية المكون الأمني في منظومة التعاون الصيني–الأفريقي خلال الفترة المقبلة، وهو ما يشكل استمراراً لهذا المسار الذي بدأ منذ تدشين منتدى التعاون الصيني–الأفريقي “فوكاك” في عام 2000، الذي ركزت اجتماعاته المختلفة على دعم التنسيق الأمني المشترك بين الجانبين، كما شاركت الصين بنشاط في مؤتمرات السلام الدولية المتعلقة ببعض الأقاليم الأفريقية، ومن بينها اقتراح الصين “مبادرة التنمية السلمية في القرن الأفريقي” في يناير 2022، كما عقدت مؤتمر السلام الافتتاحي بين الصين والقرن الأفريقي في يونيو من العام ذاته.
4– استهداف تكثيف نطاق أنشطة التعاون الأمني: ويتمثل ذلك بالأساس في المشاركة في بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام؛ حيث تشارك الصين في نحو (5) بعثات حالية من إجمالي (12) بعثة على مستوى العالم، كما ينتشر ما يزيد عن (80%) من قوات حفظ السلام الصينية في أفريقيا؛ إذ أرسلت الدولة ما يزيد عن (32) ألف جندي إلى دول أفريقية، كما قدمت تدريبات للضباط الأفارقة في المدراس الصينية وأكاديميات الشرطة المناطقية، من قبيل كلية الشرطة “شاندونج”، وكلية الشرطة الشعبية في “بكين”، والأكاديميات العليا من قبيل جامعة الأمن العام الشعبية في الصين وأكاديمية الشرطة المسلحة الشعبية الصينية، والمدراس المتخصصة من قبيل كلية القيادة العليا للشرطة في “بكين” وكلية الشرطة الخاصة في “بكين”.
ويضاف إلى ذلك مباشرة أنشطة إنفاذ القانون الصينية من خلال وزارة الأمن العام الصينية (MPS)؛ حيث يوجد نحو (40) دولة أفريقية لديها اتفاقات مع هذه الوزارة في هذا الشأن، كما تقوم الصين بتصدير الأسلحة إلى الدول الأفريقية؛ حيث تعد ثاني أكبر دولة موردة للأسلحة إلى أفريقيا ولا سيما الأسلحة الصغيرة والمتوسطة (SALW)؛ إذ إن نحو ثلثي الجيوش الأفريقية تعتمد على استخدام الأسلحة الصينية.
اعتبارات حاكمة
ثمة العديد من الاعتبارات المؤثرة والحاكمة لعقد الصين النسخة الثالثة من “منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي”، وهي الاعتبارات المتمثلة فيما يلي:
1– تأمين الحصول على الموارد الطبيعية الأفريقية: يشكل أحد دوافع التوجهات الأمنية للصين في أفريقيا؛ حيث تذخر القارة بالعديد من الثروات والموارد الطبيعية اللازمة للأنشطة الاقتصادية الصينية؛ فعلى سبيل المثال، تعد أفريقيا ثالث أكبر منتج للذهب على مستوى العالم، وهو ما يمكن أن تستفيد منه الصين التي أصبحت عملية استخراج الذهب وتخزينه بالنسبة إليها أولوية وطنية استراتيجية، ولا سيما في ضوء استمرار اتجاهات التضخم وتراجع الدولار على مستوى العالم منذ بدء الحرب الروسية–الأوكرانية في فبراير 2022.
كما تعد القارة موطناً لاحتياطات كبيرة من خام الليثيوم الطبيعي – الذي يشار إليه غالباً باسم “الذهب الأبيض” – وهي الاحتياطيات التي تقدر بنحو (5%) من الإنتاج والاحتياطي العالمي. ويعد هذا المعدن ضرورياً لإنتاج الألواح الشمسية والبطاريات القابلة لإعادة الشحن التي تشغل السيارات الكهربائية، ويوجد الجزء الأكبر من احتياطات القارة منه في كل من زيمبابوي وناميبيا وغانا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي.
كما تشكل موارد الطاقة واحداً من أهم مرتكزات الأمن القومي الصيني، وهو ما جعلها تركز على تأمين تدفق مصادر الطاقة الأفريقية لتعزيز تنميتها الاقتصادية؛ حيث تمتلك القارة نحو (13%) من احتياطيات النفط العالمية، كما تستحوذ على نحو )7%) من احتياطيات الغاز الطبيعي. وتستثمر شركات النفط الوطنية الصينية بكثافة في استكشاف وإنتاج إمدادات النفط والغاز في أفريقيا التي تعد ثاني أكبر منطقة تزود الصين بالنفط والغاز بعد الشرق الأوسط؛ حيث إن ما يزيد عن (25%) من واردات “بكين” من كلا الموردين تأتي من القارة.
2– حماية المصالح الاقتصادية الاستراتيجية: ترتبط الاستراتيجية الأمنية للصين حيال أفريقيا بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية؛ حيث تعد بمنزلة الشريك التجاري الأول لأفريقيا على مستوى الدول؛ إذ بلغ حجم تجارتها مع أفريقيا نحو (281.7) مليار دولار في عام 2022، كما تعتبر أفريقيا ثالث أكبر وجهة للاستثمارات الصينية بعد كل من آسيا وأوروبا؛ حيث يوجد حالياً ما يزيد عن (3) آلاف شركة صينية تستثمر في أفريقيا، وبلغت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر للصين في القارة عام 2022 نحو (3.4) مليار دولار، لتعد بذلك رابع أكبر مُصَدِّر للاستثمار في أفريقيا، كما بلغت قيمة استثماراتها في القارة في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري نحو (1.38) مليار دولار بزيادة سنوية قدرها (24%)، وهو ما يظهر بالكامل مرونة التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين وأفريقيا وثقة الشركات الصينية بالقارة.
3– الترويج للنموذج الأمني الصيني في البيئة الأفريقية: يستهدف هذا النموذج دعم أنشطة إنفاذ القانون الموسعة التي تضطلع بها وزارة الأمن العام الصينية في أفريقيا، وتعزيز قاعدة انتشار أعراف الشرطة الصينية داخل قوات الشرطة الأفريقية، وهو ما ينطوي بالضرورة على التعرف على المبادئ السياسية والأيديولوجية القائم عليها نموذج الحزب الشيوعي الصيني (CCP) المتمثلة بالأساس في السيطرة الحزبية المطلقة على قوات الأمن والدولة. وفي هذا السياق، تلقى ما يزيد عن (2000) فرد من أفراد الشرطة وموظفي إنفاذ القانون الأفارقة تدريبات في الصين خلال الفترة (2018–2021).
ويمثل المشاركون الأفارقة نحو (35%) من إجمالي العناصر الأجنبية التي تلقت التدريبات في هذا الشأن، وهو ما يضع أفريقيا في المرتبة الثانية بعد آسيا، كما يشتمل نشر المعايير الصينية في مجال إنفاذ القانون على تدريب الآلاف من القضاة والمحامين الأفارقة من خلال مركز القانون والمجتمع الأفريقي في جامعة “شيانجتان” والمنظمة الاستشارية القانونية الآسيوية–الأفريقية، ومنتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، الذي يركز بالأساس – من بين أمور أخرى – على تحقيق المواءمة بين القوانين الصينية والأفريقية، وقد تلقى ما لا يقل عن (40) ألف محامٍ أفريقي هذا التدريب منذ عام 2000.
4– طرح بديل للنفوذ الأمني للقوى الغربية: يرتكز ذلك بالأساس على تبني سياسة قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، ودعم الآليات السلمية المختلفة في معالجة الأزمات القائمة، وهو ما تجلى بوضوح في الموقف الصيني من الانقلابين العسكريين في النيجر والجابون في العام الجاري؛ حيث أعلنت “بكين” عدم ترجيحها تبني خيار التدخل العسكري في الحالتين بشكل قاطع؛ وذلك مقابل تبني اقتراب متوازن ذي صبغة سياسية قائمة على دعم الدبلوماسية الهادئة؛ وذلك من خلال تأكيد مراقبة تطورات الأوضاع عن كثب والدعوة إلى ضرورة العودة إلى النظام الدستوري والحفاظ على السلامة الشخصية للقيادة السياسية، وهو ما يتعارض مع الطرح الفرنسي القائم على دعم الخيار العسكري في النيجر لإعادة الرئيس المنتخب “محمد بازوم” إلى السلطة.
نتائج محورية
تضمنت النسخة الثالثة من “منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي” الإشارة إلى بعض المسائل الرئيسية، المتمثلة فيما يلي:
1– تأكيد تعزيز التعاون الأمني المشترك: شكَّل إحدى نقاط الحديث الرئيسية التي أشار إليها عضو مجلس الدولة ووزير الدفاع الصيني “لي شانج فو”، خلال فعاليات المنتدى؛ حيث أكد أهمية معالجة المعضلات الأمنية الدولية المختلفة في ضوء التغيرات الجيوسياسية المتزايدة التي يشهدها النظام الدولي، وجعلت حالة السلم والأمن تشهد تهديدات متصاعدة من جانب، وكذلك عدم تغلب القارة الأفريقية بشكل كامل على القضايا الأمنية التقليدية مثل الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، وتصاعد وتيرة التأثيرات السلبية لقضايا الأمن غير التقليدية، مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية في القارة من جانب آخر. وفي هذا السياق، جرى تأكيد ضرورة تعزيز التعاون العسكري مع أفريقيا في مختلف المجالات، بما في ذلك التدريبات المشتركة وحفظ السلام والتعليم العسكري والتدريب المهني.
2– دعم علاقات الشراكة بين الصين والاتحاد الأفريقي: ففي حديث مفوض الاتحاد الأفريقي للشؤون السياسية والسلام والأمن “بانكولي أديوي”، خلال المنتدى، جرت الإشارة إلىضرورة تطوير العلاقات الأمنية بين الصين والاتحاد الأفريقي، ولا سيما في ضوء ما تواجهه بنية السلام والأمن ونهج الحوكمة في أفريقيا من تحديات ملحة، فضلاً عن تقاسم البلدان الأفريقية مصالح مشتركة مع الصين فيما يخص منظومة الأمن والاستقرار والتقدم المشترك.
ويجدر القول إن تفعيل “مبادرة الأمن والسلام بين الصين وأفريقيا” وصندوق الأمن والسلام الصيني–الأفريقي” اللذين تم تبنيهما في عام 2018 سيساهم في تقديم الدعم الصيني لمختلف مكونات “هيكل السلم والأمن الأفريقي” (APSA) الذي حدده البروتوكول المنشئ لمجلس السلم والأمن الأفريقي الصادر في عام 2002، وفي الإطار ذاته سعت الصين إلى تقديم الدعم إلى التجمعات الاقتصادية الإقليمية الثمانية التي يعترف بها الاتحاد الأفريقي، ومنها تجمع “إيكواس”، وبعض التجمعات الأفريقية الأخرى، وعلى رأسها تجمع “دول الساحل الخمس”.
3– ترسيخ مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”: تم تأكيد كونه حجر الزاوية الذي تقوم عليه الثقة المتبادلة بين الصين وأفريقيا في المجال الأمني، ولعل هذا ما أكده عضو مجلس الدولة ووزير الدفاع الصيني؛ حيث أشار إلى أن الصين لا تفرض إرادتها المنفردة على الآخرين، كما أن ما تقدمه من مساعدات لأفريقيا، بما في ذلك المساعدات العسكرية، تتم دون أي شروط سياسية، كما أكد تنفيذ جميع الأعمال الأمنية بالتشاور مع الدول الأفريقية المعنية.
وهو الأمر الذي أكده المساعد العملياتي لرئيس أركان الجيش المالي “أبو بكر سيرمي”، الذي أشار إلى احترام الصين استقلالية الدول الأفريقية ومعاملتها على قدم المساواة دون تمييز، وهو ما يسهم في تكريس واقع تعاون دولي وثنائي بين الصين وبين هذه الدول قائم على التفاهم والتنسيق المشترك.
4– التركيز على الصلات الوثيقة بين الأمن والتنمية: تمت الإشارة إلى هذا الأمر من قِبل بعض المسؤولين الصينين؛ حيث تم تأكيد العلاقة التبادلية القائمة على التأثير والتأثر بين القضيتين، انطلاقاً من أن تحقيق التنمية يسهم في تطوير الأمن والضمانات الأمنية. وفي هذا الصدد تم الحديث عن جهود الصين لدمج تعاونها الأمني مع أفريقيا في سياق تعزيز قدرة القارة على الحفاظ على الاستقرار والتنمية، ومنها ما يرتبط بمنطقة القرن الأفريقي للمساعدة على القضاء على التفاوت بين المناطق الحضرية والريفية، كما تمت الإشارة إلى تنفيذ العديد من مشروعات المساعدات الأمنية لتعزيز التعاون المشترك في إطار مبادرة “الحزام والطريق” ودعم حفظ السلام ومكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن الاجتماعي وغيرها.
وختاماً يمكن القول إن النسخة الثالثة من “منتدى السلام والأمن الصيني–الأفريقي” تأتي في إطار سلسلة الجهود المستمرة للصين لتأكيد جوهرية البعد الأمني في إطار منظومة الأهداف والمصالح الوطنية لها حيال القارة الأفريقية، الذي تعتمد عليه الصين بالأساس من أجل دعم مصالحها الاقتصادية بأبعادها المختلفة من جانب، ومناوأة نفوذ القوى الغربية في القارة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، من جانب آخر.