- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
الرواية ترصد عمران القاهرة من التشظي حتى الانفصال
الرواية ترصد عمران القاهرة من التشظي حتى الانفصال
- 28 أبريل 2021, 1:07:16 م
- 821
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ارتبطت الرواية منذ نشأتها بالمدينة، وربما لولا وجود المدينة ما وجدت الرواية،
فنشوء المجتمعات المدنية بتعقيداتها وتشابك العلاقات الإنسانية بين قاطنيها وفر للروائيين مادة خام لا تنضب يعالجونها في أعمالهم الإبداعية، وكان فيكتور هوجو أول من قارن صياغة الرواية بصياغة العمارة، فقد نظر للمدينة باعتبارها كتابا حجريا، بينما الرواية عنده كانت مصدرا لمعرفة المدينة. وفي كتابه الجديد "مدن العرب في رواياتهم"،
الصادر في القاهرة عن دار مدارات، يذهب الناقد الأدبي والمعماري الدكتور على عبدالرءوف إلى أن الروائي مثله مثل المعماري،
فكلاهما يساعدنا بإبداعه على التفرقة بين مدن الحجر ومدن البشر، أي المدن التي تحتوي أرقاما من السكان، والمدن التي تحتوي حكايات عن البشر.
ويرى الكاتب كذلك أن الروائي يبني علاقة مركَّبة بين الأدب والعمارة، تمكنه من رسم خريطة ذهنية للمدن وعمارتها كما نقلتها الروايات،
وهو موضوع جديد تماما على الدراسات الأدبية العربية، ربما لم يعرفه القارىء العربي قبل صدور ترجمة كتاب الإيطالي فرانكو موريتي عن "الجغرافيا الأدبية"،
حيث تمزج الدراسة العمارة الفعلية بالعمارة المتخيلة لمدن بعينها كما جاءت في الروايات.
المعماري روائيا كانت رواية "المنبع" للروائية الروسية آين راند أول رواية تناولت دور المعماري في سياقه المجتمعي،
ومن نفس المنطلق جاءت روايات التركي أورهان باموك _ درس الهندسة المعمارية قبل أن يمارس الكتابة _ عن مدينة اسطنبول،
وقد وصفته الأكاديمية السويدية في تقرير منحه جائزة نوبل بأنه الروائي الذي يبحث عن روح الشجن في مدينته.
وبحسب الكتاب فإن شخصيات باموك لا يمكن أن توجد خارج إسطنبول، كما لا يمكن الفصل بين حزن باموك ومشاكله الذاتية وبين حزن مدينته ومجدها الغابر.
فتصبح كتابته دعوة لأن نتعمق في فهم مدننا، لنكتشف روحها الكامنة خلف الأطلال وتحت ركام التاريخ.
وفي السياق العربي حظي المكان الروائي باهتمام كبير لدرجة أنه صار بطلا في أعمال كثيرة، شكلت فيها ثقافة المكان بنية حيوية في النص الروائي،
تخرج المكان عن إطاره الجغرافي. فالروائي لا يتعامل مع المكان بوصفه حيزا جغرافيا فقط بل بوصفه حيز إنساني في الأساس.
وبالرغم من الوحدة النسبية للثقافة التي أنتجت المدن العربية فإن ثمة اختلافات فيما بينها،
ووفقا لتفسير عبدالرحمن منيف، فمدينة بغداد تخضع لتأثير علاقات غير مدينية لكونها امتداد للأرياف المحيطة بها،
وعمان التي كبرت واتسعت فجأة لا تزال أقرب إلى بلدة في وسط زراعي رعوي، بينما القاهرة بازدحامها السكاني الكبير تعج بطبقات اجتماعية كثيرة شديدة التباين.
مما يوجد تباينا في موقف الرواية من كل مدينة على حدة. فالرواية بمعناها العميق فضاء حر،
يرى الواقع بصيغة المتعدد، ويرى المتعدد في البشر وكلامهم وسلوكهم ومصائرهم،
فتصبح رواية المدينة هي التي ترصد التفاعل غير المتزن بين وسط المدينة وضواحيها، وتلقي الضوء على المهمل والمهمش.
و الواقع العربي لم يشهد في العقود تمدينا للريف بل شهد ترييفا للمدينة،
وذلك نتيجة طبيعية للتطور العشوائي الذي ينتج المهمشين والعاطلين عن العمل دون أن ينتج مدينية المدينة.
لهذا اتسعت المدن عندنا بينما انحسرت روايات المدينة، اللهم إلا في مدن عربية قليلة، وذلك ليس بسبب ازدهار الفضاء المدني لها،
وإنما يرجع لتكون بنية روائية تحتية تكونت عبر عدة عقود سابقة. الهوية والحداثة
عانت بعض المدن العربية من حالة انفصال تاريخي، فعمرانها الجديد اعتدى على هويتها المميزة وصاغ إطارا فاصلا بين المدينة وهويتها،
وهذا ما رصده الفصل الرابع من الكتاب، وفيه حاول الدكتور على عبدالرءوف تحليل إشكالية التعبير عن المكان والأطروحات المعمارية سواء في مدن ذات حضور تاريخي مثل دمشق أو من خلال مدن حديثة مثل دبي. ويرصد الكتاب حالة مدينة دمشق في روايات فواز حداد الذي شكلت له صورة دمشق بؤرة الواقعي والتخيلي، ففي روايته الأولى "موزاييك دمشق"،
انعكست المدينة بمعالمها الكبرى وشوارعها وأزقتها. أما في الرواية الثانية "صورة الروائي"،
تناول حداد بدايات الهدم في أحياء دمشق القديمة في أوائل التسعينيات وتداعي ذاكرة المكان وانهياره،
على وقع التحديث العنيف المتسارع غير المدرك لقيمة المكان. لكن الروائي بقي وفياً لمدينته فسرد بواقعية الأماكن والبيت الدمشقي. كذلك تحضر صورة مدينة اللاذقية في أعمال حنا مينه.
وكان تصويره لعمران أحياء اللاذقية بمثابة وثيقة معمارية، إذ يحمل الحي في رواياته طابع الحي الشامي القديم في اللاذقية؛ هنا يتحول العمران إلى نطاق حميم تخترقه الممرات الإنسانية الضيقة،
التي تتخلل مجموعات من الساحات المفعمة بالحركة الإنسانية والجمال الطبيعي. في الوقت ذاته يحاول مينه أن يرسم المشهد الاجتماعي داخل المدينة، عبر تشريح منازل المدينة، بحيث تعكس طوابقها العليا والسفلى حالة اجتماعية واقتصادية، وكان التقسيم الطبقي للحي ملحوظاً فقط في بيوت السكن، حيث الطوابق العليا للأغنياء والطوابق السفلى والأقبية للفقراء.
وتكتمل صورة العمران الشامي في الرواية من خلال تناول الكتاب لروايات حنا مينه وغادة السمان وخيري الذهبي،
بينما بيروت يكتفي بتصوير اسكندر نجار لها، قبل أن ييمم شطر الخليج متحدثا عن مدن الملح لعبدالرحمن منيف وروايات غازي القصيبي وهاني نقشبندي،
ويكمل طوافه بروايات مغاربية يبدأها برواية محمد الأشعري "القوس والفراشة"، التي يرى فيها الكاتب اهتماما بما أسماه العبث العمراني الذي يذبح تراث المدينة التقليدية في المغرب.
أطروحات قاهرية نمت القاهرة في إطار النطاق الجغرافي للمدينة الإسلامية المحاطة بالأسوار التي تشكلت داخلها مورفولوجية المدينة. فكانت بنيتها العامة عبارة عن مجموعة أحياء، يمثل كل واحد منها وحدة مغلقة، ترتبط بغيرها عبر شبكة متدرجة من الطرق، وأزقة تفضي إلى عطفات أو حارات، تفضي بدورها إلى الدرب وهو الشارع الرئيس في الحي.
وفي قفزات عمرانية مفاجئة ظهرت أحياء جديدة خارج الأسوار، بما شكل فاصلا واضحا بين طبقات اجتماعية وثقافية في المجتمع.
فمثلا حي جاردن سيتي تم انشاؤه في 1904، لسكني الأجانب الوافدين ومن التحق بهم من الطبقة الأرستقراطية،
وفي مواجهته حي السيدة زينب الشعبي المحتفظ بأصالته، وإلى جانبهما ظهرت قاهرة ثالثة عشوائية بلا روح ولا تاريخ ابتداء من 1980،
مما أسهم في خلق صورة للمدينة المتشظية. و في الفصل الخامس والأخير"عمارة وعمران القاهرة في الإبداع الروائي المعاصر" يرصد الكتاب الانعكاس الروائي لهذه البنية العمرانية.
من خلال استعراضه للروايات التي تناولت القاهرة مميزا بين خمس أطروحات متباينة،
هي الطرح التراثي التأصيلي ويمثله يحي حقي في "قنديل أم هاشم" ونجيب محفوظ منذ أعماله الواقعية الأولى وحتى الثلاثية،
و أعمال جمال الغيطاني خصوصا الخطط وسفر البنيان، ثم الطرح التغريبي الذي يتناول القاهرة الخديوية ويشمل روايات محفوظ الستينية مثل "ثرثرة فوق النيل"،
و"قطعة من أوروبا" لرضوى عاشور، و"قالت ضحى" لبهاء طاهر، و"عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني،
و"صالح هيصة" لخيري شلبي، و الثالث هو الطرح العشوائي والهامشي و يمثله "يوسف إدريس" بروايته القصيرة "قاع المدينة"، وأعمال إبراهيم أصلان،
ومحمود الورداني في "بيت النار" أما الطرح الرابع ويسميه الكتاب بالبيئي والمقدس فيرصد تصوير العمران خارج المدينة كما عرضه فتحي غانم في الجبل وبهاء طاهر في واحة الغروب،
ومحمود الورداني في أوان القطاف. لينتهي بعد ذلك إلى الرؤية المستقبلية للقاهرة كما صوّرها أحمد خالد توفيق في "يوتوبيا" التي تقدم تصورا مؤلما للحياة في القاهرة 2023،
حيث يتصور الكاتب أن الأغنياء في مصر حصروا أنفسهم في مجمع سكني مغلق يحميه المارينز" يوتوبيا"، بينما الغالبية العظمى من الشعب مطرودة من جنة اليوتوبيا.