- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
الجاسوسية أسرار والغاز- الحلقة التاسعة- الجاسوس الغبي
15 عاماً عميلاً لحساب المخابرات المصرية «دون علمه»
الجاسوسية أسرار والغاز- الحلقة التاسعة- الجاسوس الغبي
- 24 يونيو 2024, 8:08:14 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
إسرائيل بيير .. وقع في فخ العميلة الحسناء وباح بكل أسراره ومعلوماته
عميلة للمخابرات المصرية رافقته لسنوات .. وحصلت على صور الأسلحة والمصانع
تولى منصب مستشار الأمن القومي في إسرائيل .. وسرب محتويات مفكرة بن جوريون
تتبعه الموساد وعلم بعمالته للكي جي بي.. ولم يكتشف وصول كل معلوماته إلى مصر
وصل على فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقد أوراقه على أنه يهودي نمساوي
عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار و تغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.
ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطور الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..
وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.
ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم
على مدار خمسة عشر عاماً ظل الجاسوس الاسرائيل بيير يعمل لحساب المخابرات الروسية، لكن ما كان يجهله أنه كان يعمل لحساب المخابرات المصرية أيضا دون أن يدري، وتم ذلك عن طريق ريناتا التي عاشت في باريس واقتربت من الرجل الغامض للحصول على ما في جعبته من أوراق ومستندات عسكرية.. الأعجب أنه وصل لأعلى المناصب الحساسة والمهمة حتى اختاره بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي مستشاراً للأمن القومي. بعد أن ظل يخدم لفترة في الجيش الإسرائيلي وبعد اكتشاف دوره مع المخابرات السوفييتية.. صرخ بن جوريون: ألهذه الدرجة كنت مغفلاً! اطلع الرجل الغامض على الخطط العسكرية وحصل على أدق الأسرار وكان يلقي بها بمجرد دخوله شقة صديقته ريناتا التي كانت تقدم له الخمور ليسكر حتى الثمالة فتبدأ في تصوير المستندات ونقل الأسرار إلى المخابرات المصرية، من بينها قوائم المنشأة العسكرية الإسرائيلية والأسلحة وحجم المساعدات الأميركية لإسرائيل بل ومفكرة جوريون الشخصية التي حصل عليها بيير من صديقه بحجة كتابة مسيرة بن جوريون. وبدأت القصة في أحد أركان الملهى الليلي الشهير بباريس حيث جلس رجل أصلع الرأس طويل القامة، ذو ملامح أوروبية يشرب الخمر بنهم شديد وبين الحين والآخر ينظر حوله كمن يبحث عن شيء محدد لكنه لايعرف عن أي شيء يبحث بالضبط وان كان يبدو انه ينتظر أحدا حيث لفت انتباهه حركة أولئك الذين كانوا يتوافدون على الملهى بين وقت وآخر.
السكير العاقل
وكان رغم سكره الشديد ثابتا في مكانه ولا يتحدث ولا يأتي بحركات كتلك التي يقوم بها السكارى الثملون وعلى مقربة منه جلست امرأتان بدت إحداهما كما لو كانت فتاة ليل وقد انشغلت بالحديث مع السيدة الأخرى التي كانت شديدة الجمال تشي ملابسها وهيئتها بأنها إحدى سيدات الأعمال الثريات اللاتي يفدن على باريس لعقد صفقاتهن. كانت فتاة الليل تحاول أن تلفت نظر الرجل الأصلع الغامض الذي يجلس على مقربة منهما مع حرصهما على أن يبدو الأمر بصورة طبيعية لا توحي بسعيها إلى التعرف إليه أو مجالسته.. لذلك ارتفع صوتها ليسمعها الرجل المقصود ماذا تقولين؟! ثلاثة ملايين فرنك! نعم وماذا في ذلك؟ أنها اقل صفقة عقدتها هذه السنة.
- وهل هذه التجارة مربحة إلى هذا الحد؟!
- نعم... انها تعادل تجارة المخدرات ولكنها بالطبع ليست مثلها بل أكثر أمنا.
- وأين ستذهب هذه الصفقة؟
- إلى إسرائيل.
- التفت الرجل الأصلع فجأة نحو السيدتين.. وقال عفوا هل ناديتماني؟
ردت فتاة الليل: يسعدنا ان نناديك ولكن كنا نتحدث عن عملية تجارية ستتم في إسرائيل ضحك الرجل السكران وقال لم تذهبا بعيدا.. فانا اسمي إسرائيل وأعيش في إسرائيل.
صرخت المرأة ووجهت حديثها إلى صديقتها هل تصدقين هذا ياريناتا.. يالها من مصادفة؟!
اقترب إسرائيل بيير أو بارائيل كما يطلق عليه في إسرائيل من السيدتين قائلا... إذا لم تمانع سيدتاي فيسعدني أن أستضيفكما الليلة.
الهدف المحدد
كان هذا الرجل هو الهدف المحدد لعملية المخابرات المصرية لأنه ببساطة كان مستشار بن جوريون للأمن القومي، ولكن قبل هذا اللقاء الحميم الذي تم بين العميلة ريناتا وصديقتها بسنوات وتحديدا في خريف العالم 1950 كان مجلس وزراء الدولة اليهودية الوليدة قد دعا من قبل رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون لاجتماع عاجل حضره أيسر هارئيل رئيس جهاز الموساد وبقية أعضاء مجلس الوزراء بما فيهم، وموشيه ديان وزير دفاع الدولة العبرية، وكان ضمن الذين شملتهم الدعوة المحلل السياسي والضابط السابق إسرائيل هاريل وكان هذا امرأ غريبا استنكره بشدة موشيه ديان عندما مال على أيسر هارئيل قائلا:ما الذي أتى بهذا الرجل إلى هنا؟!
نظر الجميع لبعضهم بعضا يستطلعون الحدث قبل وقوعه وقطع نظرات الدهشة احد الوزراء عندما هم بالكلام وقبل أن يكمل كلمته الأولى أكمل بن جوريون قائلا: انه ليس تعارفا بالمعنى الذي فهمتموه ولكني أود أن أقول لكم انني أصدرت صباح اليوم قبيل هذا الاجتماع مباشرة قرارا بتعيين السيد إسرائيل بيير مستشارا للأمن القومي الإسرائيلي ومساعدا في الشؤون الأمنية.
وصرخ ديان: تقول من يا سيدي الرئيس؟
قال بن جوريون في حزم: صديقي ومستشاري إسرائيل بيير.
لم يخجل ديان من الوقوف منتصبا وكأنه يهم بالخروج من المجلس قائلا لبن جوريون: سيدي هذا الرجل الذي تريد أن تسلمه خزائن امن إسرائيل، مجهول الهوية تماما كيف يحدث هذا.. أنا غير موافق على تعيينه في هذا المنصب.
ضحك بن جوريون ورد على ديان وهو ينظر باتجاه الرجل الأصلع بيير قائلا: هذه مشكلتك ديان إذا لم تكن تعرفه.. أما أنا فأعرفه جيدا وأثق فيه تماما، لقد خدم هذا الرجل إسرائيل بجدية ونشاط منذ أن هاجر إليها من النمسا عام1935 ورأيته في جيش الهاغانا السري ورأيته وهو يخدم في جيش الدفاع الإسرائيلي بنشاط فائق كما انه متميز سياسيا ولديه قدرات تفتقر أنت شخصيا إليها.. أرجوك اصمت ولست هنا بصد أخذ رأيك..
ثم أردف: أنا اعلم تماما ان الغيرة لها مكان في صراخك هذا.. لم يكن بن ديان مصيبا، فكل المعلومات التي ذكرها بن جوريون عن صديقه الحميم إسرائيل بيير فهو بالفعل رجل مجهول السيرة وصل إلى فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقدم أوراقه على انه يهودي نمساوي ثم التحق بالجيش السري للحركة الصهيونية واستمر يترقى في هذه الحركة، حتى قامت الدولة العبرية عام1948 فانضم للجيش بصفته إسرائيليا يهودي الأصل، وقدم أوراقا تفيد انه تدرب تدريبا عسكريا عاليا طيلة إقامته في النمسا، وظل يترقب في الجيش الإسرائيلي حتى وصل إلى رتبة عقيد وتم اختياره في أعقاب حرب 1948، التي أطلق عليها الإسرائيليون حرب التحرير لرئاسة قسم العمليات والتخطيط من مقر قيادة الجيش، ومنذ هذا الوقت توطدت صلته برئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون شخصيا، ولكن بعد عامين أخرجه بن جوريون من الجيش وعقد اجتماعه الوزاري ليعلم الوزراء بقراره تعيين بيير مستشارا للأمن القومي الإسرائيلي.
اجتماع عاصف
بعد انتهاء الاجتماع العاصف الذي شهد إعلان تعيين إسرائيل مستشارا للأمن القومي الإسرائيلي،خرج ديان من مكتب رئيس الوزراء ليسير بمحاذاة أيسر وكل منهما ينظر نحو الآخر نظرات صامتة ذات مغزى
وفي المساء طلب أيسر من ديان أن يزوره في مكتبة أو أن ينتظره ليحضر هو إليه، ودون أن يسأله ديان عن سبب اللقاء أدرك أن أيسر يريد أن يتحدث معه بشأن المستشار الجديد للأمن القومي لإسرائيل.
في الثامنة مساء كان أيسر يستقبل ديان بمكتبه بمبنى الموساد في تل أبيب والذي فاجأه بسؤال حاسم وحازم:
أيسر أريد أن اعرف كل شيء عن هذا الرجل.
نظر إليه أيسر نظرة استخفاف قائلاً:اليوم وبعد كل هذه السنوات تأتي لتسألني من هو هذا الرجل؟!
قال ديان: في الماضي لم يكن مهما أن يلتحق بالجيش ولكن اليوم سيضطلع بمهام تمس أمن إسرائيل في الصميم.
خرج بيير من قاعة الاجتماعات منتشيا بالنتائج التي حصل عليها خلال هذا الاجتماع فقد كان هذا المنصب هو أكبر مما كان يطمح إليه في هذا الوقت وفي مثل هذه الظروف خاصة بعد أن عمد موشيه ديان إلى الإساءة لسمعته فضلا عن ملاحقة أيسر هارئيل له ومتابعته متابعة حثيثة أثناء لقائه بإحدى عشيقاته.
وخلال الطريق الذي قطعه من غرفة الاجتماعات وحتى الباب الخارجي كان يتلقى التهاني من كل العاملين بمجلس الوزراء وقبيل ان يخرج من بوابة المجلس ليستقل سيارته فوجئ بأحد الحراس يعدو خلفه طالبا موافاة بن جوريون في مكتبه.
عاد بيير منزعجا لهذا الاستدعاء السريع بعد هذا الاجتماع الصاخب ودخل مكتب رئيس الوزراء قائلاً: سيدي ماذا هناك لقد كنت خرجت بالفعل من المقر رد بن جوريون:عزيزى بيير.. أرجو أن تسمعني جيدا.. اليوم بالطبع أدركت كم يكرهك ديان وكم يكرهك أيسر أيضا وهما اخطر شخصيتين في المجلس، فكان حذرا ولا تفسح لهما المجال لأن يمسكا عليك موقفا يحسب عليك لأنك أنت إسرائيل بيير محسوب علي.
احتفال دموي
في المساء كان لابد لإسرائيل بيير أن يحتفل بهذه المناسبة فاتصل بإحدى عشيقاته وكان اسمها حنة وطلبها أن تلتقيه في حانة أتوم في شارع بن يهودا الصاخب في تل أبيب وقال لها: لا تتخلفي فلدي هدية رائعة لك ومفاجأة ستسعدك بلا شك؟.
في التاسعة مساء كان إسرائيل بيير يقدم هديته لعشيقته وهي زوجة لأحد ضباط وزارة الدفاع الإسرائيلية وكان زوجها شديد الغيرة عليها ودائم الشك فيها لشدة جمالها. وبعد نصف ساعة بالضبط من وصولها لحانة أتوم ولقائها بيير فوجئ الاثنان بشالوم زوجها يقف على رأسيهما وقبل أن ينطق احدهما بكلمة انهال الضابط بالكلمات والصفعات الشديدة على وجه إسرائيل ببير حتى وقعت سنتان من أسنان بيير واخذ ينزف وقام بعض العاملين بالحانة بنقله لمستشفى تل أبيب.وبعد أيام عندما سأله بن جوريون عن أسنانه المفقودة قال له: لقد فقدتها يا سيدي في حادث سيارة.. بينما ضحك كل من ديان وأيسر عندما وصلهما الخبر.
واتصل ديان بأيسر قائلا له:
اعتقد انك بعيد عما حدث لهذا المارق.
ومرت هذه الحادثة وبعدها استدعى مستشاره الأمين عام 1955 وطلب منه كتابة التاريخ الرسمي والتأريخ لحرب 1948 وخصص له من أجل ذلك غرفة بوزارة الدفاع ليقوم بأبحاثه فيها.. وكان هذا التاريخ الذي كتبه من الأعمدة الرئيسية في تعزيز مركز وموقف بيير لدى المجتمع الإسرائيلي وبن جوريون شخصيا.
لم يترك أيسر هارئيل الوافد الجديد بيير بعد قرار تعيينه بعيدا عن عينيه أو بعيدا عن أعين رجاله ورصد في السنوات التي تلت هذه الواقعة حركة إسرائيل بيير رصدا دقيقا، و اكتشف انه يكثر العلاقات الغرامية يعيش حياته على هواه وينفق ببذخ شديد على عشيقاته وبنات الهوى، كما توصل إلى أن علاقته بزوجته رفقة سيئة للغاية، وان الخصام بينهما يدوم أياما وأسابيع طويلة، كما لاحظ انه يقوم بجمع معلومات عسكرية لا تتصل بعمله في شيء وانه زار موسكو وبرلين ووارسو وبوخارست أكثر من مرة وهذه عواصم دول شيوعية ليست على وفاق كبير مع إسرائيل الدولة الحديثة، كما جاءته تقارير تفيد بأنه على علاقة وثيقة بكثير من الدبلوماسيين الروس العاملين في تل أبيب ويلتقي بهم كثيرا.
كان أيسر يرى في هذا الرجل الفساد كله، فهو على عكسه تماماً حيث إن أيسر كان يهوديا متدينا ومتشددا بعكس إسرائيل بيير ولذا فإنه كان يخشى على إسرائيل الدولة من وجود رجل كهذا يسهل تجنيده بأبسط الطرق حتى ولو كان عن طريق امرأة غانية.
مكالمة من باريس
ذات مساء رن هاتف بيير في مكتبه كانت المكالمة من خارج إسرائيل وكان الصوت المتصل من الأصوات المحببة لبيير ولذلك عندما سمع صوت المتصلة هلل فرحا كفرحة طفل صغير بلعبة، فقد كانت المتصلة صديقة باريس التي التقاها مؤخرا.. وبعد أسبوع بالضبط كان إسرائيل بيير وصديقته ريناتا يلهوان في كل ملاهي باريس ولم يتركا شيئا لم يفعلاه حتى نفدت أموال بيير تماما وقرر العودة إلى إسرائيل وعندها طلب من صديقته أن تستعد للعودة معه.
تركته ريناتا بحجة ترتيب أمورها وتوجهت على الفور إلى محل للعطور المشهورة في باريس وكانت مديرته فتاة مصرية وأخبرتها بأنها تريد مقابلة الضابط "ف" من المخابرات المصرية..
سألتها: أقول له من أنت
أخبريه بأنني صديقة بيير
كانت هاتان الفتاتان من العاملات مع جهاز المخابرات المصري وهما أختان من الأب وكانت التي تمتلك محل العطور أمها فرنسية بينما الأخرى وهي تعمل مضيفة بالشركة الوطنية للطيران، من أم مصرية.
وكانت المضيفة تتولى توصيل المعلومات والوثائق التي تطلبها المخابرات إلى مصر أو إلى الضابط "ف"، الذي طلب من ريناتا السفر مع بيير إلى إسرائيل والحصول منه على جميع الوثائق التي توجد بحوزته وتصويرها وتسليمها لصاحبة محل العطور والباقي تعرفه هذه بدورها سافرت ريناتا مع إسرائيل إلى تل أبيب وعاشت معه قرابة شهر في بيت استأجره لها بيير بعيدا عن تل أبيب.. وكان يقضي أياما طويلة معها بعيدا عن زوجته، فهذا الرجل شديد الثقة بنفسه وشديد الاهتمام بذاته في نفس الوقت رغم أنه موظف مهم في الدولة العبرية.. وكان بحكم عمله يطلع على وثائق ومستندات مهمة خاصة بالخطط العسكرية الإسرائيلية إلا أنه كان يلقي بالأوراق بمجرد دخوله شقة صديقته، دونما اهتمام ويترك أهم وأخطر المستندات العسكرية قريبة من يدى ريناتا التي اعتمدت طريقة ذكية في الحصول على ما تريد حيث كانت تجعله يسكر تماما، فلا يستطيع أن يرى ما يحدث أمامه ثم تجذبه إلى غرفة النوم فتجهز على ما تبقى منه وتقوم بعد تأكدها من استغراقه في نوم عميق إلى غرفة المكتب وتفتح حقائبه وتجمع المستندات وتصورها تصويرا دقيقا وتحتفظ بالأفلام لحين موعد سفرها.
عميل كي جي بي
واستمرت على هذه الحال قرابة الشهرين وهي تعيش معه وتحصل منه على كل المستندات التي يحوزها بصفته الوظيفية فتأخذ نسخا منها، ومن تلك التي يحتفظ بها في خزانة خاصة فقد استطاعت أيضا أن تصل إليها وإلى ما فيها وتأكدت من خلال هذه الوثائق والمذكرات التي كتبها بخط يده أنه عميل لجهاز كي جي بي السوفييتي!
بعد هذين الشهرين سافرت ريناتا إلى باريس وهناك سلمت الفتاة المصرية الباريسية الأفلام التي وصلت في النهاية إلى المخابرات المصرية التي تمكنت من أن تخدع إسرائيل وجهاز الموساد باستخدام عميل للسوفييت ليعمل لصالحها دون أن يدري العميل ودون أن تدرى المخابرات السوفييتية وبطبيعة الحال دون أن يدري الموساد ورجاله. كانت من ضمن الأوراق والمستندات التي حصلت عليها ريناتا المفكرة الشخصية لديفيد بن جوريون شخصيا وكان بيير حصل على هذه الفكرة من صديقه بحجة أنه سيكتب كتابا عن سيرته وسيحتاج لمعرفة بعض الأمور الخاصة عن حياة بن جوريون ليستكمل كتابه وكم كانت مفاجأة ضابط المخابرات المصري عندما وجد بين يديه مفكرة تضم أخطر أسرار إسرائيل والموساد ومكتوبة بخط يد بن جوريون نفسه، وهكذا توصلت مصر إلى حقائق ومعلومات خطيرة كثيرة من تلك التي كانت تدور في كواليس وأروقة مجلس الوزراء الإسرائيلي والموساد والقوات العسكرية الإسرائيلية.
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء في الثامن والعشرين من مارس عام 1961 وفي الثامنة ودقيقتين تحديدا خرج رجل من شقته في 67 شرع برانديس في تل أبيب وهو يحكم أزرار معطفه وبيده حقيبة جلدية تضم مجموعة ضخمة من الأوراق، أسرع الرجل الذي كان يسير وحيدا تقريبا في الشارع الخالي وأخذ يتلفت حوله كمن يريد التأكد من أن أحدا لا يراقبه واستدار نحو شارع جانبي ثم دخل كابينة هاتف من هواتف الشوارع وكانت لا تبعد عن منزله أكثر من ثلاثمائة متر وتوقف يلتقط أنفاسه اللاهثة ثم تلفت حوله مرة أخرى وعندما اطمأن أنه غير مراقب انطلق متجها إلى شارع منخفض قليلا نحو مقهى صغير يقبع في إحدى زوايا الشارع.
طلب الزبون زجاجة خمر وأخذها وانزوى في ركن بعيد من المقهى ليتحاشى أضواء الشارع الشديدة ووضع الحقيبة التي كانت بيده جانبا ثم أشعل سيجارة وأخذ ينظر بقلق لساعته يتابع الوقت بين دقيقة وأخرى..وبعد خمس دقائق أخرى دخل المقهى رجل آخر وكان يرتدي بدلة سوداء وقبعة ذات حافة عريضة وأشار بيده نحو الجالس في زاوية المقهى ثم اقترب منه وجلس على المقعد المواجه له.. وبعد لحظات جلس الرجلان صامتين تناول الضيف الحقيبة ومضى خارجا وكأن شيئا لم يحدث وبعد دقائق قليلة نهض الرجل ذو المعطف ودفع الحساب وخرج صامتا كأنه ميت بعث لتوه إلى الحياة.
عندما ظهرفى الشارع أخذ ينظر إلى الرجل الذي كان جالساً معه مرة أخرى ثم مضى في طريقه ولكن كانت يداه خاويتين هذه المرة.. وبعد أن صعد الدرج متجها إلى شقته اتجه إلى مكتبته العامرة بالكتب بكل اللغات وجلس وكأنه ينتظر شيئا ما.. لعله كان ينتظر هاتفا أو زائرا.. و
فى حوالي الساعة الثانية عشرة وقفت سيارة أمام البناية رقم 67 وصعد الرجل الذي تسلم الحقيبة إلى شقة لم يكن بابها موصدا وترك السيارة تعمل، وعندما دخل لم يمكث طويلا حيث وضع حقيبة الأوراق التي كانت بحوزته. في هذه اللحظة دق هاتف منزل أيسر هارئيل الذي كان قريبا من الهاتف ويتوقع مكالمة في هذا التوقيت رغم بدء مراسم عيد الفصح. قال المتحدث على الجانب الآخر..التقى صاحبنا برجل المخابرات الروسي للمرة الثانية هذه الليلة وسلمه حقيبة الأوراق ثم افترقا وبعد ساعات عاد إليه في بيته وهو الآن بالداخل معه.. ساله هاريل: هل أنت متأكد من العنوان والشخص؟
نعم أنا الآن بالضبط أمام 67 شارع برانديس نعم هذا هو محل إقامة بيير. طلب أيسر من محدثه استخراج أمر من النيابة بتفتيش شقة إسرائيل بيير ثم أغلق السماعة ليطلب بن جوريون مرة أخرى..لم تستغرق المحادثة أكثر من عشردقائق وفي نهاية المكالمة قال أيسر لـ بن جوريون، سألقي القبض اليوم على إسرائيل رد بن جوريون عليه وهو شبه مصدوم: قم بواجبك. عندما هم ضيف بيير بالانصراف بعد أن أدى مهمته دخلت ريناتا من الخارج بينما كان الضيف قد تجاوز المنطقة ما بين غرفة مكتب بيير والباب الخارجي حيث تبادلت النظرات مع ضيفه وأومأت إليه بتحية سريعة وبعدها ألقت نفسها بين ذراعي صديقها وسألته في براءة من هذا يا بيير؟
أجاب إجابة مقتضبة وسريعة توحي بأنه لا يريد الدخول في تفاصيل ما دار بينه وبين صديقه.. أدركت ريناتا أن بيير ليس في حالة طبيعية فلم تشأ أن تواصل أسئلتها لكنها لاحظت أن هناك كومة كبيرة من الأوراق والمستندات إضافة إلى الحقيبة التي أحضرها الزائر منذ قليل.
رحلة السكر الأخيرة
وبعد حوالي ساعة كان بيير قد أكمل رحلة السُكر اليومية وبدأ يترنح حيث ساعدته ريناتا حتى وصل إلى السرير وتركته على الفور لتبدأ مهمتها حيث استطاعت تصوير أفلام خبأتها على الفور وتظاهرات بالنوم بجواره وعند الساعة الرابعة فجرا أفاق بيير لما سمع صوت اصطدام شديد فهب مذعورا ليجد عشرة عناصر من الموساد داخل شقته، وقد خلعوا باب الشقة بضرباتهم وأصبحوا في لحظات داخل غرفة نومه. كان كل شيء في مكانه الأوراق والحقيبة التي تركها ضيفه في زيارته الثانية ولم يزد على الشقة شيئا سوى وجود ريناتا في غرفة نومه. تحدث قائد القوة التي هاجمت شقة بيير وقال له: أنت معتقل الآن ولدينا تعليمات بتفتيش الشقة.. عقدت الصدمة لسان بيير الذي تجمد في موضعه، ولم يقل أكثر من نفس العبارة التي قالها بن جوريون منذ قليل لأيسر: قم بواجبك..! فتح الضباط ورجال الموساد الحقيبة التي كانت تضم عدداً من الوثائق السرية جدا ومن ضمنها وثيقة لقائمة مفصلة لمصانع الأسلحة الكبرى في إسرائيل.. والأخطر من هذا كانت مفكرة بن غوريون ضمن المستندات والأوراق التي عثروا عليها بشقة إسرائيل بيير منذ أن استعارها المحلل الكبير من صديقه رئيس الوزراء لتساعده في كتابة عدد من المقالات ومؤلف خاص عن فلسفة بن جوريون في الحكم وقيادة إسرائيل..!.
تم القبض على إسرائيل وصديقته ريناتا التي وجهت إليها التهمة نفسها، ولكنها دافعت عن نفسها بأنها لا تعلم عنه أكثر من كونه موظفا كبيرا بوزارة الدفاع وأنها كانت مجرد صديقة لا علاقة لها بأعماله الأخرى كما برأها إسرائيل نفسه، وبالتالي خرجت بعد أيام قليلة من السجن لتطير إلى باريس وتسلم الأفلام التي صورتها في تلك الليلة للمصرية الباريسية التي سلمتها لشقيقتها المضيفة التي سلمتها بدورها للمخابرات المصرية، وظل الموساد زمنا طويلا لا يعلم أن المرأة التي قبض عليها مع إسرائيل كانت عميلة للمخابرات المصرية وأنها حصلت على كل الوثائق والمستندات التي حصل عليها السوفييت عن طريق إسرائيل بيير.
النهار الكويتية