- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
إبراهيم نوار يكتب: أين تؤلم حرب غزة اقتصاديا وما هي تكلفتها؟
راي حر...
إبراهيم نوار يكتب: أين تؤلم حرب غزة اقتصاديا وما هي تكلفتها؟
- 26 نوفمبر 2023, 8:33:14 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بالنسبة لمئات الآلاف في غزة فإن الحرب هي حد فاصل بين الحياة والموت، وليست مجرد خسارة اقتصادية؛ فهناك ما يقرب من 15 ألفا في غزة والضفة الغربية فقدوا حياتهم وغيبتهم الحرب عن العالم، منهم أكثر من 5500 طفل، هناك عائلات ممتدة راحت بأكملها. وهناك عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين، وهناك مئات الآلاف فقدوا أعزاء لهم من الأقارب والأصدقاء والجيران وفقدوا أعمالهم وممتلكاتهم. في هذه الحالات فإن الخسائر البشرية تتجاوز غيرها من الخسائر، ولا يمكن تعويضها، أما غيرها من الخسائر فإنها تهون مهما كانت التكلفة. ومع أن قطاع غزة هو الأشد تعرضا للضرر والألم، فإن الخسائر الاقتصادية للحرب تمتد إلى ما وراء غزة في كل فلسطين، والدول الأخرى المجاورة. وعلى الرغم من دخول أطراف أخرى من خارج فلسطين إلى مناوشات في هذه الحرب، مثل قوات حزب الله اللبناني، وقوات حكومة أنصار الله في اليمن، فإن التداعيات الإقليمية المباشرة لهذه الحرب سياسيا واقتصاديا ما تزال في مرحلتها الأولى. هناك إذن ثلاثة مستويات لتحديد ملامح التداعيات الاقتصادية للحرب. المستوى الأول هو تكلفة الحرب التي يتحملها الطرفان الرئيسيان، المعتدي والضحية، إسرائيل وفلسطين (غزة والضفة والقدس الشرقية – حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية). المستوى الثاني هو تكلفة الحرب التي تتحملها بشكل غير مباشر الأطراف الإقليمية والخارجية، حتى وإن كانت لا تشارك في الحرب بما في ذلك خسائر إمدادات الطاقة، والنقل البحري، والسياحة.
فلسطين وإسرائيل
منذ تم توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994 أصبحت المناطق الفلسطينية المحتلة تشكل وحدة اقتصادية مندمجة مع إسرائيل في سوق داخلية واحدة، تخضع لنظام جمركي واحد، وتسمح بحرية الانتقال الداخلي للسلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، وانتقال العمل عبر المنافذ الحدودية من المناطق المحتلة وفق شروط وضعتها إسرائيل، واستخدام العملة الإسرائيلية في السوق الواحدة ككل، إضافة إلى ترابط البنية الأساسية واعتماد المناطق الفلسطينية المحتلة على البنية الأساسية الإسرائيلية، بما في ذلك الموانئ والمطارات والطاقة والمياه. ولذلك فإن السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله منذ تأسيسها، أو سلطة حماس في غزة، بعد انفصالها إداريا عن حكومة رام الله، كانتا تعملان اقتصاديا في إطار «سوق واحدة» مع إسرائيل، وفشلت كل منهما، أو لم تنتبه لأهمية إقامة سوق مستقلة في فلسطين، وهو ما جعل المناطق الفلسطينية المحتلة تحت رحمة إسرائيل اقتصاديا. وفي هذا السياق فإن الموارد المالية التي تحصل عليها السلطة الوطنية الفلسطينية من إسرائيل تسهم وحدها بتغطية ما يصل إلى ثلثي مصروفات ميزانيتها السنوية، بما فيها قوات الأمن الداخلي المسؤولة عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، ويتم تمويل الثلث المتبقي بواسطة المساعدات العربية والأوروبية والدولية، وهي مساعدات تمر عبر إسرائيل قبل وصولها إلى حكومة رام الله وحكومة غزة. أما في غزة فإن نسبة أكبر من تمويل الميزانية تأتي من المساعدات الخارجية، خصوصا من قطر ومن منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، في حين تستحوذ إسرائيل على كل مستحقاتها من ضرائب وتأمينات العمال والجمارك مقابل إمدادات الماء والكهرباء.
القدرة على التحمل
وقد أظهرت الحرب أن قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تحمل الحرب هي أقل بكثير من قدرة الاقتصاد الإسرائيلي. وقدرت الأمم المتحدة أن خسارة الاقتصاد الفلسطيني في الشهر الأول من الحرب تعادل 4.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وأنها من المتوقع أن تتضاعف في الشهر الحالي إلى 8.4 في المئة، بقيمة تبلغ حوالي 1.7 مليار دولار. وفي المقابل فإن بنك إسرائيل يقدر الخسائر بنسبة 1 في المئة من الناتج سنويا في العامين الحالي والقادم، أي بحوالي 5.2 مليار دولار، مع زيادة عجز الميزانية إلى 65 في المئة من الناتج المحلي مقابل 60 في المئة فقط قبل الحرب.
لكن هذه التقديرات تظل مجرد توقعات غير نهائية حتى تضع الحرب أوزارها. ومن الملاحظ بشكل عام أن تقديرات تكلفة الحرب سواء بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين هي تقديرات متحفظة جدا. ذلك أن تكلفة الحرب بالنسبة للفلسطينيين يجب أن تشمل خسائر المنشآت والمرافق الأساسية وتكلفة إعادة بنائها. كما أن تكلفة الحرب بالنسبة للإسرائيليين خرجت فعلا عن حدود التوقعات مع بطء التقدم العسكري في قطاع غزة، وتزايد حدة المناوشات بين إسرائيل وجنوب لبنان، والتهديد الذي تمثله هجمات حكومة أنصار الله بالصواريخ والطائرات المسيرة على منطقة ميناء إيلات والبحر الأحمر، وهي الهجمات التي تترك أثرا سلبيا على حركة السفن المتجهة إلى إسرائيل أو منها عبر البحر الأحمر.
انخفاض النشاط الاقتصادي
أدت الحرب إلى انخفاض النشاط الاقتصادي في إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة، بسبب الارتباط القوي بين الطرفين منذ عام 1994. وتعتبر إسرائيل هي الشريك التجاري الأول للسلطة الوطنية الإسرائيلية. وقد بلغت قيمة الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل في العام الماضي 1.58 مليار دولار بنسبة زيادة 8.6 في المئة. وفي المقابل فإن الواردات الفلسطينية من إسرائيل بلغت حوالي 8.19 مليار دولار أي ما يزيد على 5 أمثال قيمة الصادرات، وهو ما أسفر عن عجز تجاري بقيمة 6.61 مليار دولار. وبسبب الإغلاق في الضفة الغربية، وحرب الإبادة في غزة فإن شرايين الاقتصاد الفلسطيني الممتدة إلى داخل إسرائيل والمستوطنات في الأراضي المحتلة، إما إنها قد انقطعت تماما، مثل توقف انتقال العمل، الذي يشمل ما يقرب من 165 ألف عامل فلسطيني كانوا يتنقلون يوميا أو أسبوعيا من الضفة والقطاع إلى إسرائيل والمستوطنات. وقد أصدرت إسرائيل قرارا بوقف تشغيل الفلسطينيين، وترحيل المقيمين الذين كانوا هناك قبل الحرب إلى الضفة الغربية. ويمثل هؤلاء مصدر دخل رئيسي للاقتصاد العائلي والإنفاق الاستهلاكي في فلسطين. كما تمثل الضرائب والرسوم والتأمينات المستردة والرسوم الجمركية على الصادرات والواردات حوالي 65 في المئة من إيرادات الميزانية الحكومية للسلطة الفلسطينية في رام الله. ومع انخفاض الطلب المحلي وتوقف العمل في إسرائيل فإن الاقتصاد الفلسطيني ينزف أكثر كلما طالت الحرب. وتبلغ نسبة النزيف الاقتصادي إلى الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين حوالي 8 في المئة الناتج الذي يبلغ حوالي 20 مليار دولار. أما في إسرائيل فإن نسبة النزيف الاقتصادي بسبب الحرب تصل إلى 1 في المئة أي ما يعادل 5.2 مليار دولار من الناتج الذي يبلغ 522 مليار دولار.
وبسبب الترابط بين أنشطة اقتصادية مثل السياحة والتجارة والطاقة والنقل، فإن الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية تتحمل أيضا جزءا من الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية. على سبيل المثال فإن قطاع السياحة في الضفة الغربية والقدس الشرقية يستوعب نسبة 4.3 في المئة من قوة العمل الفلسطينية. ومن الملاحظ أنه على الرغم من انتعاش السياحة في النصف الأول من العام الحالي فإن عدد العاملين فيه انخفض بنسبة 8 في المئة مقارنة بالفترة المقابلة من عام 2022. وفي المقابل فإن عدد العمال الفلسطينيين المشتغلين في قطاع السياحة والفنادق الإسرائيلي زاد في الأشهر السابقة للحرب بمقدار ألفي عامل. هذا يعني أن محرك التشغيل في قطاع السياحة الإسرائيلي أقوى تأثيرا على قطاع السياحة الفلسطيني. وبعد توقف قطاع السياحة تقريبا في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة منذ بدأت الحرب، فإنه من المتوقع أن تكون نسبة كبيرة من العاملين الفلسطينيين قد خسرت وظائفها. وهو ما يعني بالنسبة للفلسطينيين العاملين في قطاع السياحة الإسرائيلي خسارة وظائفهم، وعدم وجود فرص عمل لهم في المناطق الفلسطينية.
الخسائر الاقتصادية الخارجية
تركت الحرب آثارا اقتصادية سلبية على الدول المجاورة والعالم، لكنها ما تزال أقل من توقعات سابقة، لأن الحرب بينما هي تتجه الآن إلى بعض التهدئة، فإنها أصبحت ابعد عن أن تتحول إلى حرب إقليمية، خصوصا مع صدور تصريحات مباشرة عن مسؤولين إيرانيين، تفيد بأن طهران لا تسعى حاليا إلى حرب مع إسرائيل. ومع ذلك فإن إسرائيل تتعرض منذ بداية الحرب لتصعيد في الاشتباكات على الجبهة اللبنانية، إضافة إلى دخول حكومة أنصار الله في صنعاء على خط المواجهة باستخدام مسيرات وصواريخ متوسطة المدى وصلت إلى محيط مدينة ايلات ميناء إسرائيل الرئيسي على البحر الأحمر. وقد تركت الأنشطة العسكرية بالقرب من السواحل والموانئ الإسرائيلية آثارا سلبية واضحة على حركة السفن السياحية في البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط، كما أنها تركت آثارا سلبية كبيرة على حركة النقل البحري، سواء في شرق المتوسط أو في البحر الأحمر، ليس فقط بالنسبة للسفن المتجهة من وإلى إسرائيل، ولكنها شملت أيضا النقل البحري العابر للبحر الأحمر عموما. وتظهر متابعة مؤشرات التأمين على مخاطر النقل البحري من وإلى الموانئ الإسرائيلية ارتفاعا صارخا في قيمة التأمين على السفن وعلى الحمولات المنقولة بنسب وصلت إلى أكثر من 1000 في المئة. وعلى الرغم من أن ذلك أدى إلى امتناع بعض الشركات عن تسيير ناقلات إلى إسرائيل، فإن شركات مثل «تسيم» الإسرائيلية قالت إنها لن تستطيع التوقف، كما أنها لا تستطيع تحمل الزيادة في رسوم التأمين. وبناء عليه فإنها قررت نقل عبء الزيادة في رسوم التأمين إلى المتعاقدين، وكذلك طلب مساعدة مالية من الحكومة الإسرائيلية. وقد التزمت إسرائيل بتعويض خسائر السفن التي تعرضت لأضرار في موانئ عسقلان وأشدود وغيرها بسبب العمليات العسكرية. لكن ارتفاع تكلفة التأمين من شأنه أن يؤدي بشركات النقل البحري إلى تجنب المرور عبر البحر الأحمر وشرق المتوسط، وهو ما يعني بالتبعية تجنب المرور عبر طريق قناة السويس البحري. ونحن نتوقع أن تظهر إحصائيات هيئة قناة السويس انخفاضا في أرقام السفن والحمولات العابرة عما كانت عليه في المتوسط حتى الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. كما أن قطاعات السياحة في الأردن ومصر والسعودية تعاني هي الأخرى من النقص في أعداد السائحين خلال موسم أعياد رأس السنة الميلادية وموسم السياحة الشتوي بشكل عام.
وبسبب عدم تحول الحرب إلى مواجهة إقليمية متعددة الأطراف، فإن سوق النفط والغاز العالمي لم تتعرض للمخاطر المتوقعة، وهدأت موجة ارتفاع الأسعار التي ترافقت مع بدء الحرب، بعد أن كانت قد دفعت بأسعار النفط إلى أكثر من 90 دولارا للبرميل، وأسعار الغاز المسال في أوروبا وآسيا إلى أكثر من 16 – 17 دولارا للمليون وحدة حرارية. وساعد هذا التراجع في أسعار النفط والغاز على تخفيض توقعات ارتفاع التضخم في الدول الصناعية، وهو ما خلق مناخا ايجابيا في أسواق النقد العالمية، يبشر بقرب تخفيض أسعار الفائدة على الدولار والعملات العالمية الرئيسية.
باختصار، ودون احتساب تكلفة إعادة البناء، ترتفع تكلفة الحرب بالنسبة للأراضي الفلسطينية المحتلة إلى ما يقرب من 1.7 مليار دولار شهريا حسب تقديرات الأمم المتحدة. في حين تتكلف إسرائيل حوالي 5.2 مليار دولار سنويا. وبسبب الحرب ارتفعت البطالة في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى حوالي 49 في المئة، وسقط أكثر من نصف مليون شخص جدد إلى هوة الفقر والجوع، وتعرض أكثر من نصف المساكن والمنشآت في قطاع غزة للدمار الكامل أو الجزئي، كما تعرضت البنية الأساسية أيضا لتخريب واسع النطاق. ولذلك فإن تكلفة الحرب على الفلسطينيين شديدة القسوة، وسوف تحتاج عمليات إعادة البناء إلى عشرات المليارات من الدولارات وربما أيضا إلى عشرات السنين.