- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
د.أيمن منصور ندا يكتب : بجماليون : عندما يغضب العشاق!
د.أيمن منصور ندا يكتب : بجماليون : عندما يغضب العشاق!
- 11 يونيو 2021, 3:34:40 ص
- 3142
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في الأساطير الإغريقية واليونانية القديمة توجد قصة "بجْماليون" ؛ فنَّان نحَّات ، أودع كلَّ عبقريته في نحت تمثال لإمرأة جمع فيها كلَّ آيات الجمال والحسن البشري (ست الحسن كاملة الأوصاف) ، ووقع في غرامه وغرامها، وبدأت تظهر عليه علامات الشقاء والمرض بسبب هذا العشق ، وهو ما جَعَل ربَّة الحب والجَمال "فينوس" تتعاطف معه وتقرر بث "الروح" في هذا التمثال ، وتحوَّل التمثال إلى فتاة (جالاتيا) فائقة الحسن رائعة الجمال.. غير أن التحولات البشرية تقضي بأن تحب "جالاتيا" شخصاً آخر غير "بجماليون" الذى صنعها وأبدعها ، وتزداد معاناته ، فتتدخل "فينوس" وتُحوِّل "جالاتيا" إلى تمثال مرة أخرى ، فينهال عليه "بجماليون" محطماً إياه، لتنتهي قصة إبداع وعشق وجمال إلى ذرات تراب وألواح رخام مكسور..
عندما يغضب العشاق ، يتساوى الوجود والعدم ، وتتبدل الوجوه ، وتتغير الأقنعة ، وكذلك القناعات .. لذلك قيل: اتق شرَّ العاشق إذا غضب .. عندما يغضب العشَّاق ، تراهم في كلّ وادٍ يهيمون ، وقد يقولون ما لا يقصدون .. أشدُّ الناس عشقاً هم أكثر الناس نقداً لتجاهل محبيهم ، وأكثرهم شعوراً بالغُبْن إذا ما قَصَّر هؤلاءِ المحبّون في حقهم .. رادارات العشَّاق أكثر حساسيةً لأي تغير في أفق المشاعر، وأكثر إدراكاً لأي تحول في ألوان الطيف العاطفي.. إحباطاتهم مساوية لشدة توقعاتهم في المقدار ، ومضادة لها في الاتجاه.. لذلك لا تستهن بعاشق شعر بالظلم ، ولا تقلل من ثورة محب عانى جحود من أحب .. فقد تفاجيء بما لا تتوقعه ، وقد تجد ما لا يساعدك الخيال على تصوره..
كثيرٌ من العشاق يعتقد ما كان يعتقده المتنبي من أنه لا يحتاج إلى الإفصاح عن عشقه ولا عن مبرراته ما دامت معشوقته تعلم بذلك "وفي النفس حاجات وفيك فِطانةٌ .. سكوتي بيان عندها وخِطابُ" .. وبعضهم يحترق بنار الشوق إن لم يفصح عن أحزانه وعما يسبب له الضيق كما أشار إلى ذلك جرير "ما كُنتُ أَوَّلَ مُشتاقٍ أَخا طَرَبٍ.. هاجَت لَهُ غَدَواتُ البَيْنِ أَحزاناً" .. وبعضهم لا يجدي معه القول أو السكوت كما هي حالة مجنون ليلى "فلا وصلٌ يبردُ فيه قلبي .. ولا صبرٌ، وهل يجدي اصطباري".. وبعضهم يرى أن يسلك في عشقه طرقاً ومسارات لا يسلكها أحد غيره كما قال البارودي "أسير على نهج يرى الناس غيره ... لكلّ امرىء فيما يحاول مذهبُ".. غير أن "كل الطرق تؤدي إلى روما" في نهاية المطاف : حيث الشعور بالظلم وبالغدر ، و"لابد من "عدن" وإن طال المدى" كنهاية محتومة لكل قصص العشق البشري..
العشاق لأوطانهم هم أكثر الناس حساسيةً تجاه مشكلات أوطانهم ، وأكثرهم غيرةً عليها .. كل عاشق لوطنه هو في النهاية "بجماليون" ؛ يرسم الوطن كما يحسه ، وكما يشعر به ، وكما يتمناه .. الأوطان قد تكون، في بعض الأحيان، جاحدةً وقاسيةً على أبنائها المخلصين المحبين الذين لا يملكون إزاء ذلك سوى الاستسلام لهذا الجحود "بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ .. وقومي وإن ضنَّوا عليَّ كرام" .. أو الغضب الممزوج باللوعة وإعلان النفير العام في الشكوى "شكوتُ وما شكواي ضعف وذلة .. فلست بمستجدٍ ولا طالباً يداً".. غضب العشاق ومعارضتهم لا تحسبوه شراً للأوطان بل هو خير .. وربَّ عاشق غاضب ثائر ، خير من عاشق مؤيد قانع..
مواقف الشعراء العشاق لأوطانهم ، والذين أظهروا تحولات في مواقفهم نتيجة شعورهم بالظلم وعدم التقدير كثيرة ومتعددة .. أبو الطيب المتنبي كان نموذجاً لهؤلاء الشعراء .. كان المتنبي إذا أُعْطي وقُدِّر مَدَحَ ، وإذا مُنِع وأُبْعِد قَدَحَ .. ديوان المتنبي هو رحلة شاعر عظيم بين المنع والعطاء ، وبين اليأس والرجاء ، وبين الشجاعة الأدبية ، والجبن في الحياة الواقعية (قتله شعره)..
رب السيف والقلم وإنذار شديد اللهجة ضد مصر!
محمود سامي البارودي ، إحدى الشخصيات البارزة سياسياً وعسكرياً وأدبياً أثناء الثورة العرابية .. وتم نفيه إلى "سرنديب" عقاباً له على مواقفه الوطنية .. أشعار البارودي هي أشعار وطنية في المقام الأول .. غير أنه كان كثيراً ما يشعر بغصّة في حَلقِه من عدم التقدير "فإن يكن ساءهم فضلي فلا عجب" ، وكثيراً ما كان يشعر بالإحباط نتيجة عدم إتباع رأيه في كثير من المواقف "وكان أولى بقومي لو أطاعوني" .. أشعار البارودي الغاضبة كانت أسواطاً على ظهر هذا الوطن ، وكانت صرخات عاشق في البرية مستنجداً بربها وببارئها .. في قصيدة شائعة مطلعها "قلدتُ جِيد المعالي حِلية الغزل" ، وصف البارودي المصريين بأنهم قوم سوء ، وأنهم أهل زور وظلم وجور ، وأنهم يعيشون في ظلام دامس ، وأن أرض مصر هي أرض الغدر والزلل "بئس العشيرُ وبئست مصر من بلد ... أضحت مناخاً لأهل الزور والخطل ... أرض تأثل فيها الظلم ، وانقذفت.. صواعق الغدر بين السهل والجبل" !!
شاعر النيل : بركان ثائر
حافظ إبراهيم ، الذي تغنت له السيدة أم كلثوم بأشهر الأغاني الوطنية "وقف الخلق ينظرون جميعاً .. كيف أبني قواعد المجد وحدي" ، كان الأكثر غضباً على مصر وعلى شعبها في مواقف عديدة، عندما لم يجد التقدير الكافي ، وعندما لم يشعر بالحفاوة المناسبة .. لحافظ قصيدة مطلعها "حطمت اليراع فلا تعجبي" ، يشير إلى كون مصر بلد سوء وينفي كونها بلدة طيبة "فما أنت يا مصر دار الأديبِ .. ولا أنت بالبلدِ الطيبِ" ، ويصب جام غضبه على الشباب المصري الذى يراه أكثر خطورة على مصر من الاحتلال الأجنبي "يقولون : في النشءِ خيرٌ لنا .. وللنشءُ شرٌّ من الأجنبي" .. في قصيدة أخرى ، وصف حافظ إبراهيم مصر بأنها أمة إلى زوال لما فيها من ظلم وجور وعدم تقدير لأبنائها النابغين "فيا أمةً آذنت بالزوال .. رجعنا لعهد الهوى فأرجعي"!!
أمير الشعراء : عرابي خائناً
أحمد شوقي أبلغ الشعراء في العصر الحديث ، صاحب القصائد الطوال في حب مصر وعشقها ، ويكفيه "كبار الحوادث في وادي النيل" .. وعندما تم نفيه إلى إسبانيا كانت قصائده الباكية في حب الوطن وفي الشوق إليه وفي استنكار إجباره على الصمت "أحرامٌ على بلابله الدوحُ .. حلالٌ للطير من كل جنس".. وكثيراً ما أشار إلى شوقه إليها وإلى جرعة من ماء نيلها "يا ساكني مصر إنا لا نزال علي ... عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا... هلا بعثتم لنا من ماء نهركموا ... شيئاً نبل به أحشاء صادينا" ... رغم هذا الوله بمصر ، فقد كان له مع الزعيم أحمد عرابي موقف شائع .. شوقي الذي استنكر أن يخون أولاد إسماعيل " أأخون إسماعيل في أولاده .. وقد وُلِدتُ بباب إسماعيلا".. كان يرى في أحمد عرابي إماما للخائنين ، وزعيماً للمتمردين .. وعندما عاد عرابي من منفاه استقبله شوقي بعدة قصائد هجائية صادمة "صغار في الذهاب وفي الإياب .. أهذا كل شأنك يا عرابي".. و"عرابي كيف أوفيك الملاما ... جمعت على ملامتك الأناما" .. و"أهلا وسهلاً بحاميها وفاديها ... ومرحباً وسلاماً يا عرابيها"..
أمل دنقل : كلمات سبارتاكوس الأخيرة
رغم شهرة وذيوع قصيدته "لا تصالح" وما بها من دفقة شعورية وطنية صادقة، فقد وصل أمل دنقل في بعض قصائده إلى قناعات استسلامية واضحة يأساً من اصلاح الأوضاع في مصر .. وكانت كلمات سبارتاكوس الأخيرة (محرر العبيد في أثينا القديمة) عكس كل القناعات التي كان ينادي بها طيلة حياته ، إذ بدأ القصيدة بقوله : "المجد لمن قال "لا" في وجه من قال "نعم" ، واختتمها بقوله "إن رأيتم طفلي على ذراعها .. بلا ذراع.. فعلموه الانحناء .. علموه الانحناء"..
نجيبيات
الشاعر المبدع الذي ظُلِم حياً وميتاً "نجيب سرور" ، كانت تجربته في الصراخ والتوجع من الظلم المجتمعي له تجربة فريدة نشرها في ديوان كامل ، انتقد فيه الأوضاع السياسية والاجتماعية والفنية المتردية في مصر من وجهة نظره .. رغم كونه القائل لابنه شهدى (الذى توفي مؤخراً) ، في قصيدة بديعة "يا بني بحق التراب ، وبحق حق النيل .. لو جعت يا بني ولو شنقوك ما تلعن مصر .. اكره.. واكره.. واكره .. بس حب النيل.. وحب مصر اللى فيها مبدأ الدنيا.. دى مصر (يا شهدى) في الجغرافيا مالها مثيل .. وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية"..
الفاجومي وبقرة حاحا
الفاجومي أحمد فؤاد نجم كانت له صولات وجولات في مجال المدح والهجاء ، والرضا والغضب على مصر وشعبها .. كان ينادي مصر أمه ويتغني بخلودها "مصر يأمة يا بهية .. يأم طرحة وجلابية .. الزمن شاب وأنت شابة .. هو رايح وأنتي جاية" .. رغم ذلك لم يسلم أحد من مصر من سخريته ومن نقده اللاذع ، خاصة الرئيسين السادات ومبارك.. وظهر ذلك في قصائد مشهورة منها "بقرة حاحا" ، و"شعبان البقال" ، و"شرفت يا نيكسون بابا" ، و"يا خواجة يا ويكا" ، و"فاليري جيسكار ديستان" وغيرها ..
أكرهها وأشتهي وصلها!
من أبلغ القصائد التي وصفت هذه الإزدواجية في الشعور : الحب المطلق والغضب الثائر ، الولاء التام والاغتراب الكامل ، لدى عشاق الوطن ، ما كتبه صلاح جاهين في قصيدته المشهورة "على اسم مصر" .. وصف فيها جاهين مشاعره ومشاعر كل وطنى غيور بقوله "بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء .. واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء.. واسيبها واطفش في درب.. وتبقى هي ف درب.. وتلتفت تلتقيني جنبها في الكرب.. "
ليست كل المعارضة حراماً ، وليس كل المنتقدين خونة ، وليس كل من يحاول الإصلاح له أجندات خارجية.. وقد يكون بعضهم الأشدَّ حباً لهذا الوطن .. إنها معادلة الحب والكراهية ، والافتنان والنفور عند عشاق هذا الوطن عندما يغضبون..