د. أشرف الصباغ يكتب : إتحاد خضرة المحشي 2

profile
  • clock 11 يونيو 2021, 3:15:32 ص
  • eye 1945
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قبل أن تدخل السيدة المحترمة، كنت أفكر جديا في الاستئذان والمغادرة، لأنه كان من المفترض أن أشتري خضرة محشي من نوال التي تقف هي وزوجها وأختها وابنة واحدة منهما بفرشتها بجوار مبنى الاتحاد الذي أصبح نقابة. وكان من المحتمل أيضا أن أمر على فرعي شركتي "اتصالات" و"فودافون" كالعادة لكي ألعنهم وأسبهم وأسب شركاتهم الرئيسية وغير الرئيسية وكل فروعها في مصر وفي جميع أنحاء العالم لأي سبب ما. لكن لما رأيت أن الموضوع قد أصبح مسليا على النحو الذي يسير عليه، قررت أن أقعد لأتفرج، على الرغم من أن السيدة ذات البالطو الكاكي والإيشارب الذي يبدو رمادي اللون، ويميل إلى أن يكون حجابا أكثر منه إيشارب ترتديه عادة نساء الطبقتين الوسطى والدنيا لأهداف متعددة ومآرب مثل مآرب موسى في عصاته، لم تهتم بي أو حتى تلقي على التحية أو تبدي أي اهتمام حتى بالنظر نحوي، وكأنها اعتبرتني جزءا من الطاولة الخشبية بنية اللون المضعضعة تماما أو ورقة في دفتر البفرة الذي يستخدمه أحد الشخصين الجالسين. وليتني ما جلست في ذاك النهار المهبب... 

في الواقع، وكما أوضحت في السابق، الاتحاد لا يبيع خضرة محشي ولا يصنع محشي، ولكنه يقوم بوظيفة أخرى تماما، ربما تشبه عملية صناعة المحشي، بدءا من زراعة الخضرة، الشبت والبقدونس والكوزبرة، وانتهاء بطهي أصابع الكرنب والباذنجان والكوسة الشهية في حلة ضخمة. الفكرة أن نوال اللطيفة وزوجها وأختها والفتاة التي لا يعرف أحد هل هي ابنة نوال أم ابنة أختها، محبوبة جدا من الناس هي وكل أفراد أسرتها الحاضرين وغير الحاضرين. وهي تبيع أنواعا كثيرة من الخضار الطازج والرخيص، ومن ضمن هذه الأنواع خضرة المحشي. الفكرة الثانية، أن الاتحاد يذكرني على الدوام من حيث تركيبته وشكله وهيكليته وطريقة عمله وأدائه بخلطة خضرة المحشي ودورها ليس فقط في عملية الطهي والتسوية، بل وأيضا في عملية الأكل والتذوق لدى هواة أكل المحشي. ويذكرني أيضا بكيف يتم عمل الخضرة وخلطها وهندستها وصياغة سرها العظيم. لكن الاتحاد شخصيا لا يزرع خضرة المحشي ولا يبيع خضرة المحشي، وفي أحيان كثيرة لا يقوم بأي شيء أصلا: هو مثل الفسوخة، إذ أن الأمور لا تخلو أحيانا من قضاء بعض المصالح، أو أن هذا الشخص أو ذاك يحتاج إلى مصلحة معينة أو إجراء انتخابات أو تشكيل لجان أو كتابة بيان تأييد أو شجب، فيتم تنشيطه، ويقضي الناس مصالحهم وسبوباتهم، ويبقى الاتحاد شامخا وكأنه فعلا اتحاد قابل لأن يتحول إلى نقابة، وأن تكون هناك أوراق رسمية خاصة به تميزه عن بقية الاتحادات الأخرى مثل اتحاد الكرة واتحاد لاعبي السلة والطائرة والسباحة، وكذلك طلبات عضوية وميزانيات مالية واستمارات مكتوب عليها كلمات مثل نقابة واتحاد وكُتَّاب وهي كلمات تذكرني بنفس الكلمات التي تتكون منها خلطة المحشي مثل شبت وبقدونس وكوزبرة. 

راحت السيدة ذات المعطف الكاكي الكالح والإيشارب الذي بدا بنيا قاتما وعليه بعض الرسوم الغريبة تحكي عن كتابها السادس الذي تعبت جدا في كتابته أثناء حملها في ابنها الأول بعد أن أنهت دراستها الجامعية مباشرة. وأضافت بأن كتابها الثامن عشر كان أكثر إزعاجا، لأنها كانت حامل في ابنتها الثالثة، وكان زوجها في تلك الفترة "يرافق البت صفية الوسخة بنت أم وجدي صاحبة الفرن اللي على الناصية"..

لاحظتُ أن الزميلين القديمين، نائب الرئيس والمسؤول المالي للاتحاد الذي أصبح نقابة، يتفاعلان معها بشكل لافت، بل ترك نائب الرئيس مكانه خلف مكتبه الخشبي الضخم ذي اللون الغريب بفعل الزمن ليجلس إلى جوارها، وقال في جدية: "أنا أذكر لما اتصلتي بينا هنا في الاتحاد، لما حصلت حريقة عندك، وجينا، وعرفنا إن جوزك هو اللي كان عايز يولع فيكي، وأنقذناكي في آخر لحظة". قالت له: "هو دا موضوع يتنسي! كان بيغير مني الواطي قليل الأصل. كنت مشغولة أيامها في كتابي الخمسة وتلاتين اللي هز مصر كلها"......

كان مزاجي معتدلا للغاية في ذلك اليوم. وفي الحقيقة، لم يكن في خطتي زيارة اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة اتحاد خضرة المحشي. هذا على الرغم من أن موعد استلام الكارنيه الجديد قد حان. كان من ضمن عاداتي بشكل عام أن أنزل من البيت لأتمشى قليلا. أصل إلى فرع شركة "اتصالات" الذي يقف على تقاطع ناصية حسن صبري مع شارع 26 يوليو. أدخل وأحصل على رقم. أقعد قليلا لأستمتع بمراقبة حركة العاملين والزباين وماذا يقولون وماذا يفعلون وما هي المشاكل التي تجعلهم متنمرين يهددون بعضهم البعض. وأقارن بينها وبين مشاكلي الدائمة مع نفس هذه الشركة. وبعد خمس دقائق، ورغم العراك والزعيق والتهديدات المتبادلة، يتولد لدى انطباع بأنهم يفهمون بعضهم البعض ويتحملون بعضهم البعض. فبعد خمس دقائق أخرى أجدهم قد تخلوا عن سبابهم وعراكهم وتهديداتهم التي تصل إلى إبلاغ الشرطة والنائب العام ورئيس الجمهورية، وبدأوا يضحكون ويمزحون ويلقون بالنكات، بصرف النظر عن حل المشكلة من عدمه. أمر شبيه بما يحدث بين سائقي التاكسيات وسائقي الميكروباصات الذين يقفون كيفما اتفق في أي مكان من الشارع، ويشبعون بعضهم البعض سبابا وتهديدا ولعنات، ثم ينصرف كل إلى حال سبيله. وأحيانا تنقلب المعركة إلى مباراة في إلقاء النكات والمزاح...  

عادة ما أُنْهِي أعمالي، في فرع "اتصالات"، بعد قليل من العراك والسباب والتهديدات. وطبعا هذا يتوقف على مرونة الموظفين وسعة صدرهم، لأنني في الأصل نزلتُ من بيتي لأتمشى وأتسلى قليلا وأنفس بعض الضيق الذي تسببه لي خطوط هذه الشركة السيئة أو جودة اتصال تلك الشركة الأسوأ. ومع الوقت أصبحت إحدى هواياتي الاحتكاك بموظفي شركة "اتصالات" و"فودافون" وجر شكلهم، لأن الشركتين لديهما أخطاء كثيرة وتعملان بشكل سيء للغاية. وليس من الصعب العثور على أسباب لجر الشكل وإطلاق التهديدات. بل والعثور على أموال ناقصة أو فاتورة مليئة بالأخطاء أو سرقة بعض الأموال بطرق ملتوية يعرفها كل المصريين تقريبا بإضافة خاصية أو تحميل فاتورة أحد العملاء على حساب عميل آخر. 

بعد ذلك أتجه إلى فرع "فودافون" في شارع حسن صبري. وهو عمليا يبعد عن فرع "اتصالات" بسبعة أو بعشرة أمتار لا أكثر. أدخل وآخذ رقم. أبدأ بتذكير نفسي بأمور تثير الضيق والغضب. أتذكر ما تفعله معي هذه الشركة، ومدى سوء وتدني خدماتها. ثم أسحب ما يحدث معي على ملايين المصريين فتثور ثائرتي ويرتفع مستوى غضبي إلى درجة لا يمكن أن يحتملها أحد مهما كانت قوة صبره. وعندما لم أكن أستطيع العثور على أسباب كافية من ناحية الشركة، كنتُ أذكِّر نفسي بأمور سخيفة حدثت معي في مراحل مختلفة من حياتي، أو حركة بذيئة فعلها أحد معي، أو مضايقة ما قام بها هذا أو ذاك في يوم ما من ثلاثين أو أربعين عاما. وعندما يأتي دوري أكون قد وصلت إلى أعلى درجات الغضب والتوتر والانفجار، وأبدأ في الزعيق إلى أن يأتي مدير الفرع ويبدأ معي بالتفاوض. 

أنا لستُ مجنونا، وإنما شركة "فودافون"، شركة مخادعة تمارس النصب والسرقة والاستيلاء على أموالنا مثل كل الشركات العابرة للمحيطات والقارات والقوميات. العاملون في شركات الاتصالات عموما يعملون بنفس طريقة المخبرين وأمناء الشرطة والضباط، وربما أسوأ بكثير. ولكن الذنب ليس ذنبهم، وإنما ذنب شركات النهب العالمية التي تفتح لنفسها فروعا في كل دول العالم، وبالذات في دول الغبار البشري التي يتم فيها تدجين البشر ومعاملتهم مثل الخراف والدواب والحمير وبقية الكائنات الوديعة. وبالتالي، فهناك ملاحظات كثيرة يمكن جمعها واستخدامها من أجل جر الشكل والعراك. أي أن توجيه اللعنات والاتهامات لهم لا يتم بشكل عشوائي وإنما دائما لأسباب وجيهة يعرفها كل من يملك هاتفا محمولا في جميع أنحاء العالم، وبالذات في تلك الدول التافهة التي يطلقون عليها، تأدبا، دول العالم الثالث أو الدول الفقيرة أو دول الجنوب. 

أقضي مصلحتي، وأغادرهم من دون توجيه أي كلمات شكر. وطبعا، ألاحظ أن عددا كبيرا من الموظفين يكون في غاية الانبساط والسرور عندما أكيل الشتائم والاتهامات للشركات وللمدراء الكبار الذين ينهبون وهم في غرفهم المكيفة. وتصل سعادتهم إلى الذرى عندما أبدأ في وصلة ردح من قبيل أن "هذه الشركة مجرد حرامية ولصوص، وأن الكلام ليس موجها إلى الأساتذة والأصدقاء الموجودين في هذا الفرع، وإنما للحرامية الكبار الذين ينهبوننا وينهبون حتى العاملين".. يبتهج العاملون الصغار وتلمع عيونهم ويظهرون حجما أكبر من التعاطف عندما يصل الحديث إلى أن هذه الشركات المنحطة لا تسرق الزبائن وتنهبهم فقط، بل تنجمع المعلومات عنهم وتسجل مكالماتهم وتبلغها للأجهزة الأمنية، بل ويستخدمها الموظفون في أغراض شخصية وفي التحرش والابتزاز. 


يتبع..... 3

التعليقات (0)