- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
أمل في الريع الخالي ومعتقلات السعودية..الرواية الخليجية (1)
أمل في الريع الخالي ومعتقلات السعودية..الرواية الخليجية (1)
- 17 يونيو 2021, 2:19:43 ص
- 1617
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من بيت أبيه في "أم المدائن" عاصمة الربع الخالي القديمة، كما يصفها الراوي المشارك، وبعد عامين دون نشاط سياسي معارض، يفاجأ بأن الشرطة تقبض عليه، وتأخذه إلى العاصمة الجديدة على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر؛ وسط استغرابه لأنه لم يقم بشيء ولم يحقق معه في شيء، فقط ألقي في السجن الجديد، ثم انتقل إلى سجن آخر، وكما تم القبض عليه بلا سبب، أخرجوه بلا توضيح؛ ليعود إلى أم المدائن ليجد بيت أبيه قد هُدم؛ فيعيش كالأغراب في فندق، ويتزوج من ذلك الضوء الذي ظل يسانده طيلة حياته "أمل".
تبدو سردية "الربع الخالي" التي وسمها السعودي عابد خزندار بـ "حكايات" نص عالم متسع لا يضيق رغم أنه يحكى في السجن، لكنه في الوقت نفسه عالم هزائم متلاحقة متلاحمة، فكأنه كما قال النواب: سجون متلاصقة.. سجان يمسك سجان.
عابد خزندار كاتب صحفي وروائي ومترجم سعودي، انتقلت عائلته الى الحجاز مع حملة إبراهيم باشا حيث عمل جده مسؤولا عن المالية في العهد التركي في الحجاز, و من هنا جاء لقب الخزندار. حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة القاهرة سنة 1957, ثم انتقل الى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل على درجة الماجستير في الكيمياء الحيوية من جامعة ميريلاند سنة 1960. عمل مدير عام في وزارة الزراعة سنة 1962 قبل أن يتم اعتقاله، حتى عام ١٩٦٥ ثم منع من السفر بعد خروجه من المعتقل لمدة تسعة أعوام ومنع من أي تعيين حكومي. انتقل إثر ذلك بعد انتهاء المدة الى فرنسا، وعرف بعموده في الصحف السعودية "نثارات" من مؤلفاته: "الإبداع"، الهيئة العامة للكتاب, القاهرة، 1988، "حديث الحداثة"، و"رواية ما بعد الحداثة"، و"المصطلح السردي"، ترجمة عن الانجليزية، المشروع القومي للترجمة، القاهرة, 2003، و"معجم مصطلحات السيميوطيقا"، ترجمة عن الانجليزية، المركز القومي للترجمة، و"التبيان في القرآن: دراسة أسلوبية"، مؤسسة اليماية، الرياض، 2013، و"الربع الخالي"، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت.
يبدأ النص بالقبض على الراوي الذي كان يحاول البحث عن فرصة عمل في إحدى شركات البترول لخبرته في الترجمة، ورغم سنه الكبيرة فقد كان لديه إحساس بأنه سيجد فرصة عمل ويكمل حياته مع "أمل" التي تجمعه بها صلة قرابة تمنعه من الزواج بها، وبدخوله السجن يقابل "عامر الخماش" وهو من أبناء الربع الخالي أيضًا، إلا أن سبب توقيفه هو أنه قتل مصريا على طريق الخطأ في أثناء عاصفة رملية شديدة. وبعد أن يحكي عامر الخماش قصة تعليمه وعمله وسفره لأمريكا وعودته ليجد أباه صار ثريًا بعد تعطل، من تجارته في الأراضي وتضاعف استثماراته وأعماله، يخرج من السجن لأن أباه أتى واستطاع إخراجه دون فدية؛ لأن المقتول بلا هوية.
يناقشه الراوي البطل فالقتيل المصري حكى للخماش قصته منذ دراسته مرورًا بذهابه للحرب ضد إسرائيل وقصة حبه ووصفه لمكان سكنه وسكن محبوبته في القاهرة، ويؤكد له الخماش أن أباه رفض لأن القتيل هارب من العمل.
يتم نقل البطل إلى السجن العام، ومن بعدها إلى سجن جديد "كان عبارة عن مجمع من الفلل كانت سكنا لواحد من الأسرة الحاكمة بنيت في بدايات تدفق ثروة البترول أقصد ثروة النفط الأولى، وأدركها البلى من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تعد تليق بثراء أصحابها، وفي هذا السجن يستمر البطل مستمعًا لقصص من يردون عليه، ويرحلون.
اختار السارد السجن مركزًا لحكايته؛ فمع ضيق المكان تحتاج النفس إلى الاعتراف، ومع شعور المسجون أنه لا شيء لديه سوى الحديث؛ فإنه يتحدث.. ويتحدث، ومن هنا يتحول السجن إلى نافذة يمكن للقارئ أن يرى فيها العالم كله، زمانًا ومكانًا، ورغم أن الكاتب معارض سعودي تعرض للاعتقال ثم ما يشبه المنفى الاختياري؛ فإنه اختار أن يجعل تجربة السجن نافذة للحديث عن العالم كله وتطوراته، لا عن ترسيخ مبادئه التي اعتقل لأجلها.
محاولات الشيوعية الفاشلة للسيطرة على السعودية، وانكسار تجربة تصدير الثورة المصرية، وتوغل الرأسمالية بمظاهرها الاستهلاكية وتحولاتها المرعبة؛ لتصل إلى هناك على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر من الرياض.. وفي مكان منسي تمامًا.. هذا ما يمكن وصف أحداث الرواية به؛ فالحكاية التي تبدأ بمعتقل متقاعد بلا سبب وتنتهي بالإفراج عنه بلا سبب ايضًا، تجعلنا ننظر في مصائر الأمم التي يتحدث أشخاصها بشكل عفوي.
التوالد الحكائي إذن هو سمة رئيسة لهذه الرواية فالبطل يحكي قصته قبل اعتقاله وأثناءها وبعدها، فيما يحكي له الثري الذي صدم مصريا حكايته منذ مولده وتعلمه وشظف عيشه ثم ثراء أبيه المفاجئ ووظيفته التي تجعله يسافر للدراسة في أمريكا وهناك يفتن بامرأة متزوجة من يهودي تكون نهايته المالية على يديه بعد أن يتزوجها وتسرق أمواله..
يحكي الثري أول مرة حين قتل مصريا بطريق الخطأ.. ثم تنبثق حكاية المصري التي حكاها له، وهو ينقله لأقرب مكان معتقدًا أن الصدمة بسيطة، لكن نزيفًا داخليًّا يؤدي إلى الوفاة، وأثناء الطريق يحكي المصري قصة تركه الجامعة دون إكمال، والتحاقه بالجيش وخروجه منه دون أن يشترك في حرب السادس من أكتوبر، ثم مجيئه للسعودية باحثًا عن طوق نجاة؛ ليجد نفسه يعمل في ظروف لاإنسانية عند ثري بلا قلب، يضطر معها للهرب فيصدمه ابن الثري.
ثم يأتي ضابط متورط في تخطيط لانقلاب، هيأه ضباط مصريون وكشفته أمريكا، لكن ثمرة هذا الاشتراك كانت زواج الضابط من ابنة المصري الذي جنده لهذه المهمة، وهي التي تظل مخلصة له حتى يخرج في عفو عام ويذهب للعيش معها في القاهرة.
الوحيد الذي يحكي يرمز له الراوي بـ (م. ص) وهو زميل دراسة قديم، ومن أبناء الربع الخالي أيضًا، لكنه منذ يدخل الحجرة، يشير للراوي بأنهم جلبوه هنا ليتنصتوا على ما يقول، وهنا يعنون المؤلف فصله بـ (حكايتنا) وهنا تتداخل الحكايات لكنها كلها على لسان البطل الرئيسي.
أي المدن تناولها المؤلف؟ لا يمكن تجاهل الرياض وبدء عمرانها، ولا القاهرة التي كانت أيام الجامعة مع بدايات ثورة 1952 "عالم الأفلام.. الشوارع العريضة المملوءة بالأشجار" وبين عودته الثانية ليبحث عن عائلة المصري المقتول بعد حرب أكتوبر بعدة سنوات: "أحسست أن قطارًا من الزلط قد مر على هذا البلد ومسحه مسحًا" أما مدن الربع الخالي، وخصوصًا مدينة البطل التي يلقبها؛ "أم المدائن" فقد وجدها تغيرت، وهدمت بيوتها القديمة رغم قصر مدة الاعتقال، واضطر البطل للسكن في فندق.
بعودة البطل للقاهرة ليبحث عن عائلة الجندي أو حبيبته يعود بالخيبة على مدينة صارت عشوائية بامتياز، والأكثر مدعاة للأسف أنه حين يعرض عليه الجرسون تقضية وقت ممتع؛ فإن من تأتيه سيدة يتذكرها على الفور؛ فقد حاول أحد أصدقائه خطبتها حين كانوا يدرسون في الجامعة.
يمكن النظر إلى المفارقات الميلودرامية على أنها نوع من التشويق الزائف، لكن التدقيق في دلالاتها المتشظية يردنا إلى آفاق أخرى: فهل من قبيل المصادفة أن يدهس السعودي مصريا كان جنديا ولا يحبس فيه ساعة؟ وأن تتسبب أمريكية زوجة يهودي في إفلاس السعودي نفسه؟
لكن أمل تبقى اللؤلؤة الثابتة، الفتاة التي نذرت نفسها للبطل.. عذراء.. تمده بما يحتاج.. فكأنها قلب مدينته الصافي الذي ينتظره حتى يعود ليبدأ حياة حرة بعد طول اعتقال.