أشرف الصباغ يكتب : اهلا وسهلا بكم في عالم النظيف

profile
  • clock 23 يونيو 2021, 2:09:32 ص
  • eye 948
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

من الواضح أن موجة "الفن النظيف" و"الكتابة النظيفة" و"الثقافة الوطنية" قد أرست قواعدها، وبدأت تجلياتها تظهر بقوة. 

لا يوجد إخوان مسلمين ولا سلفيين ضد الدولة في الوقت الراهن. مجرد "فلول" تم تحويلها من منافس على الحكم إلى مجرد ورقة يجري التلاعب بها داخليا وخارجيا (في حالة الإخوان)، و"فلول" تعمل لصالح الأجهزة الأمنية ولمصالحها الخاصة والضيقة جدا في الاقتصاد الموازي والاقتصاد "الأسود" وتنفذ حجوزات خاصة من الدولة العميقة. 

لم تعد حجة الإرهاب كافية في الوقت الراهن، لأن الإرهاب استنفد نفسه بنفسه. بل وخدع الأنظمة السياسية المحافظة والرجعية وجعلها ترفع رايات ليست راياتها من قبل الفن والثقافة والفلسفة وحرية المرأة وحقوق الفرد والمجتمع. وبانهيار الإرهاب، وقعت الأنظمة المتخلفة في فخ يجري الخروج منه الآن بتدجين النخب، وتقديم الرشاوى، وتضليل المجتمع، واستخدام منجزات الثورة الرقمية في أغراض أمنية لتقييد الحريات عند حدود مرعبة. 

تتجلى الآن في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة كل مظاهر الدولة "المحافظة" التي تصدر "إيماءات سرية" و"إيحاءات سرية" و"فرمانات سرية" من أجل تمرير الفن النظيف والكتابة النظيفة والحفاظ على أخلاق القرية وأخلاق المجتمع وأخلاق النساء وأخلاق الأطفال. 

النخب المحرومة من كل شيء، والتي تم التعامل معها بمنهجية كلاسيكية من حيث توسيع مساحة الحرمان والإهمال والتهميش، ما أفقدها الأمل حتى في أي مجد شخصي، تم تدجينها عبر خطوات ومسارات مختلفة ومتعددة ومتباينة، لدرجة أنها ترضى الآن بأي شيء، وتشجع وتتطوع وتقترح وتقدم أفكارا "جهنمية" في حالة من حالات التماهي المطلق مع تلك العصابات "الأخلاقية" الخفية التي تفعل هي نفسها وأولادها وأقاربها كل شيء في الخفاء، بينما تظهر بمظهر المحافظ والنبي والرسول والمرشد الأخلاقي في العلن. 

الجريمة ليست جريمة هذه العصابات- النخب الحاكمة والمتنفذة، وقطعان المثقفين التي تم تدجينها واستخدام مهاراتها الكلامية والذهنية وطلاقة لسانها وزلاقة لغتها وقدرتها على التسلل مثل الديدان. الجريمة هي جريمة مكتملة الأركان ترتكبها النخب الثقافية في الجامعات وفي مراكز الأبحاث ممن لم يتلوثوا بعد بالتدجين والتهافت على الفتات والأمل بالحصول على المجد والشهرة والحظوة.. ترتكبها النخبة الإبداعية التي تعاني الأمرين، وتعاني البطالة وقلة الموارد وقلة الحيلة وليس لديها إلا إبداعها، ممن يدركون أن المجد لا يكتسب بالحظوة وبالتدجين وبالفن والثقافة والفكر النظيفة، وبالأخلاق الكريمة ابنة اليد الباطشة الثقيلة والنوايا السيئة والانتهازية والفساد. 

هذا الكلام لا يغمز في قناة أحد، ولا يتهم أحدا، ولا يلوم أحدا، بقدر ما يحاول أن يوضح الكارثة المقبلة التي تطل برأسها الكئيب المرعب المتوحش. لا شيء اسمه الفن النظيف، ولا شيء اسمه الثقافة أو الكتابة النظيفة، ولا شيء اسمه الأخلاق وبالذات عندما تنتجها الدولة ومؤسساتها الدينية وتفرضها على الناس..

الآن، تطل الكارثة برأسها وتتجلى في تدجين المثقفين والمفكرين، ودق الأسافين عبر الرشاوى والتمييز والتلاعب بموارد المجتمع التي تديرها النخب الفاسدة، واستعداء النخب ضد بعضها البعض عبر منهجيات كلاسيكية دنيئة يعرفها الجميع، ولكن لا يستطيع الجميع التراجع عنها أو رفضها، واستخدام اللجان الإلكترونية للتشوية ولرفع سقف الحماية عن الناس تمهيدا لاغتيالهم معنويا وجسديا، واستخدام المنجز العلمي التقني- الرقمي وغيره في كل الموبقات ما عدا الأغراض التي اختروعه من أجلها. 

للأسف الشديد، لم تنجح ألمانيا النازية ولا إيطاليا الفاشية، ولم ينجح الاتحاد السوفيتي، ولم تنجح كوريا الشمالية ولا إيران ولا الصين في فرض النماذج الأخلاقية. تم دحر ألمانيا وإيطاليا، وانهيار الاتحاد السوفيتي، بينما تعيش شعوب كوريا الشمالية وإيران والصين خارج الكوكب. قد يفزع البعض ويأخذ الكلام في اتجاه تفاصيل أخرى، لكننا هنا نتحدث عن الحريات وعن الإنسان وعن فرض الأنماط والنماذج الأخلاقية. وربما تكون الصين هي التجربة التي لا تزال قيد الاختبار. فلا داعي لاستباق الزمن مثلما استبق أنصار ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي الاشتراكي الزمن وأصدروا أحكامهم، وحدث ما حدث. 

هذا الكلام لا يعني إطلاقا التوجه مباشرة نحو "الليبرالية" أو الحرية المطلقة أو "النيوليبرالية"، لأن البعض يحلو له أن يضع المصطلحات في مقابل بعضها البعض، ويضع التجارب في مواجهة بعضها البعض. فرفض النماذج السابقة لا يعني قبول النماذج المضادة لها. هذه مغالطة آن الأوان للخروج من فخها الصبياني الماكر وربما الأبله. ولا ينبغي أن ندخل معركة بين الاشتراكية السوفيتية والنازية الألمانية، أو بين اليمين الروسي القومي والليبرالية الأمريكية.

لدينا مصيبتنا الكبرى التي نرزح تحت وطأتها. وكل عشرين أو ثلاثين عاما نبدأ من الصفر. في كل مرة نبدأ من الصفر. وفي كل مرة نكرر نفس الأخطاء، ويحدث نفس التدجين لنفس الأسباب. لا ذاكرة، ولا أحد يتعلم. نهرب من كوارثنا الحالية ومن فشلنا وخيباتنا وقسوة واقعنا إلى المصريين القدماء لنؤكد أنهم أقاموا المجتمع العادل المزدهر الخالي من العبودية والاستعباد، فكان العدل يخيم على المصريين القدماء، على الفقراء والأغنياء، على الحاكم والمحكوم، ونتساءل في النهاية، من الذي قطع علينا التاريخ ونسف مجتمعنا العادل وجعلنا على نحن ما عليه الآن؟! 

إننا نهرب إلى الخلف بآلاف السنين، وندخل معارك مع أنفسنا ومع الآخرين لإثبات جنة المصريين القدماء، بينما يهرب السلفيون لإثبات جنة القريشيين الأوائل، ويهرب المصريون السوفييت إلى جنة العدالة الاجتماعية والاشتراكية السوفيتية... إننا نتوجه بأجسادنا إلى الأمام بينما وجوهنا تتجه إلى الخلف، وعقولنا ساكنة في الكهوف. أ ليس هذا مناسب للغاية من أجل الفن النظيف والكتابة النظيفة والثقافة والفكر الأخلاقيين؟! 

يبدو أن الجريمة تمت بالفعل. فمصالح النخب الثقافية والإبداعية تتلاقى الآن مع مصالح النخب السياسية الحاكمة المتنفذة التي ترتدي كل الملابس الدينية والوطنية، وتدق أوشام برموز وطنية ودينية، وكأن هناك جحافل من الغزاة الذي جاؤا خصيصا لينزعوا عنا ديننا ووطنيتنا، وربما سيخطفون رئيسنا، أو يستولون على جزرنا في البحر الأحمر!!! 

تتلاقى الآن مصالح النخب مع مصالح الذين دجنوها، وكأن سندروم ستوكهولم، يتكرر بشكل متفرد وتاريخي مرة وأخرى وعاشرة. بينما النخب لا تتعلم ولا تريد أن تتعلم، بل وتصبح أشرس من سادتها ومدجنيها، وأقسى على بعضها البعض مقارنة بقسوة الأوغاد الذين "يستعملونها" على المبدعين والخارجين على الحظيرة والمتمردين على الأحذية الأخلاقية الحديدية... 

لا فن أخلاقي يعيش، ولا كتابة أخلاقية تعيش. لا ثقافة أخلاقية يمكنها أن تصمد في وجه التطور وتقلبات الزمن. لا علاقة للأخلاق بالإبداع، وبالذات أخلاق العنف والتعسف والعشوائية والعدمية والفساد وما وراء الجبال. لا علاقة للأخلاق بالإبداع، وخاصة الأخلاق التي يصنعونها من أجل الفن والكتابة والإبداع. لا علاقة للأخلاق بالعلم، لأننا لا نملك لا أخلاق ولا علم حتى الآن. أعرف أن هذه الجملة ستستفز الكثيرين وسيشهر الكثيرون سيوفهم الخشبية والكلامية والحنجورية ليعودوا بي إلى مجد الأجداد وعلمهم واختراعاتهم الجبارة منذ آلاف السنين، وإلى أخلاقهم وطاعتهم وتوحيدهم وعدالتهم الاجتماعية وكرامتهم الإنسانية!!! 

لا مجد، ولا أمل في أي مجد أو حظوة في ظل الفن النظيف والكتابة النظيفة، وتحت إشراف النخب المدجنة واللواءات والضباط والمشايخ، وأتباعهم في المؤسسات ودور النشر الحكومية والخاصة. لا شهرة ولا مجد ولا جدوى في أي إبداع داخل الحظيرة التي تفوح منها رائحة الجهل والعنف والعسف والعشوائية وقلة الحياء والاستهتار. لا أمل ولا مستقبل في زرائب العدمية والفساد والبطش..

التعليقات (0)