أحمد طالب الأشقر يكتب: بعدما انتصرت الثورة وسقط الأسد: هل سوريا أمام عدالة انتقالية أم انتقامية؟

profile
أحمد طالب الأشقر كاتب وصحفي سوري
  • clock 28 يناير 2025, 5:32:21 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لقد عانى الشعب السوري لعقود من نظام قمعي متوحش، بلغ ذروته مع بداية الثورة السورية عام 2011 وما تبعها من انتهاكات وجرائم موثقة بحق المدنيين. اليوم بعد سقوط هذا النظام، يبرز هنا سؤال جوهري: هل ستتجه سوريا نحو عدالة انتقالية تضمن الإنصاف والمصالحة أم نحو عدالة انتقامية تغرقها في دوامة من الثأر والفوضى؟

 

مفهوم العدالة الانتقالية بشكل مبسط 

العدالة الانتقالية هي عملية قانونية ومجتمعية تهدف إلى التعامل مع إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقال من النزاع تحت عباءة الأنظمة الاستبدادية إلى السلام و السلم المجتمعي. تسعى هذه العدالة إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات لضمان عدم تكرار الانتهاكات. تعتمد على أدوات مثل المحاكمات، لجان الحقيقة، وبرامج المصالحة الوطنية. الهدف الأساسي منها هو تحقيق التوازن بين العدالة والمصالحة، وبناء مستقبل أكثر استقرارًا وإنصافًا.

 

انتهاكات جسيمة وسجل أسود يصعب تجاوزه

لا يمكن الحديث عن العدالة في سوريا دون المرور بالتفاصيل المرعبة لانتهاكات النظام، التي طالت كل مدينة وقرية تقريبًا. بدءًا من شرارة الثورة في درعا ومذبحة الحولة (مايو 2012)، التي شهدت مقتل 108 شخص بينهم 49 طفلًا علي الأقل، على يد قوات النظام والشبيحة، مرورًا ب مجزرة الغوطة (أغسطس 2013) التي استخدمت فيها الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، مما أدى إلى مقتل أكثر من 1400 شخص من الأبرياء في ليلة واحدة.

تلك المجازر ليست سوى قمة جبل الجليد. السجون السورية، مثل صيدنايا والمزة وفلسطين وفرع الخطيب وغيرها الكثير، تحولت إلى مراكز تعذيب وإعدام جماعي، وُصفت بعضها من قبل منظمة العفو الدولية بأنها "مسلخ بشري". وفقًا لتقرير صادر عن "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" عام 2023، قُتل تحت التعذيب أكثر من 15,000 معتقل منذ بداية الثورة. إضافة إلى ذلك وثق ناشطون و منظمات حقوقية حصار مضايا والغوطة الشرقية، حيث تُرك المدنيون المحاصرون يموتوا جوعًا أو بسبب نقص الرعاية الصحية الأولية أو بسبب نقص الأدوية.

كما لا ننسى استخدام البراميل المتفجرة، التي دمرت مدنًا بأكملها مثل حلب ودرعا، وأدت إلى نزوح الملايين. في هذه الجرائم، كانت أسماء مثل ماهر الأسد وسهيل الحسن و "الفرقة الرابعة" و "ميليشيات الطراميح" وميليشيات الدفاع الوطني ذات العقيدة الواحدة، أداة مباشرة للقمع. كيف يمكن تجاوز هذه الجراح العميقة في غياب محاسبة عادلة؟

 

القليل من الناجين والكثير من المقابر الجماعية

مع انتهاء عمليات البحث عن ناجين في سجون الأسد، شعر السوريون بفاجعة عظيمة نتيجة استمرار غياب عشرات الآلاف من المفقودين، الذين لا يزال مصيرهم مجهولًا ولم يخرجوا بعد تبييض السجون. فوفقًا للجنة الدولية لشؤون المفقودين، تتراوح التقديرات بين 100,000 و200,000 مفقود في سوريا. هذا الغموض يترك الآف العائلات في حالة من مستمرة من الفجيعة، غير قادرة على معرفة مصير أبناءها أو حتى علي الأقل إقامة مراسم دفن تليق بهم. في ديسمبر 2024، بعد سقوط النظام، اكتُشفت مقابر جماعية في مناطق كثيرة قريبة من السجون أو الحواجز الأمنية في الطرقات العامة ومداخل المدن، مما زاد من حدة الحزن والذهول بين أهالي المعتقلين والمغيبين. هذا الواقع المؤلم يُبرز الحاجة الملحة إلى آليات فعّالة للعدالة الانتقالية، تركز على كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، لضمان عدم تكرار هذه المجازر وإحقاق الحق وتهدئة رغبة الانتقام لبناء مستقبل متعافي أكثر إنصافًا وعدالة.

 

العدالة عبر التاريخ المعاصر

يمكن للسوريين التعلم من تجارب تاريخية مشابهة في دول عانت من الانقسامات والجرائم الجماعية، على سبيل المثال:

رواندا (1994): بعد الإبادة الجماعية التي قُتل فيها حوالي 800,000 شخص، انشأت الدولة محاكم "الغاكاكا"، التي وفرت مساحة للمجتمع المحلي لمواجهة المجرمين والضحايا معًا، مما ساعد على تخفيف حدة الكراهية وإعادة بناء الثقة.

العراق (2003): بعد سقوط نظام صدام حسين، تحولت المحاكم إلى أدوات انتقامية، حيث استهدفت المحاكمات الأشخاص على أسس طائفية. هذا أدى إلى تأجيج الصراع بين الطوائف وزعزعة استقرار العراق بدلًا من تحقيق المصالحة والسلم المجتمعي. العراق اليوم في حالة غليان تحت الرماد، في رد فعل انتقامي سيُدخل العراق مجددًا في دائرة من العنف والعنف المضاد. 

في الحالة السورية، المشهد أكثر تعقيدًا، فالاصطفافات الطائفية المتنوعة عبر "التخويف" من الآخر استغلها النظام السوري بأبشع صورها، وحجم الانتهاكات يشهد، وهذا يُذكّرنا هذا بخطورة اتباع النموذج العراقي. إذا كانت العدالة الانتقالية تهدف إلى محاسبة المجرمين، فهي أيضًا تقتضي حماية الغير متلطخة أيديهم بالدماء من العقاب الجماعي. على سبيل المثال، أبناء الطائفة العلوية والدرزية، الذين دخل الكثير منهم في صفوف الجيش بسبب الحاجة الاقتصادية، يجب أن يُفصلوا عن مرتكبي الجرائم الكبرى مثل كبار المسؤلين في المخابرات والفرق والالوية والكتائب مثل علي محمود عباس وجميل الحسن وسهيل الحسن وغيرهم من مجرمي الصف الأول والثاني والثالث، حيث تستطيع الدولة تعويض الضحايا اجتماعيًا ونفسيًا واقتصاديًا المتضررين من العناصر التي لم يسجل لها سجل إجرامي وأثبت أنهم لم يتورطوا بالدماء.

 

مخاطر الانتقام والتصعيد

عند الحديث عن العدالة بعد سقوط النظام، يبرز شبح الانتقام العشوائي كخطر يهدد وحدة المجتمع السوري. في مدن مثل بانياس، التي شهدت مذابح طائفية عام 2013، أو الحولة والبياضة في حمص وغيرها الكثير من المدن المتنوعة طائفيًا، قد يتصاعد غضب عائلات الضحايا تجاه الجناة الحقيقيين المعروفين بـ"الشبيحة". هؤلاء كانوا أداة القمع في العديد من المناطق، وارتكبوا جرائم مروعة، من نهب الممتلكات إلى الاغتصاب والقتل.

بعد سقوط النظام، من السهل أن تتحول تلك المناطق إلى هدف للثأر الجماعي، مما يؤدي إلى دوامة جديدة من العنف. لذلك، لا بد من وجود هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية، تعمل وفق القانون الدولي ووفق مسار يراعي الخصوصية في الحالة السورية، لضمان تقديم الجناة الحقيقيين إلى العدالة دون معاقبة الغير "متلطخة" أيديهم بالدماء وادخال البلاد كلها في نفق العنف.

تجارب الدول الأخرى تُظهر أهمية الفصل بين المحاسبة الفردية والجماعية. في جنوب إفريقيا، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، أُنشئت "لجنة الحقيقة والمصالحة"، التي أعطت فرصة للضحايا لسماع اعترافات الجناة، ما ساعد على تهدئة النفوس دون الانزلاق إلى الانتقام. إن تطبيق نموذج مشابه في سوريا سيتطلب إرادة سياسية قوية وشجاعة.

 

عدالة تنقذ سوريا من الحرب الأهلية

سوريا اليوم بحاجة ماسة إلى عدالة تنقلها من مرحلة النزاع إلى مرحلة البناء عدالة لا تقتصر على معالجة الجراح، بل تُكرّس لمحاسبة المجرمين الحقيقيين دون أن تسقط في فخ الانتقام أو الاستهداف العشوائي. العدالة الانتقالية هي الطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف، لكنها تتطلب إرادة جماعية ووعي مجتمعي يرفض الثأر ويسعى إلى بناء وطن على أسس متينة من السلام والإنصاف. إذا فشلنا في التمييز بين الجناة الحقيقيين وبقية مكونات المجتمع، فإن سوريا قد تواجه خطر الانزلاق في دوامة حرب أهلية علي أسس طائفية ومذهبية وعرقية بدلًا من إعادة الإعمار والتعافي.

رؤيتي للعدالة في سوريا تنطلق من مبدأ قانوني ومؤسساتي يُلزم الجميع بالمساءلة أمام القانون، مع الوقوف بوضوح إلى جانب المظلومين والدفاع عن حقوقهم المشروعة دون تأخير أو مساومة، فالعدالة الانتقالية ليست تأجيلاً للحقوق ولا أداة للمزايدة أو الاستثمار السياسي، بل وسيلة محورية لمحاكمة القتلة ومنتهكي حقوق الإنسان، مع ضمان استعادة حقوق الضحايا. إن بناء سوريا الجديدة يتطلب عدالة شفافة وشجاعة توازن بين المحاسبة والمصالحة، ما يتيح فرصة حقيقية لإرساء دعائم دولة تحترم كرامة جميع أبنائها وتحميهم من العودة إلى ماضٍ مؤلم.

 

 

التعليقات (0)