- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
د.يسري عبدالغني يكتشف : مقالة نادرة لشيخ الأزهر
د.يسري عبدالغني يكتشف : مقالة نادرة لشيخ الأزهر
- 4 يونيو 2021, 10:09:58 ص
- 879
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شيخ الازهر الشريف
الشيخ محمد الخضر حسين
يكتب عن: القاضي أبو الحسن عبد العزيز الجرجاني
نعرض على حضرات القراء صفحة من حياة شخص غزير العلم، رائع الأدب، صافي الذوق، كامل الخلق، هو القاضي أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني، من أعيان القرن الرابع.
نشأ أبو الحسن في جرجان، وتقلب في البلاد للقاء كبار العلماء والأخذ عنهم، فدخل نيسابور وطاف العراق والشام وغيرها، وأحرز في العلوم والآداب منزلة يشار إلى ها بالبنان. قال مؤرخوه: «لم يزل أبو الحسن يتقدم حتى ذكر في الدنيا» ووصفه صاحب يتيمة الدهر، فقال: «هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم».
وبعد أن بلغ الذروة في العلم والآداب، عرج على حضرة الصاحب بن عباده، فعرف قدره، وتمسك بصحبته، وكاد من شدة اختصاصه به لا يستطيع مفارقته، فكان لا يفارقه كما قال الصاحب في بعض رسائله«مقيما وظاعنا، ومسافرا وقاطنا». وتأخذ هذا من كتاب بعث به الصاحب إلى حسام الدولة العباسي تاشى الحاجب يوصيه فيه بمساعدة القاضي في كل ما يحتاج إلى ه عندما استأذنه في زيارة جرجان، فقد قال«فان رأي الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن فيما يعجل رده، فاني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله».
وكان الصاحب يتلقاه في جرجان بإقبال وإكرام أكثر مما يتلقاه به في غيرها من البلاد قال القاضي: وقد استعفيته يوماً من فرط تحفِّيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمس وأعزه ما قيل في الوطن
ثم قال له: قد فرغت من هذا المعنى في قصيدتك العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره.
وتولي قضاء جرجان على يد الصاحب ثم تولى قاضي القضاة بالريّ، واستمر على ذلك إلى أن توفي، وكان حسن السيرة في قضائه.
ويصفه المؤرخون، فنرى فيما يصفونه به خصالاً تعد أصولاً في مكارم الأخلاق، كصدق اللهجة، وعزه النفس، وشرف الهمة. ومن شواهد هذا أبياته المنقطعة النظير في تصوير الاعتزاز بالعلم وسمو الهمة وهي:
يقولون لي فيك انقباض وإنما وأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقضي حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقي به غرسا وأجنيه ذلة إذا فإتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
وقد لهج بهذا المعنى في شعره، وقال من أبيات:
فان لم يكن عند الزمان سوى الذي أضيق به ذرعاً فعندي له الصبر
وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وللقاضي ديوان شعر، وقد يعرج في شعره على مدح الصاحب بن عباد أو غيره من أقرانه الذين كانوا يمنحونه الوداد، وينظرون إليه بعين الإجلال، فكان يخاطبهم بلسان الشعر كالمجازاة على ما يلاقي من إسعادهم وصدق مودتهم له، وقد رأيتم كيف كان الصاحب ابن عباد يطلق لقلمه أن يثني عليه بأبلغ الثناء، ويسمي صلة الود بينهما إخاء، ولا يأبي أن يثني عليه في شعره، قال القاضي: انصرفت يوما من دار الصاحب قبيل العيد فجاءني رسوله بعطر العيد ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يأيها القاضي الذي نفسي له مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطراً مثل طيب ثنائه فكأنما أهدى له أخلاقه
ونظر القاضي إلى ما يفضي إليه افتراض المال وصرفه في شهوات النفوس من سوء العواقب، فحاول معالجة هذا المرض محكمة بالغة فقال:
إذا رمت أن تستقرض المال منفقاً على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها علىك وإنظارا إلى ساعة اليسر
فان أسعفت كنت الغني وإن أبت فكل منوع بعدها واسع العذر
ولم يكن القاضي بارعاً في صناعة الشعر فحسب، بل كان مبدعاً في النثر أيضاً، كما وصفه صاحب يتيمة الدهر، فقال: يجمع حظ ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري.
وجمع القاضي الجرجاني إلى غزارة العلم ذوقاً الوساطة بين المتنبي وخصومه» في صنع حكيم ووضع بديع، وكان الصاحب بن عباد ألف رسالة في إظهار مساوي المتنبي، ولم تمنع القاضي الجراجاني صداقته للصاحب أن يؤلف كتاب الوساطة ويسلك فيه مسلك الإنصاف، فيرد كثيرا مما عده الصاحب وغيره من سقطات المتنبي. ومن قرأ كتاب الوساطة، وذكر أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني أخذ من القاضي الجرجاني واغترف من بحره، وكان يفتخر بالانتماء إلى ه، تنبه لناحية من النواحي التي استمد منهما عبد القاهر براعته في كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة.
وإذا كان في المنتمين إلى قبيل العلماء من إذا أدرك شهادة أو منصباً أو وجاهة، قل إقباله على العلم وأصبح يأنس بلقاء الناس، ويسعي إليه ما استطاع، ولا ببالي أن يقضي الساعة أو الساعتين في محادثات تمضي مع الوقت دون أن يكون لهما أثر في نماء علم أو إتقان عمل، فان القاضي الجرجاني من الطبقة التي تلذ العلم وتأنس بالكتاب، وتري في ذلك غنيمة الحياة، فاقرأ إن شئت قوله:
ما تطعمت لذة العيش حتى صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العلـ م فلا أبتغي سواه أنيسا
ولا يضر أمثال القاضي الجرجاني أن يقلل من لقاء الناس، ويؤثر أن يكون للبيت والكتاب جليساً، ما دام يحمل في يمينه قلماً يبث به في القراطيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فقد حرر بذلك القلم البارع مؤلفات غير كتاب الوساطة، منها تفسير القرآن المجيد، وكتاب تهذيب التاريخ.
عاش القاضي الجرجاني في عزة ووجاهة واستقامة سيرة، وتوفي سنة 366 وهو قاضي القضاة بالرَّي، وحمل تابوته إلى جرجان ودفن بها، جازاه الله عن إعزازه للعلم خير الجزاء.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الهداية الإسلامية المجلد 20 رجب 1366هـ ، الجزء 1و2