- ℃ 11 تركيا
- 19 نوفمبر 2024
يحيى كامل يكتب: السودان: صراعٌ عبثيٌ وراء الخراب والدماء
يحيى كامل يكتب: السودان: صراعٌ عبثيٌ وراء الخراب والدماء
- 22 أبريل 2023, 7:55:37 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ليس ما يجري في السودان بالأمر الجديد تماماً ولا المدهش، لذا فلن أنزلق إلى الزعم بأن الساعة اقتربت كما يستسهل البعض، بل أعترف بأنني لا أملك أي علمٍ أو يقين عن ذلك؛ كما أنني لن أتساءل ببراءةٍ بلهاء أيضاً ما الذي جرى في الدنيا؟ فعلى غموض بعض التفاصيل التي أثق في أنها لن تلبث أن تتكشف (خاصةً في صراعٍ طرفاه من عينة حميدتي والبرهان) فالصورة والدوافع، وراء الدم والبارود، ليست بهذا الإلغاز ولا الجدة، بل لعلها أبسط كثيراً من محاولات التعقيد وإضفاء الغموض واصطناع الدهشة.
أجل، ليس السودان بالغريب عن الانقلابات العسكرية وحكم العسكر، لكن الجديد أو المغاير ربما هنا هو الظرف العالمي والإقليمي، والسياق الذي انفجر فيه ذلك الاحتراب بين طرفي السلطة، ومن ثم مدى العبثية والبذاءة.
لا خلاص ولا مخرج لهذه المنطقة سوى بزوال هذه الأنظمة ودخول الشعوب فاعلاً حقيقياً على مسرح التاريخ
كثيراً ما أجدني إما أبدأ أو أختتم مقالاً أو تحليلاً بأن ما نعيشه ليس سوى زمن ووقت الحصاد، ولن يشذ السودان عن ذلك بأي حالٍ من الأحوال، وإن ذلك الصراع، خاصةً دور محمد حمدان دقلو، أو حميدتي كما يُعرف بصورة أوسع، بشخصه وما شكّله من رمز لهو أفضل دليلٍ يختزل ذلك الحصاد. للتذكير، فقد برز ذلك الحميدتي، الذي توقف تعليمه الرسمي عند الصف الثالث الابتدائي تقريباً (وربما غامر بدخول السنة الرابعة)، على مسرح الأحداث قائداً لميليشيات الجنجويد، التي قامت بدورٍ فارقٍ ورئيسي في نزاع دارفور في زمن البشير، وقد عمدت إلى القتل والذبح الممنهجين على نطاقٍ كارثي، ووُثقت لها جرائم إبادةٍ واغتصابٍ على نطاقٍ واسع؛ ثم لم يلبث البشير، باعتماده الأبدي والمتزايد على أجهزة أمنٍ مسلحةٍ حد الإفراط، ومتنازعة المصالح، على دمجه بما يشبه صورةً رسمية، موازية، تحت مسمى «قوات الدعم السريع» لتتكرس مكانته وثقله داعماً رئيسياً للنظام، إلى أن نشبت ثورة السودان فارتأى، بحنكة المرتزق أو أمير الحرب، أن يقفز من المركب الغارق، منضماً في ذلك للبرهان الذي تأسى بدوره بما قام به نظراؤه في تونس ومصر، حين لم يروا مفراً أو خطوةً أسلم من التخلص من رؤساءٍ باتوا «كروت» محروقة.
كالمتوقع منهما تماماً، سعى الاثنان، أو لنقل ممثلا النظام وجناحاه، للمناورة والتملص من كل تعهداتهما إزاء القوى المدنية، ومن ثم حاولا الانقضاض عليها، إلا أن فشل ذلك المسعى، دفع بحميدتي للتراجع والتخلي عن البرهان، ولم يلبث التوتر بينهما أن انفجر، حين حاول البرهان ضم قوات الدعم السريع إلى الجيش وانضواءها تحت قيادته، ما سيؤدي فعلياً لتخلي حميدتي عن قاعدة قوته، ومن ثم نفوذه ولن تتأخر ثروته في اللحاق بهما فتصادر أيضاً، فلم يكن منه إلا أن تمرد؛ إلا أن ذلك بدوره لا يدهش، إذ ما الذي يدفع قائد ميليشيا ارتكبت آلاف الجرائم ضد الإنسانية، أمير حربٍ مرتزقا صار أقوى وأثرى رجلٍ في البلد، متحكماً في الكثير من ثرواتها وعلى رأسها مناجم ذهبٍ غير رسمية أو شرعية يقوم ببيعها لحساب قوى إقليمية (خاصةً في الخليج العربي)، ما الذي يدفع شخصاً كذلك للتنازل؟ أي مبدأ أسمى أو دافعٍ يتخطى مصلحته سيحمله على ترك ما بيده، وما لم يكن ليصل إليه أو حتى يحلم به لولا ان أن نظاماً كذاك يحكم البلد الذي ولد وعاش فيه؟ ليس في الدور الذي يقوم به البرهان ما يدهش، فهو المتوقع من المؤسسة العسكرية في ثورةٍ مضادة تحاول إنقاذ النظام وإعادة إنتاجه، إلا أن دور حميدتي هو ما أراه لافتاً وذا مغزىً عميق (بالطبع دون أن يدرك هو بثقافته المحدودة ذلك!). حين تمرد أهل دارفور وغيرهم في أرجاء السودان الشاسع المتنوع فلم يفعلوا ذلك إلا احتجاجاً على التهميش ومظالم تاريخية وتدني الأوضاع المعيشية والاقتصادية، لكن عوضاً عن الحوار والنظر في مطالبهم وتلبيتها وإدماجهم في عملية سياسية سليمة وتعددية، لجأ البشير لا للإقصاء فحسب، بل للإبادة؛ في سبيل إحكام قبضته والاستمرار في السلطة والاحتفاظ بالثروة والنفوذ لم ير أي مشكلة في اصطناع وتسليح ميليشيات إجرامية يقودها شبه أمي، لا يتردد ولا يحجم عن ارتكاب مجازر في جزءٍ من شعبه. لا تكمن أهمية حميدتي في شخصه، بل في ما يجسده: الطبعة الجديدة، المحورة بما يجعلها أكثر فتكاً كالفيروسات تماماً، من رجالات النظام في دول المشرق العربي بعد الاستقلال.
لقد ذهب عهد الضباط السياسيين كعبد الناصر ورفاقه منذ زمنٍ بعيد، وورثهم الضباط المحترفون كمبارك، وجميعهم يصدر من قلب النظام متشرباً التسلط والإقصاء والإيمان بصنم الدولة دون أي شيءٍ آخر؛ لكن إزاء الثورات التي انفجرت من قصور الصيغة التي حكمت طيلة هذه العقود عن الوفاء باحتياجات الناس دخلت هذه الأنظمة طوراً جديداً من الشراسة عنوانه حميدتي وجنرال مصر الضئيل، الذين لا يحسبون للدم حساباً ولن يتورعوا أو يترددوا عن تمزيق وبيع بلدانهم للبقاء في السلطة. لذا، ففي حين أن الانقلابات في السودان ليست بالجديدة في حد ذاتها، إلا أن مضمون الصراع الانقلابي هو المهم واللافت هنا، بالإضافة إلى سياقه، فهو صراع قطبي ثورةٍ مضادة فعلت كل ما تستطيع لسرقة ثورة شعب السودان وتقويضها؛ أما على الصعيد الإقليمي والعالمي، فهو صراعٌ يحتدم بتدخلٍ صريحٍ وبارز وحضورٍ للجانب الصهيوني ودول الخليج، بما يقزم أو يحجب على سبيل المثال دور مصر، البلد ذي النفوذ التقليدي الأهم والأعمق في السودان لاعتباراتٍ عديدة، كما أن ذلك يجري وسط ما يكاد أن يكون صراعاً دولياً بين الشرق والغرب، وما تم تناقله من رغبةٍ أو تطلعٍ روسي لموطئ قدمٍ في السودان، أي أن الصراع يجري الآن وسط خريطة تحالفات تبدلت عن المألوف. وأطراف المعادلة الإقليمية واللاعبون وأدوارهم تتغير أيضاً، فليس ثمة شبهة تحرر من الاستعمار أو الادعاء بمشاريع تنمية تنهض بالشعوب بعد الخلاص (الشكلي في كثيرٍ من الأحيان) من الإمبريالية، بل مصالح رأسمالية صريحة، تابعة للخارج، ولا نصيب للشعوب، وليس من يكترث لحالها، بل هي واقعةٌ في الوسط، وقود المحرقة كما هي حال الشعب السوداني بين شقي حميدتي والبرهان.
إن الصراع بشكله ذاك دليل إدانةٍ آخر دامغ على مدى البؤس الذي وصلت وأوصلتنا إليه هذه الانظمة، صراع أجنحةٍ متكالبة على الثروة والسلطة، دون أي اعتبارٍ للشعوب، وكأن ذلك البؤس لم يكف حميدتي حتى خرج علينا، وهو من هو، بتصريحاتٍ عن الحكومة المدنية والانتقال الديمقراطي ليزيد من عبثية الوضع وبذاءته. لقد انتهى تاريخ صلاحية هذه الأنظمة منذ عقود، ففقدت كل ما تقدمه مما تتطلع إليه الشعوب، في الاقتصاد والحريات السياسية والشخصية والصحة والتعليم، وحتى الاستقرار ذلك المكسب الوحيد المزعوم، ها هو يثبت زيفه على وقع القصف والموت والخراب. لا خلاص ولا مخرج لهذه المنطقة سوى بزوال هذه الأنظمة ودخول الشعوب فاعلاً حقيقياً على مسرح التاريخ، وما أي حديثٍ بإصلاحها سوى مضيعةٍ للوقت والمجهود لا يفيد منها سوى الحكام، فيكسبون الوقت لترميم أجهزتهم الأمنية والاستمرار في السلطة مسوخاً ماتت منذ عهدٍ بعيد.