- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
هلالي بين مخالب الصقر .. قراءة في قصة (عودة الهلالي) لأحمد سراج
هلالي بين مخالب الصقر .. قراءة في قصة (عودة الهلالي) لأحمد سراج
- 19 يونيو 2021, 4:35:29 ص
- 957
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يضعنا عنوان مجموعة (الصقر والصليب) منذ البداية في بؤرة الدلالة، فقد اشتمل على ثنائية ضدية (الصقر – الصليب) ورغم ما قد يبدو من بُعْدٍ ظاهريٍّ من الناحية اللفظية بين اللفظين إلا أنهما يقفان على طرفيْ نقيض، فالصقر ينتمي إلى دائرة دلالية ترمز للقوة والبطش والقهر، فهو رمز للصياد القاهر القادر على سحق فريسته في سرعة مذهلة، ودون تردد أو خوف أو رحمة، أما الصليب فينتمي لدائرة دلالية مناقضة تماما؛ فهو رمز للمقهور الذي وقع فريسة لقاهره رغم أنه يمتلك الحق والحجة والبرهان، كما أن الطرفين/الصقر والصليب ينتميان إلى عالمين منفصلين، فالصقر ينتمي إلى الفضاء، وهو ما يرمز إلى شعور من ينتمون إلى هذه الدائرة الدلالية بالعلوِّ والرفعة والنظرة المتعالية إلى غيرهم، أما الصليب فمكان من ينتمون إليه هو الأرض أي أنهم يعيشون الواقع بكل تضاريسه ومآسيه، ومن ثم فإننا أمام دائرتين دلاليتين متقابلتين أحدهما المفترس/الصقر، والآخر الفريسة/الصليب، وبالتالي فنحن بذلك في عالم من الصراع بين الطرفين، وإذا تأملنا قصص المجموعة فإننا سوف نجدها تعبر عن هاتين الدائرتين من الدلالة، وبينهما ذلك الصراع الحتمي، ففي قصة (عودة الهلالي) نجد أن الذين يعبرون عن الدائرة الدلالية الأولى/الصقر/المفترس كلٌّ من العمدة – ابن العمدة – شيخ الخفر – شيخ البلد – تاجر التموين – الباشا الكبير – ابن أخي الباشا الكبير – ابن أخت الباشا الكبير، وأما الدائرة الدلالية الثانية/ الصليب/المقهورون فيعبر عنها أهل القرية – ستوتة – الذين تنازلوا عن أفدنتهم أو قراريطهم – المعذبون في الأرض، ولكن لا تتشابه ملامح كلٌّ من الطرفين (الصقر/القاهر/المفترس، والصليب/المقهور/ الفريسة) في كل القصص، بل يأخذ كل طرف من الطرفين شكلا مختلفا في كل قصة عن الأخرى، بمعنى أن صورة الصقر/المفترس تأخذ في كل قصة شكلا مغايرا، وإن ظلت تحتفظ بدائرتها الدلالية المتمحورة حول القوة والقهر والظلم والافتراس، وكذلك الصليب، ففي قصة (فرسان حورس) نجد الإرهابيين هم من يمثلون صورة القهر للمجتمع والانقضاض عليه بهدف تدميره، من خلال قتل السائحين الذين يمثلون الدخل الاقتصادي للوطن، وأفراد الشرطة الذين يمثلون قوة الحماية، وهم/الإرهابيون يمثلون قوة ظلم وقهر وتسلط على المجتمع وحماته وزائريه، وكذلك يرون أنفسهم أعلى مكانا ومكانة؛ إذ يرون أنهم يمثلون سلطة سماوية عليا، ولابد من انصياع المجتمع بكل مكوناته وتشابكاته لهم، أما الصليب فيمثله المجتمع وأبناؤه الذين يعانون من أولئك المتسلطين المتعالين بما يدَّعون أنهم يمتلكونه من فهم للسلطة الدينية، وهكذا تتوالى الصور التي يظهر فيها الطرفان/ الصقر والصليب عبر قصص المجموعة.
ويمكن النظر إلى العنوان من زاوية تأويلية مغايرة تماما، ترى في الصقر رمزا للرؤية الثاقبة التي تستطيع اكتشاف الأشياء من مسافات بعيدة، وتحديد الأهداف، وترى في الصليب البعد القيمي والأخلاقي، ومن ثم فإن المجتمع يستند إلى هذين الركنين الأساسيين: الرؤية الواضحة ومنظومة القيم، وأي خلل في أحدهما يؤدي بالضـرورة إلى خلل في المجتمع، وقدرته على لملمة أنسجته الفكرية والاجتماعية ضمن منظومة منسجمة قادرة على توجيه هذا المجتمع، وحمايته في مواجهة التحديات التي تعترضه، ويمكن من خلال هذه الزاوية التأويلية قراءة قصة فرسان حورس، وغيرها من قصص المجموعة. إن انفتاح النص الإبداعي على التأويلات المختلفة والمتنوعة هو الضامن الأساسي والرئيس لحياة هذا النص، وقدرته على مراوغة أذهان المتلقين، فإذا كان الكاتب هو منشئ العمل الأدبي ومبدعه، ومن تتلاقى بين أصابعه الخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، ويصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية فإن هذا الكاتب قد انتهت علاقته بالنص منذ أن ألقى القلم وطوى الصحيفة، وبدأت علاقة المتلقي بالنص؛ ذلك أن إنتاج الدلالة يتم من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ، ومن ثم فإن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، على أن التعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويضيف إليه، ويفضي إلى أن النص لا يتضمن بالضـرورة معنى نهائيا، كما يكشف هذا التعدد التفسيري للنص عن آفاقه وأبعاده في سياق الثقافة المتغير؛ إذ لا وجود للنص بمعزل عن المركبات الذاتية للقراء.
على أننا ينبغي أن نشير إلى أن الكاتب حدَّد انحيازه الفكري والجمالي منذ البداية؛ فقد أهدى المجموعة القصصية (إلى الذينَ يعملونَ، ويُسعدُهم أن يعملَ الناسَ.. أهدِي هذا العمل.. إلى طه حسين ورفعت سلام اللذين يعرفان السبب.. إلى غزال البر في الوادي، بلا سببٍ يا كلَّ أسبابي..) وبذلك يحدد انتماءه الفكري وانحيازه الجمالي إلى أولئك الذين يسعون إلى تحرير المجتمع من سلطة الصقر/الظلم والقهر والتسلط بكل أشكاله، فهو يهدي المجموعة إلى الذين يعملون، والذين يسعدهم أن يعمل الآخرون، أي لا يحملون أية ضغينة أو حقد أو حسد تجاه غيرهم، ثم يخصُّ سلطتين فكريتين هما طه حسين ورفعت سلام، بما يمثلان باتجاهيهما إلى الحداثة والتنوير من مخزون فكري في الذاكرة الثقافية للمشهد الفكري والثقافي المصري والعربي ، ومع ما بينهما من اختلاف، ولكنهما ينتميان إلى دائرة دلالية واحدة، وهي تفجير الطاقة الإبداعية للإنسان، والتخلص من ركام الجهل والخرافة والانطلاق نحو آفاق الإبداع الخلاق، أي أنهما ينتميان إلى الذين يعملون، ويسعدهم أن يعمل الآخرون، ثم تأتي بقية الإهداء إلى غزال البرِّ في الوادي، وهو ما يعني – بشكل ما – الحرية في صورتها النقية البعيدة عن أية شوائب (غزال – الوادي) بما يحملان من دلالة على الحرية والانطلاق.
وسوف نتوقف أمام قصة (عودة الهلالي) باعتبارها القصة الافتتاحية، والتي نراها تختزل الرؤية الفكرية للكاتب بكل تشابكاتها وعلائقها.
العنوان مفتاح تأويلي
وإذا توقفنا أمام العنوان فإننا نجده يتكون من تركيب إضافي (عودة الهلالي) ويمكن اعتباره مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير (عودة الهلالي واجبة/أو وهم) كما يمكن اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف، والتقدير (هذه عودة الهلالي) كما يمكن اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، والتقدير (نتمنى عودة الهلالي/تتمنى القرية عودة الهلالي) ولكل من هذه الاحتمالات ما يبررها من النص، أما اعتبارالعنوان مبتدأ لخبر محذوف (عودة الهلالي واجبة/أو وهم) فإن التكييف الدلالي يقودنا إلى أن عودة الهلالي واجبة؛ فهو رمز لإعادة الحقوق إلى أصحابها، وقد أصبحت القرية في حالة مأساوية تستدعي عودة الهلالي الذي ينقذ الناس مما آلوا إليه من ظلم وقهر ونهب للممتلكات، وتضييع للحقوق، فقد أصبحت القرية كلها مستلبة على كافة المستويات، ومن ثم فإن وجود الهلالي رمز القوة والحق واجب وضروري، وانطلاقا من هذا التأويل فإن النص يرصد الحالة النفسية والفكرية للقرية وأهلها، وأنهم يرون أنفسهم غير قادرين على استعادة حقوقهم إلا من خلال الشخصية الرمز التي تقودهم، وتدافع عن حقوقهم، وإذا قدَّرنا أن المحذوف لفظ (وهم) فتكون الجملة (عودة الهلالي وهم) ومن هذا المنطلق التأويلي ينتقد النص أولئك الذين يعتمدون على الغير في استعادة حقوقهم، وينتظرون من يقودهم فتزداد أحوالهم سوءا، وحياتهم مأساوية، وأن الأولى بهم أن يتخذوا من طاقاتهم الكامنة أداة لتحقيق أهدافهم واستعادة حقوقهم من العمدة والباشا الكبير وابنه وابن أخت الباشا الكبير وشيخ الخفر، وكل من سلب حقوقهم، وقد وجدنا ما يؤيد ذلك في نهاية القصة، وإذا اعتبرنا العنوان خبرا لمبتدأ محذوف (هذه عودة الهلالي) فإن حركة المعنى في القصة تقودنا إلى أن انتظار عودة الهلالي مجرد تعلق بأوهام وأن الانتظار سيطول، وأن انتشار خبر عودة الهلالي قد يعيد بعض الحقوق لحظيـًّا ولكن سرعان ما يكتشف الظالمون أن الهلالي لن يعود فيعودون إلى ما كانوا عليه، والذي يؤيد هذا التأويل أنه بمجرد انتشار خبر عودة الهلالي وجدنا التغيرات تحدث سريعا، فالكل حضَّر شكواه، أما العمدة فقد أرسل شيخ الخفر لتأمين المداخل والمخارج وتوزيع الخفر وإعطائهم مرتباتهم المتأخرة من عشـر سنين، ولم ينس أن يركز على توزيع جراية كبيرة، فالجميع اتخذ ما يناسبه من تدابير، ولكن هذه التدابير سرعان ما تراجعت، وبدأ النقاش حول جدوى عودة الهلالي، وإن كان يستطيع أن ينقذ القرية، فاعتبار العنوان خبرا لمبتدأ محذوف يجعلنا نرى النص محاولة لرصد حال القرية وأهلها إذا انتشر فيها الخبر بعودة الهلالي، وإذا اعتبرنا العنوان مفعولا به لفعل محذوف، فيكون التقدير (نتمنى عودة الهلالي/ أو ننتظر عودة الهلالي/تتمنى القرية عودة الهلالي) فإن النص هنا يرصد الجانب الفكري المأساوي للقرية وأهلها الذين يتباكون على حالهم ولا يفعلون شيئا سوى الأماني التي لا وجود لها على أرض الواقع، وأن التخلص من أولئك الذين مارسوا القهر والظلم والنهب يقع على عاتق القرية وأهلها، وأن انتظار من يخلصهم مجرد أمنيات خيالية، وإذا ظلوا على هذه الحال فلن يستطيعوا الخروج من واقعهم المزري. وهكذا نرى أن المحذوف من جملة العنوان يدفعنا في اتجاه تأويلي يتناسب مع تصور هذا المحذوف، وفي كل الأحوال نجد في النص ما يبرر كل تصوُّر تأويلي، فكما قلنا سابقا إن التعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويضيف إليه، ويفضـي إلى أن النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيا.
حركة المعنى وإنتاج الدلالة
تبدأ القصة بجملة مفتاحية (أبو زيد راجع) ولا ندري بالتحديد من أطلق هذه الجملة، وكأن الكاتب أرادها خبرا شائعا بين سكان القرية بأسرها، فليس المهم من قالها ولكن المهم تحقق الهدف المنشود من قولها، وهو عودة (أبو زيد) وإذا توقفنا أما البنية اللغوية والدلالية للجملة فإنا نجدها جملة اسمية من حيث التكييف النحوي، وخبرية ابتدائية من حيث التكييف البلاغي؛ إذ لا تحتوي على أي مؤكد من المؤكدات، فهي أشبه بالبشرى، أما قوله (يا بلد) فهي جملة نداء من حيث التكييف النحوي، وإنشائية من حيث التكييف البلاغي، وهذا يعني أن الجملتين مختلفتان من حيث البنية النحوية والبلاغية وإذا دققنا النظر فسنجد أن الجملة الأولى (أبو زيد راجع) جاء الخبر فيها مفردا، وهو ما يعني أنها/الجملة مجرد خبر أو إشاعة على العكس إذا قال (أبو زيد رجع/يرجع) ففي هذه الحالة يكون الرجوع حدث فالفعل (رجع) أو بدأ في الحدوث ويستمر فيه (يرجع)، وهو ما يعبر عن الجانب النفسي في كلا الطرفين اللذين سيكون لهذه الجملة تأثير عليهما (الصقر – الصليب) فالطرف الأول/ العمدة ومن يوالونه يخشى من هذا الرجوع لأن سلطته ستزول بمجرد رجوعه، والطرف الثاني/المجتمع بمكوناته المختلفة يرجون الرجوع؛ لأن حقوقهم ستعود إليهم، ومن ثم فإن مجرد إطلاق القول، حتى وإن لم تتحقق له علامات دالة، سيكون له تأثير كبير، ومن ثم فإن الجملة (أبو زيد راجع) قد تكون مجرد تهديد ووعيد للطرف الأول، ووعد وأمل للطرف الثاني، على العكس إذا قلنا (أبو زيد رجع) فهذا يعني أن فرصة الطرف الأول/الصقر في التفكير ضائعة؛ لأنه أصبح أمام واقع متغير، وأن سلطته انتهت فعليًّا، أما القول (أبو زيد راجع) فهو إشارة إلى أن سلطة الطرف الأول/الصقر لم تنتهِ، ولكنها في طريقها إلى النهاية، وعليه أن يأخذ الاحتياطات اللازمة للخروج من هذا المأزق، ويعيد الحقوق إلى أصحابها، ويعدِّل من أوضاعه؛ حتى لا يقع تحت طائلة العقاب من السلطة الأقوى منه/أبو زيد، وأما كون الجملة خبرية ابتدائية فهو ما يؤكد الدلالة بأنها مجرد خبر لا يملك تأكيدا لصحته؛ فالجملة الخبرية الابتدائية هي الجملة التي تخبر عن شيء دون إيراد أي تأكيد لهذا الخبر،أما أسلوب النداء (يا بلد) فالغرض منه التنبيه، وهو ما يصبُّ في تأكيد الدلالة السابقة، ومن ثم وجدنا الأطراف كلها تستعد لهذا القادم، كلٌّ على حسب رؤيته. لقد جاءت الجملة الافتتاحية في القصة حاملة الكثير من الدلالات.
ثم تأتي الحركة الأولى للمعنى من خلال مقطعين ففي المقطع الأول يقول النص: (انتفضت القريةُ كلُّها لسماعِ ذلك النبأ: كبيرُها وصغيرُها، العمدة أرسل شيخ الخفر لتأمين المداخل والمخارج وتوزيع الخفر وإعطائهم مرتباتهم المتأخرة من عشـر سنين، ولم ينس أن يركز على توزيع جراية كبيرة، ومال على شيخ البلد حين صارا وحدهما، وأوصاه بتسجيل كل همسة أو لمسة أو إشارة أو عبارة) وهذا المقطع يدل على التأثير المباشر للأخبار التي تنتشـر في القرية، وأن الواقع المأساوي لا يجعل أحدا يفكر في التحقق من الخبر الذي يأتي؛ فمن المفترض أن العمدة يمثل السلطة الوحيدة القادرة على معرفة الأخبار وصحتها أو كذبها بما يمتلك من أدوات ووسائل، ولكننا نلاحظ أن العمدة ومن يحيطون به انساقوا وراء الخبر، وبدأوا في ترتيبات مواجهته، وهنا يأخذنا التأويل إلى أن النص يشير بطريق غير مباشرة إلى الخوف الذي يحيط بالسلطة القاهرة في القرية، وأنها سلطة هشة خائفة مترهلة، بمجرد سماعها خبرا قد يؤثر على قدرتها وبطشها ترتبك، وتحاول إخفاء جرائمها واسترضاء من قهرتهم ظنًّا منها أنها ستنجو بما تفعل، وهذا يدفعنا إلى التساؤل الجوهري: هل ممارسة تلك السلطة/الصقر قهرها للمجتمع ناشيئ من قدرتها وقوتها على التحكم أو أنه ناشئ من فشل مكونات المجتمع/الصليب في مواجهة هذه السلطة التي بدت ضعيفة مرتبكة من مجرد انتشار خبر قد يؤدي إلى عقابها، أو تصوُّر عقابها؟ فكما قلنا إن خبر عودة الهلالي مجرد خبر لا تأكيد له، أما المقطع الثاني في حركة المعنى الأولى فقد عبَّر عنه النص يقوله (كُلٌّ حضَّـر شكواه: الذين تنازلوا - غصبًا أم رضا - عن أفدنتهم أو قراريطهم للباشا الكبير أو للعمدة ...... حتى "ستوتة أم أبوها" جاءت بشكواها ضد كاتب العمدة لأنه أخذ ختمها ولم يرده منذ عشرين عامًا، ولم تحصل من معاش ابنها الشهيد على مليم أيام المليم، ولا على قرش أيام القرش ولا على جنيه أيام الجنيه، ولا على ألف أيام الآلاف) وهذا المقطع يمثل الطرف الثاني/الصليب/المقهور/ صاحب الحقوق، وقد بدا هذا الطرف ضعيفا متراخيا (تنازلوا، غصبًا أم رضا، عن أفدنتهم أو قراريطهم – اشتروا أرضًا وأدوات كهربائية وحديدًا وأسمنتًا بالسعر الذي يحدده الباشا ويرضاه العمدة – ستوتة أم أبوها" جاءت بشكواها ضد كاتب العمدة لأنه أخذ ختمها ولم يرده منذ عشرين عامًا، ولم تحصل من معاش ابنها الشهيد) وهكذا فإن الدلالات تشير إلى أن الطرف المقهور كان مساعدا في وقوع القهر عليه، إما بتراخيه في المطالبة بحقوقه كما نجد في شخصية ستوتة التي لم تشـر القصة من قريب أو بعيد إلى أنها طالبت يوما بالختم أو معاش ابنها الشهيد الذي نهبه كاتب العمدة، أو أنها شكت إلى أي جهة يمكن أن ترد إليها حقها المسلوب، أما المتنازلون عن أرضهم فمنهم من تنازل عن رضا، ومن ثم فهو مشارك مشاركة مباشرة في الظلم الواقع، ومنهم من تنازل غصبا، وهو أيضا يندرج ضمن الداخلين ضمن منظومة القهر بسكوتهم على ما وقع عليهم من غصب أرضهم، وهكذا ترى القصة أن الطرف الثاني/الصليب يمثل جزءا من منظومة القهر؛ لأنه لم يحرك ساكنا رغم ما يبدو من هشاشة من يمثلون سلطة القهر في القرية، لقد أبرزت حركة المعنى عالم القرية بطرفيه/الصقر والصليب، وما يعانيه، وأن الأطراف كلها مشاركة فيما يحدث للقرية من قهر وظلم واستلاب، فحتى سلطة القهر في القرية هي سلطة مستلبة بعضها لبعض، فشيخ الخفر مقهور ممن فوقه، والعمدة مقهور من الباشا الكبير، وهكذا فإن هذه السلطة ليست سوى مجموعة سلطات بعضها يقهر بعضا، وهي في النهاية ضعيفة ومترهلة، وإن بدت في الظاهر باطشة قوية. لقد استطاع النص أن يبرز مأساة القرية ومكوناتها البشرية، والأسباب الحقيقية لما آل إليه حالها.
ثم تأتي الحركة الثانية للمعنى، ويمثلها مقطعان من القصة، أما المقطع الأول فيمثله عامة الناس في قوله (امتلأ جُرن القرية بالمنتظرين الداعين الباكين الحالمين بمن يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا، وخلت الوسية من التملية، ولم يستطع أحد أن يقترب من أهل القرية ليسوقهم للعمل جبرًا في إحدى الوسايا، ولا ليمنعهم من التجمهر وتكدير الأمن العام، ببساطة لم يعد في القرية أحد يمنعهم، ورأوا صفرة الخوف في عيون الخفر وشيخهم، واحتجب عمدتهم) تمثل هذه الحركة ملمحا آخر من ملامح القرية وأهلها، فحركة العمل تعطلت، وبدأ الحالمون في ممارسة أحلامهم، وانتظار المخلص الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا في إشارة من النص إلى الاتكال على الغائب الموعود أو المهدي المنتظر اتكاء على المخزون الديني، إن هذا المقطع يمثل أنسجة الفكر المتحكم في القرية وأبنائها، فمجرد إشاعة خبر عودة الهلالي توقفت حركة الحياة، ولم يقدر الخفر على ممارسة نشاطهم واحتجب العمدة وخلت الوسية من التملية، ولم يستطع أحد أن يجبر أحدا على العمل إما خوفا من غضب الأهالي أو خوفا من الهلالي عندما يعود.
وأما المقطع الثاني فيمثله المثقفون من أبناء المجتمع في قوله (انقسم العالمون ببواطن الأمور الذين يقرأون الصحف والمجلات ....... ) وهؤلاء هم الذين يرصدون حال المجتمع ويحللون ما يدور فيه، فيحددون الأسباب والنتائج، وهؤلاء المثقفون منقسمون، فمنهم من يرى أن السبب الحقيقي وراء ما يحدث في القرية هم أبناء القرية أنفسهم الذين لم يعد لهم اهتمام بالعمل الجاد، أو التفكير فيما يحصل لهم ونتائجه، وقد عبَّر النص عن ذلك بقوله (ولا أبو زيد ولا جد زيد، هل خربها غيرهم؟ الناس تسمع الشاعر إلى طلعة الفجر، وتنخمد تنام إلى مغيب الشمس، وبعد هذا يقولون: الزرع خاب، أصل الباشا ابن الباشا الكبير أعطانا تقاوي مستوردة من البلد الزرقاء ....) ومنهم من يرى أن أسبابا أخرى وراء ذلك (اندفع أحدُ العائدين من جامعةِ العاصمة: "ثم يعني الهلالية مجموعة حرامية وقطاع طرق وهم السبب في سقوط الأندلس يعني مثلهم مثل الكفار وألعن، والأكثر من هذا إن الهلالية ليسوا من بلدنا، ولا يفهمون عاداتنا وتقاليدنا") وبذلك يلقي هؤلاء اللوم فيما يحدث على طائفة من المجتمع هم الهلالية يتهمونهم بالخروج عن الدين ويستدعون تاريخهم البعيد متهمين إياهم بأنهم السبب في سقوط الأندلس، وهؤلاء هم طائفة الدارسين والباحثين الأكادميين من المثقفين (أحد العائدين من جامعة العاصمة) أما الطرف الثالث فهم المهووسون بالهلالية (هاج المضروبون بالسيرة الهلالية: "لم نسمع إلا منكم هذا الكلام، الهلالية أشرف منكم ومن العمدة ومن ابن العمدة ومن الباشا ومن أهله ومن اللي وراه كلهم") ثم يأتي من يمثلون السلطة الدينية في قوله (وتمتم بعض الشيوخ: "اللي يركب احنا محاسيبه") لقد أدان النص كل فئات المجتمع بما فيهم المثقفون الذين كان يمكن أن يعوَّل عليهم في انتشال المجتمع من ضياعه ومآسيه، وجعلت الجميع مشاركا بصورة أو بأخرى في مأساة المجتمع، وما آل إليه حاله، ولكن القصة ترى في الجيل الجديد من الشباب الأمل في انتشال المجتمع من مآسيه؛ إذ تقول (وأشعل فتى غضٌ المصباح: "ولماذا ننتظر الهلالي؟" فأغمض كثيرون عيونهم من وهج الضوء أو من حلاوة الحلم) إن النص يرى الأمل في الشباب، أما أولئك الذين عايشوا القهر وتعايشوا معه فلا أمل فيهم، ولن يقدموا سوى الاختلاف والتناحر فيما بينهم، ولن نجد لديهم حلولا حقيقية، ولذلك وجدناهم يغمضون أعينهم من وهج الضوء أو من حلاوة الحلم. لقد استطاعت القصة في الحركة الثانية للمعنى أن تقدم صورة واضحة المعالم لشرائح المجتمع، وأدانت الجميع، وسوف نتوقف لاحقا أمام التشكيل اللغوي للنص، ومدى قدرة شبكة العلاقات اللغوية على كشف المخبوء من الدلالات في النص.
وإذا كانت الحركة الثانية للمعنى قدَّمت صورة لعامة أهل القرية، كما قدَّمت صورة واضحة للمثقفين ودورهم في مأساة القرية وانقساماتهم، وعدم قدرتهم على مواجهة ما يحدث في القرية، وكل واحد منهم يغرد خارج السرب متسقا مع رؤاه وانحيازاته الفكرية، وتوجهاته، أي أن الحركة الثانية قدَّمت صورة للقرية بكل شرائحها/الصليب، فإن الحركة الثالثة للمعنى في النص فقد عبَّرت عن محاولة الطرف المقابل/الصقر/السلطة المتحكمة في القرية لمعالجة ما يترتب على عودة الهلالي من آثار تنعكس بصورة مباشرة عليهم، وقد كانوا أكثر فهما لدورهم، ومحاولة توفيق أوضاعهم مع المتغيرات الجديدة التي يمكن أن تحدث مع عودة الهلالي/المخلص، وقد عبَّر النص عن ذلك بقوله (في الصباح بدأ الرباح؛ أسرع تاجر التموين (وحراميه الداهية في الوقت نفسه) بالطَّرقِ عَلَى بيوتِ البلدِ بيتًا بيتًا، وأعطى أهلَها من سُكاتٍ تموينَهم كما أُنزَل وزيادة دون مقابل ......) وتتوالى تصـرفات هذا الفريق بما يتواءم مع بنيته الفكرية، فقد حاول كل طرف توفيق أوضاعه، فتاجر التموين طرق الأبواب وأعطى كل بيت ما يستحقه وزاد عليه في محاولة استرضاء الناس، وكاتب العمدة جرى نحو ستوتة التي ظل يأكل مال ابنها الشهيد ورمى في حجرها ثلاثين ألف جنيه، وقبَّل يدها عشـر مرات كي تسامحه، والشاعر سيد الكبير قد طاف بأهل البلد واحدًا واحدًا يحفظهم مقطع الترحيب بالهلالي سلامة، وأما العمدة فقد اكتشف من خلاله جاسوسه في القصـر أن سنده الباشا الكبير سافر، لقد كشف النص عن عالم الطرف الثاني في القرية/الصقر، واتهمهم جميعا بالنفاق، والخداع، ومن ثم فإن تراجعهم لم يكن سوى محاولة لاسترضاء المقهورين، من أجل استمرارهم حتى تحين فرصة أخرى فينقضون على المجتمع ثانية، ويمارسون سلطتهم الباطشة به، ولكننا نكتشف أن هذا البطش يخفي وراءه ضعفا وترهلا.
أما الحركة الرابعة للمعنى فهي النتيجة التي عبَّر عنها الفتى الغض/الشباب بقوله في الحركة الثالثة (وأشعل فتى غضٌ المصباح: "ولماذا ننتظر الهلالي؟") فبعد أن اكتشف الجميع أن عودة الهلالي مجرد إشاعة عادت الحياة إلى ما كانت عليه، أو هكذا ظن الجميع (انتصف النهار، ثم اقترب المساء، ثم حل الليل، والهلالي لا حس، ولا خبر، وعند الفجر كل يرجع لمكانه: الباشا باشا، والعمدة عمدة، وستوتة ستوتة، والعارف لا يُعرَّف) فهل عادت الحياة إلى ما كانت عليه فعلا، لقد ظن الجميع ذلك، ولكن تغيرا مهما حدث، وهو أن خبر عودة الهلالي – وإن كان مجرد خبر أو إشاعة – حرَّك ما كان كامنا في الشباب الذين قادوا التغيير في القرية دون أن يدري أحد، وهو ما عبَّر عنه النص بقوله (بعد ليالٍ انتفض العمدة مستيقظًا على هرج ومرج، نادى على شيخ الخفراء فلم يرد، نادى على الخفر بأسمائهم واحدًا واحدًا، فلم يرد أحد، أسرع في حذر إلى النافذة ليرى ما لم يتوقعه أحد، الخفر مربوطون، وكل فلاح واقف على رأس أرضه التي غصبها العمدة أو الباشا، شعر بالباب من خلفه يسقط في قوة، ولأول مرة في حياته أحس بصفعة ألهبت قفاه فركع صارخًا: "بالقانون... كلٌّ يأخذ حقه بالقانون") وإذا كان النص لم يشر في هذا المقطع الأخير إلى من قام بذلك فإنه قد قدَّم فيما سبق العنصر المؤهَّل لفعل ذلك، وهو الشباب حين قال (وأشعل فتى غضٌ المصباح: "ولماذا ننتظر الهلالي؟") ومن ثم فإن النص يرى أن الفئات التي عاصرت سلطة القهر والظلم في القرية، وتآلفت أو تعاملت معها أو خضعت لها بصورة أو بأخرى غير قادرة على مواجهة تلك السلطة وانتشال مجتمع القرية من حاله المزرية، وأن الجيل الجديد من الشباب وحده القادر على تغيير الأوضاع؛ ذلك أن المثقفين على اختلاف توجهاتهم قد ثبت عجزهم عن تقديم حلول ناجعة لمآسي المجتمع ومشاكله، وأنهم أكثر انقساما، وكل منهم يحتمي برؤاه الفكرية وينحاز لها، ويرى أن الجميع لابد أن ينصاع لما يراه، أما رجال الدين فقد كانوا – من وجهة نظر النص – أكثر عجزا عن تقديم الحلول، وعبَّر النص عن ذلك بقوله (وتمتم بعض الشيوخ: "اللي يركب احنا محاسيبه") في إشارة واضحة إلى عجز السلطة الدينية عن تقديم حلول لما يعاني منه المجتمع، بل يراها النص متماهية مع أي سلطة تتحكم في القرية (اللي يركب احنا محاسيبه)، وهكذا استطاعت حركة المعنى في النص أن ترصد عوالم النص وتكشف عن رؤاه الفكرية المتخفية وراء شبكة من العلاقات اللغوية.
الرؤية الفكرية وتشابكات الأحداث
يبدو من الوهلة الأولى أن الصراع هو الحاكم لحركة الأحداث في القصة، والمتحكم في تصرفات أفرادها وعناصرها الفاعلة؛ ذلك أن مجرد ذكر عودة الهلالي قد فجَّر كل الجراحات النفسية والمجتمعية، واستدعى تراكمات الاستلاب والقهر لكل فئات المجتمع عبر فترات طويلة، وإن اختلفت الأشكال والوسائل والأدوات، وفي هذا الإطار لابد من الإشارة إلى أن الشخوص في القصة قد تخلَّت عن صفاتها الفيزيائية واكتست بصفات تجريدية، فكل شخصية تمثل قيمة مجتمعية أو فكرية أو دينية، ومن ثم فإن الناظر إلى القصة من هذه الزاوية لابد أن يضع في الاعتبار أن القصة لا تتحدث عن شخوص محددين بل شخصيات تحوَّلت طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين كل الشخوص الذين يندرجون تحت إطارها العام، وتوصيفها المحدد، فهي حين تتحدث عن العمدة تقصد السلطة المتحكمة في القرية أو المدينة أو أية سلطة في أي مكان في العالم، فهذه السلطة المحددة حين تمارس هذا الفعل المحدد ستصل إلى تلك النتيجة المحددة، وكذلك المثقفون على اختلاف انتماءاتهم الفكرية وانحيازاتهم المجتمعية، ومدى قربهم أو بعدهم من منظومة القيم الحاكمة للمجتمع والمتحكمة في حركة أحداثه، فكل منهم يمثل قيمة فكرية أو مجتمعية أو دينية محددة، ومن ثم فإن القصة لا تتحدث عن أشخاص بأعيانهم، ولكنها تتحدث عن دوائر فكرية أو دينية أو اجتماعية، ومن هنا كان قولنا إن الشخوص في القصة خرجت عن طبيعتها الفيزيائية لتتلبس بطبيعة إدراكية سائلة بين الأماكن والأزمان، وفي هذا الإطار أيضا ينبغي النظر إلى شخصية الهلالي؛ فهي في القصة ليست شخصية فيزيائية، ولكنها تمثل رمزا وطبيعة تجريدية وإدراكية، فذكر اسم الهلالي يستدعي إلى الذهن كل ما أحيط بهذه الشخصية من ملابسات وأحداث ورموز وصراعات وانتصارات، إنها شخصية رمز. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة القصة في إطار رؤية فكرية أوسع مدى، وأكثر شمولية متجاوزين الصورة النمطية للبيئة الريفية التي تعرضها القصة، والتي توارثتها الكتابات الأدبية عبر فترات متتالية من الزمن، وقدمتها أقلام متعددة، وإن اختلفت التوجهات الفكرية والانحيازات الأخلاقية والمجتمعية لتلك الأقلام .
1 – منظومة الاستلاب والقهر: وتتمثل هذه المنظومة في (العمدة – ابن العمدة – شيخ الخفر – شيخ البلد – تاجر التموين – الباشا الكبير – ابن أخي الباشا الكبير – ابن أخت الباشا الكبير) ويتنوع حضور عناصر هذه المنظومة بين حضور رئيس ومتوسط وهامشـي، أما الحضور الرئيس فقد كان للعمدة ولتاجر التموين، فالعمدة قد استحوذ على مساحة أكبر في فضاء القصة من زاوية منظومة الاستلاب والقهر؛ فهو السلطة الحاكمة الفعلية في القرية، وقد مثَّلت مراحل حضوره في القصة مراحل حركة الأحداث وتطوراتها، ففي المرحلة الأولى للأحداث/انتشار خبر عودة الهلالي كان حضوره متناسبا مع طبيعة هذه المرحلة (العمدة أرسل شيخ الخفر لتأمين المداخل والمخارج وتوزيع الخفر وإعطائهم مرتباتهم المتأخرة من عشـر سنين، ولم ينس أن يركز على توزيع جراية كبيرة، ومال على شيخ البلد حين صارا وحدهما، وأوصاه بتسجيل كل همسة أو لمسة أو إشارة أو عبارة) ومن الملاحظ أن حضوره يتسق مع طبيعته الاستحوازية وسلطته القهرية؛ إذ لا نجد ظلا من قريب أو بعيد للمجتمع وعناصره المقهورة، بل كان اهتمامه الرئيس بمن يرى أنهم قادرون على حمايته، وحماية سلطته، واسترضائهم بإعطائهم مرتباتهم المتأخرة من عشـر سنين، ولم ينس أن يركز على توزيع جراية كبيرة، وهو ما يراه ضروريا لضمان ولاء هؤلاء الخفر الذين يرى فيهم تهديدا حقيقيا لسلطته؛ فهم القادرون على حمايته، وعلى وإزاحته في الوقت نفسه عن طريق التغاضي عن المقهورين لمهاجمته، أو الوقوف معهم ضده، أو التخلي عنه لحساب شخصية أخرى، ومن ثم فإن العمدة يرى ضمان ولائهم له ضروريا، وإن كانوا قد تعرضوا أيضا لممارساته القهرية بعدم صرف مرتباتهم لمدة عشـر سنوات، كما يقوم العمدة في هذه المرحلة من مراحل الأحداث بتوصية شيخ البلد بتسجيل كل همسة أو لمسة أو إشارة أو عبارة، ومن الواضح أنه يقصد بذلك تصرفات الخفر؛ لأن حديثه مع شيخ البلد كان عندما صارا وحدهما، ولو كان يريد تسجيل همسات الأهالي وإشاراتهم لكان قال ذلك أمام الخفر؛ فهم سيتعاملون مباشرة مع أهل القرية، وفي ذلك إشارة إلى أن سلطة الاستلاب والقهر لم تكن تحكمها الثقة فيما بين أفرادها، فكل طبقة من طبقات تلك السلطة تمارس الاستلاب والقهر على من دونها من السلطات، وتراقبها خوفا من انقلابها وتراجعها عن نصـرة من هم أعلى منها، أما الحضور الثاني للعمدة فقد كان بعد تطور الأحداث، وشعور العمدة أنها خرجت عن سيطرته، وهنا لجأ إلى الباشا الكبير لطلب المساعدة (ذهب العمدة إلى الباشا الكبير فلم يجده، وعرف من جاسوسه داخل السـرايا بأن الباشا سافر على أول طائرة ومعه كل الباشوات) وهنا يدرك العمدة أنه أصبح بلا سند حقيقي، وأن سلطته في خطر حقيقي، ومن ثم كان لجوؤه إلى الحلول المتناسبة مع طبيعته القهرية، وهو قتل الهلالي نفسه، فأغوى بذلك محمد أبو سليم الزغبي الذي أضاع ثمن الجاموستين على الغازية الغجرية، وهو أيضا يخشى من عودة الهلالي لأسباب أخرى تختلف عن أسباب العمدة، ولكن العمدة استغل خوف محمد أبو سليم فأغراه بقتل الهلالي (نزل العمدة من على بغلته: وأمسك بكتف "أبو عوضين": "تسلم وتعيش يا نسل الرجولة، طلقة واحدة وتبقى شيخ الخفر، وأزوجك من الغجرية إياها، أنا قاعد في غيط الذرة الشرقي، سأسمع طلقتك، وستقيد ضد مجهول..") ومن الملاحظ أن الإغواء يستند أيضا على طبيعته الاستحواذية وسلطته القهرية القائمة على الإغراء من خلال استغلال نقاط ضعف الطرف المراد استغلاله، حيث أغراه بوظيفة شيخ الخفر وتزويجه من الغجرية التي يعشقها، وهو هنا لا يقيم وزنا لشيخ الخفر الحالي الذي سانده طيلة فتراته السابقة، وكان سوطا مسلطا على القرية وعلى الخفر في الوقت نفسه، ثم يأتي الحضور الأخير للعمدة حين تصل الأحداث إلى نهايته، حين كان ينتظر سماع صوت الطلقة تنطلق إلى صدر الهلالي، ولكن الهلالي لم يحضر، أما العمدة فهو الذي سقطت سلطته، وهو الحضور الأخير له حيث تختفي تلك السلطة بعد سقوط أدوات حمايته (بعد ليالٍ انتفض العمدة مستيقظًا على هرج ومرج، نادى على شيخ الخفراء فلم يرد، نادى على الخفر بأسمائهم واحدًا واحدًا، فلم يرد أحد، أسرع في حذر إلى النافذة ليرى ما لم يتوقعه أحد، الخفر مربوطون، وكل فلاح واقف على رأس أرضه التي غصبها العمدة أو الباشا، شعر بالباب من خلفه يسقط في قوة، ولأول مرة في حياته أحس بصفعة ألهبت قفاه فركع صارخًا: "بالقانون... كلٌّ يأخذ حقه بالقانون") إن الهرج والمرج يمثلان حالات التغير التي أصابت القرية، بمعنى الحيوية التي عادت إلى القرية، وما يصاحبها عادة من الانطلاق في كل مكان ودون هدف محدد كنوع من التعبير عن الانطلاق، أما أدوات السلطة القهرية فقد انتهت فانتهت تلك السلطة من تلقاء نفسها، وانكشف ضعفها، فالخفر مربوطون، ومن ثم عاد كل حق إلى صاحبه.
أما تاجر التموين فقد جاء حضوره تاليا لحضور العمدة من حيث التأثير الفعلي على حياة القرية (أسرع تاجر التموين (وحراميه الداهية في الوقت نفسه) بالطَّرقِ عَلَى بيوتِ البلدِ بيتًا بيتًا، وأعطى أهلَها من سُكاتٍ تموينَهم كما أُنزَل وزيادة دون مقابل) وهو حضور يتناسب مع طبيعته الاستغلالية، فسلطة الاستلاب والقهر تتنوع بين قاهر أو مستغل أو كليهما معا، وقد كانت مثَّلت سلطة تاجر التموين الوجه الاستغلالي فقط لمنظومة الاستلاب والقهر، وعندما علم بخبر عودة الهلالي حاول استرضاء من وقعوا في استغلاله، ويأتي بعده من حيث الحضور في القصة كاتب العمدة، فقد كان حضوره متوسطا، وهو أيضا سلطة استغلال ضمن منظومة الاستلاب والقهر؛ حيث استغل ستوتة فأخذ ختمها الذي تصرف به معاش ابنها الشهيد، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يوجد شيء له قيمة في ذهن هذه السلطة الاستغلالية، فحتى أولئك الذين ضحوا بحياتهم دفاعا عن أوطانهم لم ينجوا من استغلال تلك السلطة التي لم تحترم ذكراهم، ولم ترحم ذويهم، أما بقية منظومة الاستلاب والقهر فقد كان حضورهم باهتا من خلال الحديث عنهم، أو عن تصرفاتهم، أو ورود أسمائهم عرضا أثناء الحديث عن بعض الأحداث هنا وهناك.
2 – المقهور جزء من سلطة الاستلاب والقهر: من الملاحظ أن المجتمع في القرية بكل فئاته كان واقعا تحت سلطة الاستلاب والقهر، ولكن من الملاحظ أيضا أن هؤلاء المقهورين كانوا جزءا من سلطة القهر عن طريق سكوتهم عن القهر، أو مساعدتهم لمن يقهرونهم، أو الاختلاف والتشظي الذي يعطي لمنظومة الاستلاب والقهر الحرية في ممارسة عملها، فمن حيث السكوت كان واضحا في الفئات التي خرجت بشكاواها المتعددة والمتنوعة والدالة على تنوع القهر والاستغلال، فقد مرَّ على ستوتة عشر سنوات لم تطلب من كاتب العمدة إعادة الختم الذي استحوذ عليه، وغيرها من فئات المجتمع الذين يدورون في دائرة الاستغلال، وأما من حيث مساعدة القاهرين على قهرهم، فقد ظهر ذلك بطريق مباشر في موقف الخفر، فالبرغم من أنهم لم يحصلوا على رواتبهم لمدة عشر سنوات إلا أنهم ظلوا يدافعون عن العمدة ومنظومته، وقد يكون في ذلك إشارة غلى أنهم يستغلون منصبهم في استغلال أهالي القرية، وظهر كذلك عن طريق غير مباشر في تصرفات بقية فئات المجتمع، فمنهم من استسلم لسلطة الباشا الكبير من خلال العمل في مصنع الثلج، أو محلج القطن، وأهمل أرضه أو باعها (الزرع خاب، أصل الباشا ابن الباشا الكبير أعطانا تقاوي مستوردة من البلد الزرقاء، الأحسن نشتغل في مصنع الثلج أو محلج القطن أو محل من محلات الباشوات الكبار، وبعد يوم أو اثنين، الأجرة تزيد) ومنهم من استسلم للحكايات الشعبية وعاش حياة وهمية متخيلة، وأما المشاركون عن طريق اختلافهم وانقسامهم فقد كانوا المثقفين الذين لم يتفقوا على شيء، ولكن اللافت أن ممثلي السلطة الدينية الذين قد انحيازاتهم منذ البداية، فهم مع من يسيطر على السلطة أيا كان هذا المسيطر (تمتم بعض الشيوخ: "اللي يركب احنا محاسيبه") وليس معنى ذلك أنهم لم يكونوا ضمن دائر الاستلاب والقهر؛ لأنهم جلسوا وتناقشوا مع المثقفين باعتبارهم جزءا من فئات المجتمع، وليس باعتبارهم جزءا من منظومة الاستلاب والقهر. لقد دلت المواقف السابقة كلها على أن المقهورين كانوا جزءا من سلطة الاستلاب القهر بشكل من الأشكال.
لقد كانت شخوص القصة بكل تفاعلاتها كاشفة عن ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء الأحداث وتشابكاتها، وقد استطاع الكاتب نسج تلك الرؤية بحرفية شديدة، فظهرت الأحداث على مستويين: مستوى بسيط يمكن لأي قارئ أن يتابعه من خلال أحداث نمطية عن بيئة ريفية تحكمها تقاليدها المتوارثة، وتتحكم فيها مظاهر السلطات المتوارثة ممثلة في العمدة وشيخ الخفر وشيخ البلد والخفر، كما تتحكم فيها الحكايا الشعبية والأساطير، ومستوى معقد يتخفى خلف الأحداث ويحكم منطقها، ويتحكم في تشابكات العلاقات بين عناصرها.
عودة الهلالي
أحمد سراج
"أبوزيد راجع يا بلد"
انتفضت القريةُ كلُّها لسماعِ ذلك النبأ: كبيرُها وصغيرُها، العمدة أرسل شيخ الخفر لتأمين المداخل والمخارج وتوزيع الخفر وإعطائهم مرتباتهم المتأخرة من عشـر سنين، ولم ينس أن يركز على توزيع جراية كبيرة، ومال على شيخ البلد حين صارا وحدهما، وأوصاه بتسجيل كل همسة أو لمسة أو إشارة أو عبارة.
كُلٌّ حضَّر شكواه: الذين تنازلوا - غصبًا أم رضا - عن أفدنتهم أو قراريطهم للباشا الكبير أو للعمدة..
والذين اشتروا أرضًا وأدوات كهربائية وحديدًا وأسمنتًا بالسعر الذي يحدده الباشا ويرضاه العمدة، وابنُ العمدة الذي سيصبحُ عمدة عندما يموت العمدة في القريبِ العاجل أو الآجلِ بإذن المولى القدير على إزاحة كل الهموم والكوابيس التي لا تريد أن تنزاح..
والذين عادوا من الخارج ليجدوا أن عليهم دفع ضريبة مغادرة وضريبة رجوع وضريبة تأخير..
والذين كانوا يعملون في مصنع الثلج الذي أغلقته ثلاجات الباشا ابن أخي الباشا الكبير..
والذين كانوا يعملون في محلج القطن الكبير آخر البلد الذي اشتراه الباشا ابن أخت الباشا الكبير...
حتى "ستوتة أم أبوها" جاءت بشكواها ضد كاتب العمدة لأنه أخذ ختمها ولم يرده منذ عشرين عامًا، ولم تحصل من معاش ابنها الشهيد على مليم أيام المليم، ولا على قرش أيام القرش ولا على جنيه أيام الجنيه، ولا على ألف أيام الآلاف.
امتلأ جُرن القرية بالمنتظرين الداعين الباكين الحالمين بمن يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورًا، وخلت الوسية من التملية، ولم يستطع أحد أن يقترب من أهل القرية ليسوقهم للعمل جبرًا في إحدى الوسايا، ولا ليمنعهم من التجمهر وتكدير الأمن العام، ببساطة لم يعد في القرية أحد يمنعهم، ورأوا صفرة الخوف في عيون الخفر وشيخهم، واحتجب عمدتهم.
انقسم العالمون ببواطن الأمور الذين يقرأون الصحف والمجلات فقال فريق: "ولا أبو زيد ولا جد زيد، هل خربها غيرهم؟ الناس تسمع الشاعر إلى طلعة الفجر، وتنخمد تنام إلى مغيب الشمس، وبعد هذا يقولون: الزرع خاب، أصل الباشا ابن الباشا الكبير أعطانا تقاوي مستوردة من البلد الزرقاء، الأحسن نشتغل في مصنع الثلج أو محلج القطن أو محل من محلات الباشوات الكبار، وبعد يوم أو اثنين، الأجرة تزيد" وهنا اندفع أحدُ العائدين من جامعةِ العاصمة: "ثم يعني الهلالية مجموعة حرامية وقطاع طرق وهم السبب في سقوط الأندلس يعني مثلهم مثل الكفار وألعن، والأكثر من هذا إن الهلالية ليسوا من بلدنا، ولا يفهمون عاداتنا وتقاليدنا" وهنا هاج المضروبون بالسيرة الهلالية: "لم نسمع إلا منكم هذا الكلام، الهلالية أشرف منكم ومن العمدة ومن ابن العمدة ومن الباشا ومن أهله ومن اللي وراه كلهم" فيما قال المعذبون في الأرض: "دعونا نجرب" وتمتم بعض الشيوخ: "اللي يركب احنا محاسيبه" وأشعل فتى غضٌ المصباح: "ولماذا ننتظر الهلالي؟" فأغمض كثيرون عيونهم من وهج الضوء أو من حلاوة الحلم.
في الصباح بدأ الرباح؛ أسرع تاجر التموين (وحراميه الداهية في الوقت نفسه) بالطَّرقِ عَلَى بيوتِ البلدِ بيتًا بيتًا، وأعطى أهلَها من سُكاتٍ تموينَهم كما أُنزَل وزيادة دون مقابل...
أما خَفَر المداخل والمخارج فكل واحد سلم البندقية أم روحين وقعد مع أصحاب الشكاوى..
أما كاتب العمدة جرى نحو ستوتة التي ظل يأكل مال ابنها الشهيد ورمى في حجرها ثلاثين ألف جنيه، وقبَّل يدها عشر مرات كي تسامحه..
ذهب العمدة إلى الباشا الكبير فلم يجده، وعرف من جاسوسه داخل السرايا بأن الباشا سافر على أول طائرة ومعه كل الباشوات..
وطاف الشاعر سيد الكبير بأهل البلد واحدًا واحدًا يحفظهم مقطع الترحيب بالهلالي سلامة:
"سيرة عرب أكرمين .. كانوا ناس يخـشوا الملامة
رئيسهم أسد سبع ومتين .. اسمه الهلالي سلامة"
أما محمد أبو سليم الزغبي، فأحس أن الدنيا اسودت في وجهه اسودادًا لا مثيل له؛ إذ باع منذ ثلاثة أشهر ثلاث جاموسات مرة واحدة، ونام بالثمن مع غازية الغجر في المولد السابق لست ليالٍ متواصلة، وحين سألته زوجته وابنة عمه عندما عاد عن سبب تأخيره وشحوب لونه وعدم قدرته على الحركة بسهولة، قال لها: "إنه لما كان خارجًا من المسجد، سمع الشاعر في المقهى، وقد وصل بحكايته إلى أن الزناتي خليفة قبض على دياب بن غانم، وألقاه في السجن" وهنا صرخت زوجته: "إياك تكون تركت جدك في السجن، وجئت إلى هنا، والله ما أقعد لك دقيقة" فربت عليها أبو عوض: "لا يا أصيلة، لقد ظللتُ وراء الشاعر، حتى جعل العلَّام يطلب رشوة كبيرة، والحمد لله يا أم العيال كانت فلوس البهايم ما زالت في جيبي" وهنا أطلقت زوجته زغرودة: "الضفر ما يطلعش م اللحم، واللي خلف ما ماتش يا سيد الرجالة" وفرَّقت الشربات على القرية كلها..
فماذا يفعل الآن وأبوزيد الهلالي سلامة لا يستقر في مكان إلا ويأتي خلفه: السلطان حسن ودياب والكل كليلة؟
وبينما هو في شروده وجد العمدة يناديه: "ما لك يا محمد؟ لماذا تحمل بندقيتك؟" لم يجد سوى أن يصرخ: "أنا عندي بنات يا عمدة، وأبوزيد سيأتي معه يونس ابن أخته، وأخاف عليهن منه.. لقد أغوى السفيرة عزيزة وهي محبوسة في قصـر من الجن والإنس" ابتسم العمدة في خبث: "ولو لم يحضر يونس اليوم" وجد أبو سليم أن كلامه على هوى العمدة فأخذته الجلالة: "فسيأتي بعده بيوم أو باثنين وعزيزة لن تترك قصـرها لتسكن هذه القرية، ويونس لا يشبع من النساء، لا بد من قتل القادم: كلهم هلالية من كبيرهم لصغيرهم" نزل العمدة من على بغلته: وأمسك بكتف "أبو عوضين": "تسلم وتعيش يا نسل الرجولة، طلقة واحدة وتبقى شيخ الخفر، وأزوجك من الغجرية إياها، أنا قاعد في غيط الذرة الشرقي، سأسمع طلقتك، وستقيد ضد مجهول.."
انتصف النهار، ثم اقترب المساء، ثم حل الليل، والهلالي لا حس، ولا خبر، وعند الفجر كل يرجع لمكانه: الباشا باشا، والعمدة عمدة، وستوتة ستوتة، والعارف لا يُعرَّف.
بعد ليالٍ انتفض العمدة مستيقظًا على هرج ومرج، نادى على شيخ الخفراء فلم يرد، نادى على الخفر بأسمائهم واحدًا واحدًا، فلم يرد أحد، أسرع في حذر إلى النافذة ليرى ما لم يتوقعه أحد، الخفر مربوطون، وكل فلاح واقف على رأس أرضه التي غصبها العمدة أو الباشا، شعر بالباب من خلفه يسقط في قوة، ولأول مرة في حياته أحس بصفعة ألهبت قفاه فركع صارخًا: "بالقانون... كلٌّ يأخذ حقه بالقانون".