- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (25) إخنقوا مصر!!
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (25) إخنقوا مصر!!
- 28 يوليو 2021, 3:43:46 م
- 780
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان أهم خطاب سياسى فى القرن العشرين.. مذهلا!!
يقف "جمال عبد الناصر" وسط الجماهير بميدان المنشية فى الإسكندرية.. يتكلم أرقاما وأسرارا وحقائق, أمام الشعب المصرى والشعوب العربية.. يتابعه الرأى العام الدولى, وكل "مطابخ السياسة" وأجهزة المخابرات.. ما يقوله ينسف منهج الاستعمار من جذوره.. لا يكتفى بالقول.. لأنه فى هذا اليوم أقدم على إعلان أقوى وأخطر فعل, وترتب عليه دراسة ما حدث وإعداد شكل ومضمون خطط السيطرة على دول "العالم النايم" بغرض "التنمية المستدانة"!!
قال "عبد الناصر" للشعب: "كان مطلوب منا إن احنا نخضع ونستسلم ونقبل شروط البنك الدولى إنه يبعت واحد يقعد مطرح وزير المالية.. ويبعت واحد يقعد مطرح وزير التجارة.. ويبعت واحد يقعد مطرحى, واحنا نبقى قاعدين فى البلد ما نعملش حاجة.. إلا بعد ما ناخد منهم التعليمات, وناخد منهم الأوامر.. دة الفخ اللى ظهر.. بعدين قررنا وأبلغنا مدير البنك الدولى إن احنا قررنا ألا نبدأ فى بنا السد إلا بعد توقيع اتفاق المياه مع السودان الشقيق.. وبعد توقيع اتفاق نهائى مع البنك الدولى ونعرف شروطه إيه! أولها إيه ونهايتها إيه! وإن احنا ادينا أوامر بإيقاف العمل فى هذا المشروع من شهر فبراير الماضى فى الحاجات اللى ماشية هناك, حتى لا ندخل فى مغامرة يتحكم فينا الاستعمار بسببها.. ويحاول يستغلنا اقتصاديا, بعد فشلهم فى استغلالنا سياسيا والسيطرة علينا سياسيا.. بعت لنا مدير البنك الدولى وقال: أنا مستعد أغير الشروط, وابعت لكم جواب ما فيهوش اللى انتو بتشتكوا منه.. قلت له: هل تضمن لى أن الجواب اللى هاتبعته هو الاتفاق النهائى, ولا الجواب اللى هابتدى على أساسه المشروع.. فلم يضمن ذلك.. قلت له نكتب الاتفاق ونؤجله, ونقول ينفذ بعد توقيع اتفاق المياه مع السودان.. بس نكون عارفين قبل ما نبتدى إيه شروطكم.. رفض وقال ما نقدرش نمضى اتفاق إلا بعد ما تتفقوا مع السودان وتحلوا مشاكلكم القانونية.. وانتم تقتدروا تبتدوا فى المشروع دلوقت بفلوسكم, وبعدين فى نص السكة نتفاوض على القرض.. طبعا دى كانت خدمة كبيرة جدا.. العملية توريطنا علشان نتذل ليهم ونقع تانى تحت رحمتهم.. يتحكموا فينا.. كان قدامنا حلين.. إما نبنى السد ونسيبه كوبرى!! يا نقبل شروطهم علشان نكمل السد, وفى نفس الوقت تكون فلوسنا – 300 مليون دولار – إستنزفت وراحت فى الهوا"!!
كل التفاصيل فى الخطاب.. تؤكد أن "عبد الناصر" لم يكن مغامرا.. بل يرفض المغامرة, ويعتمد الدراسة الواعية لقراراته.. وعرض على الشعب كل حساباته, وما يفكر فيه الاستعمار وأدواته.. وهذا أكده حين قال: "قررنا ألا نبدأ فى بناء السد, قبل ما نعلم كل العلم كيف سيتم تمويله.. بعد اتفاق نهائى مع البنك الدولى.. بعد اتفاق على المياه مع السودان وغيرها.. وبعد ما نمول مواردنا.. قبل ما نبدأ الطريق.. نعرف هاينتهى ازاى.. مدير البنك الدولى بعت لنا جواب.. طبعا الجواب ليس له أى قيمة.. لأنه بيقول أنا أنا هاشترك معام بـ200 مليون دولار بعد حل مشكلة المياه مع السودان, والفلوس تاخدوها على أقساط بمفاوضات بين البنك وبينكم.. ودة جواب مافيش بنك يصرفه.. ليس له أى قيمة.. لكنه جواب ماكانش فيه حاجة تمس سيادتنا أو سيطرة على ماليتنا.. علشان كدة قبلنا الجواب.. لكن مذكرة الحكومة البريطانية ومذكرة الحكومة الأمريكية, بيقولوا فيها حاجات تمس سيادتنا.. تبين أنه هناك نية إلى سيطرة اقتصادية وتحكم اقتصادى.. فى فبراير بلغنا السفير الأمريكى والسفير البريطانى فى مصر إبعتوا مذكرة تشيلوا منها كل كلام يبين إنكم هتسيطروا على سياستنا وعلى سيادتنا وعلى اقتصادنا.. وأى كلام يمثل سيطرة على استقلال مصر.. راحت المذكرتين للحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية.. طبعا ماجاش رد عليهما"!!
فقرات الخطاب الذى كان يرتجله "عبد الناصر" تأخذك إلى أسلوب الرواية.. فهذا خطاب له مقدمة.. تعقبها تفاصيل.. وينتهى بقمة الإثارة عند إعلان قراره التاريخى والخطير, والذى غير مناهج وأساليب الاستعمار.. ليتم اعتماد منهج "الأوف شور" لتخريب اقتصاد الدول التى كانت مستعمرة, وضمان نهب ثرواتها ومص دماء شعوبها.. ووصل إلى نقطة مهمة.. بل شديدة الأهمية.. حين أضاف: "قالوا لنا أن بريطانيا عايزة تتوسط بيننا وبين إخواننا السودانيين للوصول إلى تفاهم.. جاء سلوين لويد يوم 29 فبراير وتقابلنا عندى فى البيت.. إتكلم عن إنه عايز يعاون فى حل مشكلة المياه بيننا وبين السودانيين.. قلت له: تصرفاتكم بتدل على إنكم مانتوش بتحلوا المسائل.. لكن بتعقدوا المسائل.. تصرفات جرايدكم ومحطة إذاعتكم كلها بتتجه إلى إثارة السودانيين ضد السد العالى.. هذه وقائع ملموسة.. جميع المقالات فى جرايدكم وإذاعة لندن ومحطة إذاعة الشرق الأولى اللى هى بتاعة الانجليز.. كلها بتقول تعليقات هدفها بث روح الخوف والرفض فى إخواننا السودانيين.. وقلت له: والأنكى من هذا.. سفارتكم فى الخرطوم بتلم المقالات دى كلها وطبعتها فى كتاب ووزعته فى الخرطوم.. بتقول للسودانيين إن السد العالى ضد مصالحكم.. ودة يفهمنى إنكم عايزين تخلقوا عداء بين مصر والسودان.. دة كان كلامى مع سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا.. وقلت له: بعد كل دة جاى تقول لى إنك عايز تقوم بدور وساطة, وتساعد فى حل مشكلة المياه.. كان واضح يا إخوانى إن بريطانيا بتحاول بث روح الكراهية فى إخواننا السودانيين.. لأن الانجليز طبعا يهمهم إننا نقع مع السودان, ومن هنا ينفذوا لحماية أى منهم ضد اخر"!!
إنتقل "عبد الناصر" بعد ذلك فى الخطاب نفسه, ليضيف معلومات جديدة تؤكد متابعته الدقيقة لتفاصيل ما يدور حوله.. كان يريد أن يقول للشعب كلاما حيا له معنى.. فاستكمل براهينه بقوله: "الكلام دة حصل فى فبراير.. فى الوقت نفسه وقف لورد كيلرن فى مجلس اللوردات البريطانى وقعد يشتم مصر, ويقول إزاى نديها مساعدات؟ إزاى نعاونها؟.. مصر ما بتسمعش كلامنا.. مصر اللى النهاردة بتنادى بالحرية, وتتزعم الدعوة التحريرية وبتحاربنا.. نديها 5 مليون جنيه.. إحنا المفروض نقطع عنها أى معونات.. وقال كلام فى منتهى البذاءة.. وطبعا كلكم عارفين مين هو اللورد كيلرن!!"!
حين قال للشعب "كلكم عارفين مين هو اللورد كيلرن؟!" كان يعلم أن الذاكرة الوطنية مازالت حية وواعية.. لأن "لورد كيلرن" هو نفسه "لامبسون".. فوفقا للأعراف البريطانية.. أطلق على نفسه هذا الاسم بعد حصوله على لقب لورد.. والذى كان سفيرا لبريطانيا فى مصر, وارتبط اسمه بحدث تاريخى يوم 4 فبراير عام 1942 حين ذهب إلى قصر عابدين بمظاهرة عسكرية.. وسط الدبابات والمصفحات والمدافع, واقتحم مكتب الملك "فاروق" وفرض عليه تكليف "مصطفى النحاس" بتشكيل الوزارة, وخيره بين ذلك وبين توقيع التنازل عن العرش.. وسجل تفاصيل الواقعة فى مذكرة رسمية أرسلها إلى الخارجية البريطانية, وتم الإفراج عنها وأصبحت متاحة لمن يريد أن يعرف.. ووصف فيها "ملك مصر" آنذاك بـ"الولد" وكتب أنه وجد "الولد مذعورا.. كالدجاجة المذعورة.. وكل من كانوا حوله كالدجاجات المذعورة" ونشر فيما بعد مذكراته التى تمت ترجمتها وتوزيعها فى مصر, وأصبحت متاحة لتخرص "خدم الملكية والاستعمار".. لكنهم لا يقرأون.. لأنهم ينفذون مهام.. أولها تشويه التاريخ وتزويره للنيل من قرار مصر الوطنى, الذى عاش "عبد الناصر" أمينا عليه ومات صادقا فى الحرص عليه.
عودة إلى الخطاب لنتابع "عبد الناصر" قائلا: "يوم 14 مارس قابلت السفير البريطانى فى البيت, وقلت له إحنا شعب عاطفى.. إحنا نفضل الكلمة الحلوة عن مليون دولار.. لا نقبل الشتيمة بـ15 مليون دولار.. والكلام اللى بيتقال عندكم من النواب واللوردات و"كيلرن" بالذات لا نقبله.. إحنا ماطلبناش منكم هذه المعونة.. إحنا قبلناها حتى لا يكون رفضنا لها تعتبروه إهانة.. إنتم اللى عرضتم.. إحنا مارضيناش نقول لأ, رغم إن الخمسة مليون جنيه اللى انتم بتدوهم معونة, لو دقينا زلط زيادة شوية وطلعنا طوب زيادة شوية نجيب قيمة المعونة.. إحنا وافقنا علشان ما يبانش إن مصر بترفض النوايا الحسنة منكم.. لكن إذا تكرر هذا الكلام هنرفضها.. إحنا دخلنا القومى 900 مليون جنيه – 2,7 مليار دولار – وطبعا حصل إن جلوب انطرد من الأردن فى فبراير, وإن سلوين لويد راح البحرين فحاصروه هناك وضربوه بالطوب.. فخرجوا يقولوا إن دة نتيجة كلام مصر.. حصلت اضطرابات فى عدن لأن العمال طالبين رفع الأجور.. بدأت حملة ضد مصر لدرجة إن نائب اسمه يوزفريزر قال: إحنا لازم نشوف طريقة نخلص بيها من مصر.. نروح نعمل سد عند النيل من أوغندا أو كينيا, ونمنع المياه عن مصر علشان نخلص منها خالص.. دة يبين الجنون اللى وصلوا إليه هؤلاء الناس"
بعد نصف قرن.. أصبحنا نعيش الجنون.. نناقش الجنون.. نتفاوض حول الجنون.. عندما تم تنفيذ ما فكروا فيه ببناء السد قرب حدود السودان, بإرادة مجنونة من ساسة إثيوبيا!!
أضاف "عبد الناصر" فى خطابه: "بدأت حملة شديدة من الكراهية, إن احنا بنهددهم فى أرزاقهم.. إن احنا بنهددهم فى البترول اللى بياخدوه.. فأنا أعلنت وقلت للصحف البريطانية: إن احنا ليس لنا أى دخل فى المصالح الاقتصادية المشروعة لأى دولة فى المنطقة.. لكننا نقاوم ما يسمونه مناطق النفوذ.. لا يمكن إن احنا نبقى منطقة نفوذ لحد.. لا يمكن أبدا إنه يقف واحد فى البرلمان الانجليزى أو مجلس العموم, ويقول منطقة النفوذ البريطانية فى الشرق الأوسط أو منطقة نفوذ فى مصر.. دا موضوع مانقبلوش.. أما مصالحكم المشروعة, فاحنا موافقين عليها.. ليس لنا اعتراض على مصالحكم الاقتصادية المشروعة.. وفى شهر يونيو سنة 56.. الشهر اللى فات.. تقررت زيارة وزير خارجية روسيا لمصر مسيو شيبيلوف وفى الوقت نفسه بعت مدير البنك الدولى قال إنه عايز ييجى فى هذا الوقت!! قلنا له: إتفضل.. أهلا وسهلا.. حدثت مباحثات بين الحكومة المصرية ووزير خارجية روسيا.. عرض وزير خارجية الاتحاد السوفيتى استعداده لمعاونة مصر فى جميع الميادين التى تطلب فيها المعونة, لدرجة إعطاء قروض طويلة الأجل.. تصفيق.. وقال: إن كل حاجة هيتعاونوا فيها هتكون بلا قيد ولا شروط.. وإن احنا علينا نطلب منهم.. ماحناش عايزين منكم مواد خام, لأن احنا عندنا المواد الخام.. وقال لى: إحنا مش عايزين نوقع بينكم وبين الدول الغربية.. لأن احنا يهمنا السلام بينكم وبين الدول الغربية.. إحنا بنعمل على كسر حدة التوتر الدولى.. ولهذا سياستنا إنكم تكونوا على علاقة كويسة مع الغرب, واحنا نتعاون معكم.. شكرت وزير خارجية روسيا على كلامه.. وقلت له: نأجل الكلام فى التفاصيل لحين زيارتى إلى روسيا فى شهر أغسطس"
تفاصيل الصراع على مصر لم تختلف كثيرا.. المؤامرات كانت علنية, وكان الشعب المصرى والعالم يعرفها.. ومواقف "عبد الناصر" كانت أكثر وضوحا من شمس أغسطس فى النهار.. لكن ماكينات "الكذب وتزوير التاريخ" لا تتوقف.. كل أبيض يتم قلبه إلى أسود وترويجه عبر سفهاء وعملاء, يعرضون أنفسهم للتجارة فى كل شىء.. بداية من الشرف, وليس انتهاء بالوطن.. وطبيعى جدا أن يناصب هؤلاء "عبد الناصر" العداء.. لكن غير الطبيعى أن يتم تمكينهم ودعمهم.. ومازال فى الخطاب تفاصيل مهمة.. يتبع