- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (7) جراب الحاوي
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (7) جراب الحاوي
- 27 مايو 2021, 5:04:21 ص
- 1022
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
جراب الحاوى!!
"حاكم" حوله رجال ينفذون ما يريد.. "برلمان للإيجار" يبصم على قوانين سابقة الإعداد والتجهيز من جانب "رجال المال" ولصالحهم.. "إعلام فاسد" مستعد لممارسة "التواطوء" بمقابل.. شعب يبلع "طعم" الحلم بالثروة والرفاهية, فتصطاده "سنارة" تزيين عدم العمل والإنتاج.. تطبيق قانون "الصمت والسرية" بصراحة وحسم شديدين.. ثم تجد نفسك فى مجتمع "أوف شور" الذى ينطلق بسرعة الصاروخ فى "صناعة المال"!
حدث ذلك فى الولايات المتحدة الأمريكية!
كانت ولاية "ديلاور" بوابة الدخول لعالم "أوف شور"!
أدركت الولايات المتحدة أن ثروات رهيبة, يتم نزحها من الدول النامية والفقيرة عبر ما يسمى بالملاذات الامنة.. تقاسمت مع "بريطانيا" و"سويسرا" تلك الثروات.. ثم أرادت أن تحصل على نصيب أكبر من تلك "التورتة المسمومة"!! قررت أن تفتح هذا الباب على أراضيها.. البداية كانت عام 1978 من ولاية "نبراسكا" التى سمحت لبنوكها بتحصيل 18% كفوائد على القروض.. فيما كانت ولاية "مينسوتا" تمنع زيادة الفوائد عن 12%.. فى مارس 1980 قامت ولاية "داكوتا الجنوبية" باعتماد قانون ألغت بموجبه وضع حد أقصى للفائدة على القروض.. كان "سيتى بنك" وراء هذه الخطوة.. تم بعد ذلك السماح لبنوك "داكوتا الجنوبية" بإصدار بطاقات ائتمان لأنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.. إلتقطت ولاية "ديلاور" الصغيرة والفقيرة نسبيا هذا الخيط.. تحرك حاكمها السياسى المخضرم وسليل عائلة سياسية قديمة لإصدار قانون اسمه "تنمية المراكز المالية"!
قوانين الأثرياء التى تفتح الطريق للفساد.. دائما أسماؤها براقة!
حاكم ولاية "ديلاور" كان "جمهوريا" إسمه "بيير بونط" يحيط نفسه بعدد من الأثرياء والنافذين.. كان صديقه "ديفيد سوايز" محاميا داهية.. أقنعه بأن هذا هو الطريق لتجاوز محدودية الإمكانيات وضعف ميزانية الولاية.. مطلع عام 1980 ناقش مع بنك "تشيس" أن يقوموا بإدارة الخدمات المالية للولاية.. براعة حاكم تلك الولاية - بيير بونط - أنه لا يورط نفسه فى كلام واضح.. إذا تحدث فهو دبلوماسى غامض!! عند حديثه فى اجتماعات أو مع وسائل الإعلام يتكلم دون أن يقول شيئا, وغالبا ينهى كلامه بجملة "إنه أمر طيب.. طيب جدا"! وإذا تمت مواجهته بمعلومات يخشى أن تفجر أزمات يعتمد جملة "هذا غير دقيق" أو "كل شىء على ما يرام" ويأخذك للحديث عن دفء العلاقات الإنسانية فى الولاية.. وتفاوض بهذه الخلفية على السماح للبنك بتحصيل فوائد على القروض بلا سقف.. وصل إلى اتفاق سريع مع فريق بنك "تشيس" على صيغة القانون المطلوب مع نهاية عام 1980.. كان مطلوبا أن يصدر القانون دون جدل سياسى أو ضجة إعلامية حوله.. تحركت المطابخ ودارت عجلة الصفقات مع أعضاء برلمان الولاية الذى تسيطر عليه أغلبية من الحزب "الديمقراطى".. إتفق الطرفان على إبعاد هذا الملف عن الجدل السياسى.. المثير أن الصحافة والإعلام إلتزموا بالاتفاق!! ظهرت فى "الكواليس" محاولات لعرقلة تنفيذ الاتفاق, بحجة حماية البنوك المحلية الصغيرة.. تمت تسوية الأمر ودعوة برلمان الولاية, لإقرار القانون الذى سيحول المواطنين إلى أثرياء ويخلف فرص عمل بلا حصر.. نص القانون على تخفيض الضرائب على الأثرياء بمعدل تنازلى.. جعلوا الضرائب على من يملك أقل من 20 مليون دولار بنسبة 8% أما الدخول التى تتراوح بين 20 و 25 مليون دولار فلا تدفع سوى 6% وهكذا.. حتى أصبح معدل ما يدفعه أصحاب الثروات الضخمة 1,7% فقط!! وقالوا أن ذلك يسمح بجذب الاستثمارات, ويغرى الشركات متعددة الجنسيات أن تعمل وتقدم فرص عمل لأبناء الولاية.. وهؤلاء الذين سيدخلون سوق العمل سوف يدفعون ضرائب تعوض هذا التخفيض!!
فى أمريكا "أم العجائب" لا يعدمون حيلة ولا وسيلة لصنع الثروة!!
يوم 4 نوفمبر عام 1980 تم إعلان نجاح "بيير بونط" كحاكم للولاية للمرة الثانية.. وأبلغ "البرلمان" يوم 3 فبراير بأنه ما لم يتم إقرار القانون المقترح سيتم إلغاء الصفقة وتخسر الولاية فرصة العمر.. وقع "الحاكم" القانون وعرضه على المجلس التشريعى يوم 4 فبراير.. تم إعلان الموافقة خلال ساعات.. أصبح بعد ذلك من حق البنوك إلغاء سقف فوائد القروض على بطاقات الائتمان والقروض الشخصية وقروض شراء السيارات والعقارات.. نص القانون على حق البنك فى مصادرة العقارات المرهونة إذا تعثر المقترض فى السداد.. أعطى القانون البنوك حق إقامة شركات أو ممارسة "بيزنس" بمراكز "أوف شور" فى العالم!! تسابقت البنوك على العمل فى الولاية ومن خلالها.. لم تمض سوى عشر سنوات, حتى حقق أحد البنوك 800 مليار دولار من الديون المستحقة على بطاقات الائتمان.. وكانت عادات ولاية "ديلاور" من ضرائب امتيازات البنوك قبل عام 1980 لا تتجاوز 3 مليون دولار سنويا.. وفى عام 2007 بلغت العائدات 175 مليون دولار سنويا.. والطريف أن زعيم أغلبية برلمان الولاية قال عن القانون أنه: "كان مكتوبا فى 61 صفحة, وأغلبنا لا نملك خبرة فى مجالات عمل البنوك.. لكننا وافقنا لصالح مواطنى الولاية"!!
يقول "بيير بونط" حاكم الولاية: "كل شىء يمكن تنفيذه.. كل أزمة يمكن حلها, طالما جلسنا وتناقشنا بإصرار على سرعة الإنجاز"!! وبعد أن تمت "الصفقة" فى "ديلاور" ثم استخدامها كرافعة لتعميم المشروع فى ولايات أخرى.. ظهرت على الفور سلوكيات مجتمع "أوف شور" على المواطنين.. بذخ فى الاستهلاك.. تبذير فى أموال قروض سهلة.. حالة ثراء وهمى أصبحت واضحة.. وقبل مرور 25 عاما على إقرار القانون, كانت الديون على المستهلكين الذين تعاملوا وفق هذا القانون قد بلغت 2 - اثنين - تريليون دولار!! وذلك يراه البعض كارثة, وهم أولئك المواطنون الذين أخذتهم "الدوامة" لكن "الأثرياء" يرونه تطور طبيعى وعصرى.. لذلك تم فتح أبواب صناعة الأوراق والسندات المالية, التى يحصل صحفيون وإعلاميون على مبالغ ضخمة لترويجها على أنها "الباب السحرى" لاستثمار أموالك.. رغم أن هذا الباب قد تخرج منه مفلسا!
فى عام 1983 تم إدخال تعديل على القانون, يعفى شركات المال التابعة للبنوك من الضرائب.. وترتب على ذلك أن البنوك والشركات التى كانت تعمل فى جزر ودويلات صغيرة خارج الولايات المتحدة, نقلت مراكزها إلى "ديلاور" كما أصبح كبار الأثرياء فى العالم من عواصم عديدة فى الشرق الأوسط وإفريقيا يتوافدون على الولاية.. وتوالت تعديلات القانون.. ثم كان إقرار قانون "سلطات التأمين" على البنوك والشركات عام 1989.. وصدرت بعدها قوانين أخرى جعلت الولاية أكبر مركز لصناعة المال, وملاذا آمنا لثروات أولئك الذين يخشون فضح أمر ثرواتهم!!
أصبح "جراب الحاوى" كله عجائب فى "ديلاور" كما غيرها!!
ذهبت معظم الولايات لعزف اللحن نفسه بتنويعات مختلفة!!
الديمقراطية فى مجتمع "أوف شور" لا تسمح بعرض برامج أو سياسات.. هذه مجتمعات تقدم أشخاصا يدعونك لانتخابهم لأنهم طيبون, ويعرضون على الناخبين أحلاما سعيدة وحياة آمنة ومستقرة بعيدا عن شرور الحياة الحزبية وصراعاتها.. والإعلام فى هذا المجتمع يقدم برامج الترفيه وأخبار الحوادث, ويهتم بتطور فنون الطبخ والريجيم ويدعوك للاهتمام بالصحة وأن تتسلح بالأمل مهما كنت فقيرا لأن الثراء يمكن أن يهبط عليك فجأة بأوراق يانصيب أو عبر قروض ميسرة ومتوفرة.. وترتب على هذا النمط من الحياة عزوف المواطنين عن المشاركة فى الانتخابات!
طوابير الباحثين عن الثراء فى مجتمع "أوف شور" طويلة.. البطالة ليست عيبا لأنها قد تكون توقف عن العمل بحثا عن فرصة.. وظائف "السمسرة" متاحة طوال الوقت والنجاح فيها مضمون لكل من يملك مهارات بيع أى شىء.. وكل شىء.. حياة الأثرياء الجدد الذين نجحوا فى دخول معاقل الفساد تخلب العقول.. نخب هذه المجتمعات لا تقدر الفلاحين وتسخر من العمال, وتعلى قيمة كل من يحاول أن يكون مليونيرا.. ولعلنا فى مصر تابعنا مسلسل "ميت وش" الذى قدمه "آسر ياسين" و"نيللى كريم" الذى قدم نموذجا واضحا "للمواطن الأوف شور"!!
مجتمع "الأوف شور" يقوم على تفكيك العادات والتقاليد والقيم, التى يصفونها بأنها أصبحت بالية.. ولم يعد مجرد مكان أو فكرة أو منهج عمل.. لكنه ابتكار جديد لسلوك استعمارى عصرى.. السلطة فيه للمال وللذين يتحكمون فيه.. هؤلاء يبشرونك بالجنة التى لا يقدر على خلقها غير "المستثمرين" ولا تندهش إذا رأيتهم يحكمون السيطرة على مفاصل الدولة.. أى دولة.. أهم أوراقهم وأدواتهم فى المجتمعات القديمة هو الإعلام.. فالمستثمر يجب أن يملك جيشا من الصحفيين, يمثلون "سلاح المشاة" عبر صحف يسمونها "مستقلة" ويتضاعف شأنه إذا امتلك "سلاح طيران" بملكية قنوات فضائية.. ومع تطورات العصر أصبحوا يركزون على امتلاك "كتائب" تعمل عبر مواقع التواصل الاجتماعى.. كل هذه منافذ تسمح للشباب بالعمل فى المشروع الاستثمارى, ويمكن أن توفر لهم فرصا بمقاعد فى البرلمان أو مجالس إدارات الشركات.. فالدول العصرية يجب أن تكون "أوف شور"!
الديون هى السر القذر الصغير لنظام "أوف شور"!!
تحت هذا العنوان نشرت "الفاينانشيال تايمز" مقالا فى يونيو 2009 أكدت فيه أن مزايا النمو الاقتصادى ذهبت إلى جيوب الأثرياء, وضلت طريقها إلى الأغلبية من المواطنين.. فالفقراء أمامهم أبواب الاقتراض مفتوحة.. وإذا سقط بنك أو شركة من تلك المؤسسات, فهذه مسألة يمكن تجاوزها أو تصحيحها بتعديل القوانين التى يقوم على إصدارها "رجال المستثمرين"!!
فى شهر إبريل عام 2010 فتحت لجنة "بورصة الأوراق المالية" تحقيقا حول احتيال مؤسسة "جولدمان ساكس" المالية بتهمة تضليل مستثمرين.. بسرعة قبلت المؤسسة التسوية ودفعت 550 مليون دولار لتسوية الأزمة, ولا مانع من تكرار ذلك فالأموال متدفقة كالشلال!! ويرصد "البنك الدولى" كل ذلك ويعد تقاريرا تتحدث عن خطورة ذلك على الاقتصاد العالمى.. وفقط.. ويتم الترويج لضرورة بيع الشركات والمصانع الخاسرة والمتعثرة, ثم دمجها وتدويرها لتذوب فى شركات متعددة الجنسيات.. وكل هذا يحدث باسم "التنمية" التى تجعل دولا ثرية تبيع أصولها لتذهب أموالها إلى بنوك "أوف شور" لدرجة أن دولة شديدة الثراء مثل السعودية عرضت نسبة من أصول أكبر شركات البترول فى العالم - آرامكو - فى سوق الأوراق المالية.. وجعلت كل من الإمارات وقطر يتبادلان القذف الإعلامى عبر المنصات الفضائية, حول دور كل منهما فى عمليات "غسيل الأموال" التى ضاعت خلالها مليارات لا حصر لها.. يتبع