- ℃ 11 تركيا
- 7 نوفمبر 2024
ناصر السيد نور يكتب: النيجر: التدخل العسكري وصراع النفوذ
ناصر السيد نور يكتب: النيجر: التدخل العسكري وصراع النفوذ
- 19 أغسطس 2023, 3:58:04 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
احتل اسم النيجر البلد الافريقي الواقع في غربي القارة الافريقية عناوين الأخبار طوال الأيام المنصرمة ولم يزل، بعد انقلاب قاده قائد قوات الحرس الرئاسي الجنرال عمر عبد الرحمن تياني، منهياً حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم، الذي بات يلقب بآخر حاكم موالٍ للسياسات الغربية، خاصة ذات العلاقات التاريخية الاستعمارية (فرنسا) بنفوذها الواسع في تلك المناطق. وإذا كان تاريخ الانقلابات العسكرية في غرب القارة الافريقية ليس بالأمر الجديد، لم يكن هذا أول أو آخر انقلاب كخطوة يتخذها عادة جنرالات قادة الانقلابات العسكرية، لضمان استقلال البلاد، والحفاظ على سيادتها، إلى آخر ما تحمله بيانات الانقلابات العسكرية الرَّثة في دولة القارة الأولى.
وربما كان الجديد هذا المرة طبيعة الانقلاب، وحجم الرفض والتداخل بين ما هو إقليمي، الاتحاد الافريقي، وتقاطع المصالح والنفوذ بين قوى إقليمية ودولية. فقد سارع العديد من المنظمات السياسية بالإدانة، وبدأت المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (ايكواس)، التي هددت بالتدخل العسكري لاستعادة الديمقراطية، إلى جانب سيل الإدانات الدولية من الولايات المتحدة وفرنسا والمنظمات الغربية النافذة كالاتحاد الأوروبي، وهو تدخل يخشى من تداعياته على بلدان القارة، أمام رفض قادة الانقلاب لأي تدخل، أكثر من نتائجه باستعادة الديمقراطية.
إذا ما أقدمت مجموعة دول إكواس على تدخلها المزمع، فإن الوضع مرشح للتعقيد أكثر من الحل، وقد يدخل البلد في مزيد من الأوضاع قد لا تتوقف عند حدوده
وتأتي أحداث النيجر في خضم أحداث تشهدها دول الساحل والصحراء، فقد سبقتها أحداث تفجرت في السودان، وتوترات النزاعات السياسية المسلحة في دول المنطقة، وغيرها من بؤر تحيط بالبلد إلى جانب الصراع على السلطة، إلا ان تصاعد التدخل الإقليمي بالقوة لاستعادة سلطة الرئيس المعزول المنتخب في الشأن النيجري، جعل منها أزمة دولية أمام تحديات على قمة التنافس الدولي، وأعاد مجدداً خطاب افريقيا الكولونيالي، كقارة مستغلة من قبل القوى العظمى، خاصة دولة الاستعمار لمواردها، من دون أن تحقق شيئاً للدولة ومواطنيها، واستخدمت مؤخراً أراضي دول منطقة الساحل والصحراء والنيجر، أبرز قواعدها، كمنصات انطلاق على مدى سنوات ضد الإرهاب، وقواعد عسكرية لفرنسا والولايات المتحدة. وباتت منطقة نفوذ، كما يراها المراقبون، قد يقوض التغيير الجديد من هذه الاستراتيجية المهمة للقوات الفرنسية وقوات افريكوم الأمريكية في القارة. وضعت أحداث انقلاب النيجر الدول الافريقية، وتحديداً دول إيكواس التي تهدد بالتدخل العسكري لاستعادة سلطة الرئيس المخلوع، أمام اختبار صعب جديد تختلف حوله التفسيرات، في إمكانية تنفيذه، وجدواه في دولة تتداخل سكانياً بين دول المجموعة، فضلا عن أن مشكلات تلك البلدان لا تقوى على تحمل توترات جديدة تعقد من أزماتها القائمة أصلا، ثم إن آلية التدخل العسكري تعد مهمة لا عهد لدول ومنظمات القارة بها، ومشكوكا في نجاحها، فالقارة التي يطالب قادتها بضرورة مراجعة نظام التمثيل في مجلس الأمن الدولي، وفقاً للتمثيل الجغرافي والاستراتيجي للقارة، وهو مطلب ظل متداولاً من طرف منظمات العالم الثالث، كدول عدم الانحياز وغيرها من منظمات ذات طبيعة أممية. هناك عالم متعدد يتنافس اقتصاديا وعسكريا، ومؤسسات دولية متشابكة قد بدأ يأخذ تشكله خلال العقود الأربعة الأخيرة – القارة ليست جزءا منه – بالأساس في المجال الاقتصادي، ولكن مع زيادة التعقيدات حول كيفية حل مشكلات القارة السياسـية والاقتصادية والصحية، ازدادت الحاجة إلى مؤسسات تعتبر على نحو كبير شرعية (الاتحاد الافريقي) مع أن سياسات الدول الافريقية لا يمثلها اتحادها الافريقي بنفوذه المحدود، فإذا ما أقدمت مجموعة دول إيكواس على تدخلها المزمع، فإن الوضع مرشح للتعقيد أكثر من الحل، وقد يدخل البلد في مزيد من الأوضاع قد لا تتوقف عند حدوده .
برزت لغة جديدة حملتها الإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري الجديد في النيجر، بشأن إلغاء اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، مقروءة مع كلمة رئيس بوركينا فاسو إبراهيم تراوري مؤخرا في القمة الروسية الافريقية، وما وجدته من ترحيب واسع في دول القارة الغربية، لما أثارته من مظالم القارة ومستقبلها. وهذا يؤشر بدوره إلى عزم القادة الأفارقة في انتهاج سياسات مستقلة عن مسارهم التقليدي الذي يتعمد اقتصاديا على المساعدات. فالقارة التي تعاني من اضطرابات سياسية واجتماعية ومشكلات بنيوية، وأزمات اقتصادية مستديمة، وصراعات داخلية ومجاعات (منطقة كوارث) وفساد سياسي وإداري، ونزاع حدود بين أغلب دولها، لا تكون فعاليتها في المشهد الدولي سياسياً مرغوبا فيها أو لديها القدرة على لعب دور بغير مواردها الطبيعية التي تشكل جزءا من مشكلاتها. فإذا كانت القارة الأفريقية في الماضي قد عرفت التكالب الأوروبي على مواردها، فالحاضر لم يتغير كثيراً، فما زالت مواردها محل جذب بين أكثر من قوة شرقا وغربا. علاقات دول القارة الثقافية بخلفياتها الاستعمارية بقيت في فلك المنظومات الاستعمارية، أكانت الدول الفرانكفونية أو الكومنويلث، من دون أن تحقق هذا الارتباطات المصالح الأفريقية على مستوى التنمية والنمو الاقتصادي، ومن شأن هذا الخطاب الجديد أن يجد صدى في أركان القارة الفرانكفونية مستعيدا أفكار التحرر للآباء المؤسسين غداة استقلال البلدان الافريقية عن الاستعمار والانعتاق من التبعية السياسية والاقتصادية. وهذا الاشتباك بين ما هو تاريخي وطموح، لا تبرره الوسائل المتاحة لقادة الانقلابات، يعيد سؤال مشكلة بناء الدولة، الذي كان على الدوام مبعث أزمات البلدان الافريقية. فإذا كانت محاولات القارة في التخلص من النفوذ التقليدي للدول الغربية، فإن النفوذ المقبل من الشرق الذي انحازت إليه معظم بلدان القارة، يبحث عن مناطق نفوذ جديدة. فقبل أسابيع عقدت قمة روسية افريقية على مستوى الرؤساء، ولا تزال روسيا في أذهان القادة الافارقة بمثابة لحظة تاريخية، حين كان الاتحاد السوفييتي السابق داعماً لمعسكر الشعوب، ومسانداً للأنظمة الاشتراكية العسكرية التي استولت على الحكم في دول القارة، بعد الاستقلال عن الامبراطوريات الغربية في فترة الستينيات من القرن المنصرم. والآن يبدو أن هذه العلاقة التاريخية هي ما تبني عليه روسيا في شراكتها الجديدة مع القارة، أكثر من حقائق الواقع. ولم ينس بيان القمة الإشارة إلى ذلك “بتفكيك الاستعمار”.
ومن جانبها أيضاً لم تنس روسيا في نسختها ما بعد الحرب الباردة ومحاولة رئيسها فلاديمير بوتين إعادة روسيا السوفييتية، أو أبعد قليلاً إلى روسيا القيصرية بالمفهومين التاريخي والاستراتيجي، وفق التصورات النظرية الجيوبوليتيكية لأوراسيا، حسب فيلسوف الكرملين ألكسندر دوغين. وهي قدرات تظل في حدود التصورات وليس القدرات. وإذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية قد كشفت عن نطاق محدودية القوة التقليدية للجيوش الروسية، وليس قوتها النووية مقيدة الاستخدام التي تراهن عليها في موازين القوى والتهديد المبطن بالاستخدام، إذا دعت الضرورة! ومن ثم يأتي النفوذ الصيني بحجم استثماراته الضخم في القارة، ومعلوم أن الصين ذات المشروعات الاقتصادية في القارة السمراء، التي تجاوزت فيها حجم استثماراتها مئتي مليار في السنة. فالعلاقات الاقتصادية التي عادة ما تعتمد عليها القارة في تمويل مشروعاتها البنيوية، تسعى للحصول على ديون طويلة الأجل مع قلة الفوائد وألا تخضع لشروط تتعلق بسياسات اجتماعية وسياسية، كما في المؤسسات الغربية، البنك الدولي وصندوق النقد الأجنبي. وتعتبر الصين من التكتلات الاقتصادية خارج المنظومة الغربية، التي لديها خبرات دولية في مجالات تقديم المساعدات التنموية والإنسانية للقارة، على مدى عقود طويلة جعلت منها شريكاً أساسيا في دول القارة التي تربطها معها علاقات تاريخية ممتدة. ولم تكن مساعداتها ترتبط بشروط خارج السياق الاقتصادي، وهي سياسية اقتصادية دولية حققت لها وجوداً استثمارياً، وسع من أفق التعاون الدولي بينها وبين القارة الافريقية.
وبهذا تكون دولة النيجر قد أصبحت منطقة صراع النفوذ، وتضارب المصالح وتقاطع مع نظام دولي تقليدي عمل على إبقاء الحدود الفاصلة بين دول في الجنوب فقيرة مهيمنا على إرادتها السياسية والاقتصادية من قبل دول في الشمال. إنها الصيغة التاريخية التي أرهقت القارة وزادت من معاناتها على مدى عقود طويلة. ومهما يكن الموقف الذي ستقود إليه الأحداث في النيجر، فإن تغير المعادلة الدولية في وضع القارة الافريقية في موازين القوى العالمية، لن يكون في صالح دول القارة بالشكل الذي يطمح فيه قادة الانقلابات العسكرية.