- ℃ 11 تركيا
- 6 نوفمبر 2024
موفق نيربية يكتب: طرفا حرب السودان… مسؤولان عن تهديد حاضر البلد ومستقبله
موفق نيربية يكتب: طرفا حرب السودان… مسؤولان عن تهديد حاضر البلد ومستقبله
- 26 أبريل 2023, 2:50:19 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يقول محمد حمدان دقلو إن الحل الوحيد للأزمة الحالية في السودان هو تسليم البرهان للعدالة؛ ويقول عبد الفتاح البرهان مثل هذا بلغة مختلفة قليلاً. في حين تستمرّ حرب مؤجّلة منذ زمن، وكامنة في ركنٍ على طريق السودان منذ سنوات، لا تتراجع أبداً، بل يتزايد زخمها الكامن، وحجم تهديدها لحاضر البلاد ومستقبلها، خصوصاً لثورة أبنائها العظيمة التي بشّرت السودان والمنطقة بربيع جديد. حتى الآن لا يبدو أن هدنة العيد الأخيرة سوف تتحوّل إلى حالة أكثر استقراراً ومدنية، ما دام جذر الصراع مبذوراً بهذه الفاعلية، منذ أيام البشير وعهده المستمر بشكل أو باخر.
قديماً، أتاح الاحتلال البريطاني والمصري للسودان، أجواء أنتجت شيئاً كان اسمه» نادي الخريجين» في الثلاثينيات من القرن الماضي، تحوّل إلى مؤتمر ثم عاصفة استطاعت تحقيق الاستقلال عن بريطانيا في عام 1953 والانفصال عن مصر في عام 1956. وفي عام 1964 انطلقت « ثورة أكتوبر» على حكم الفريق عبود من جامعة الخرطوم، ودعمتها النخبة الثقافية والفنّية وأعادت الديمقراطية. حديثاً كان» تجمّع المهنيين السودانيين» صاحب الدور الأبرز مع نخبة الشباب في ثورة 19 ديسمبر 2018، التي أنهت حكم البشير واستبداده في ربيع 2019. انطلاق الحركات الناجحة في تاريخ السودان بطريقة «مدنية» ومن المجتمع المدني كانت ملهمة للنخب في المنطقة، وأحيت آمالاً بانتعاش ربيع عربي ثانٍ، رغم وقوع تلك الثورة – جزئياً على الأقل- بين أحضان العسكر، عندما انقلب هؤلاء على معلّمهم البشير، ولجوء الثوّار إلى شعارهم الجديد «تسقط ثاني»، من دون جدوى.
قوى الشارع الجذرية على عهدها، تفهم جيداً أن لا مصلحة لها مع طرفي الصراع الحاليين، اللذين سيتحدان من جديد لو أحسّا بالخطر من خارجهما
ذلك التاريخ مع الديمقراطية والوعي الاجتماعي في السودان، تداخل معه عدد كبير من الانقلابات ومحاولات الانقلاب العسكري: ابتدأ مع الفريق عبود 1956، ثم بانقلاب النميري عام 1969 وتشكيله لمجلس قيادة ثورة وجمع السلطتين التشريعية والتنفيذية على ما قد شاع يومها. جرت بعد ذلك محاولة انقلاب لثلاثة أيام عام 1971، واستقرّ النميري والعواصف حوله، فلجأ في صراعه مع اليسار إلى فرض الشريعة الإسلامية عام 1983. انتفض السودانيون في حركة احتجاجات واسعة بعد ذلك، ما دفع الجيش وشجّعه على الانقلاب في عام 1985، بقيادة المشير سوار الذهب، الذي كان ظاهرة فريدة في زهده بالحكم، واعتزاله له خلال عام لمصلحة الحكم المدني. لكن الإسلاميين – بقيادة حسن الترابي – تطوّروا أيضاً حتى وصلوا إلى مرحلة الطمع بالسلطة، بعد أن سلكوا الطريق العسكري بصبر وبناء دؤوب لتأسيس قاعدة لهم بين صفوف العسكريين. اختاروا أرفع رجالهم رتبة وقتذاك – حسن البشير- واستدعوه إلى الخرطوم من دون أن يدري شيئاً، ليقود الانقلاب، بالصدفة «السعيدة». التقت انتفاضة السودانيين الأخيرة مع تضعضع سلطة البشير وشبكة حكمه بالفساد والحصار والأخطاء القاتلة، ما جعل «اللجنة الأمنية» التي أنشأها بنفسه تبدأ بالتآمر عليه في الأسبوع الثاني من أبريل- مثل أسبوع اندلاع الحرب الأخيرة- وتمرّ سريعاً بمرحلة بن عوف الأعلى رتبة بينهم، الذي صمد لأربع وعشرين ساعة فقط، حتى استدعت مراكز القوة المتوافقة الضابط الأعلى رتبة بين الأقلّ خطراً وطموحاً ظاهرياً والأكثر أماناً: الرابع في الترتيب العسكري، عبد الفتاح البرهان، ليكون قائداً لهم، ورئيساً بالصدفة «السعيدة»، مرة أخرى في تاريخ البلاد.
بعد تأسيس حكم النميري لتصدّع السودان، جاء حكم البشير بسلطته الإسلاموية الخشبية ليُكسِّره. جاءت اتفاقية انفصال الجنوب حلاً غير مكتمل لقضية الجنوب وحربه، وجاءت حركات دارفور ردّاً على التمييز والبؤس لتجد في وجهها سلوكاً دموياً وعنصرياً قادته ميليشيا الجنجويد، التي تحوّلت لاحقاً بأمر من البشير إلى «قوات الدعم السريع»، وأخذت شرعية وجودها العسكري ضمن الجيش نظرياً، وخارجه عملياً. أخذت قوات الدعم السريع مهمة حراسة الحدود الغربية، وذلك أمر واقع في الأساس. تمدّدت بالتوافق مع البشير، وأمسكت بمناجم للذهب هناك، وتحكّمت بتهريب المهاجرين، وأصبحت سلطة موازية. ابتدأت بعد ذلك في تطوير صلاتها الإقليمية والدولية: «الاقتصادية» بقيادة عائلة دقلو، و»العسكرية» بتماسك قواها وتدفّق مواردها ومساهمتها الرئيسة في إطار التحالف ضد الحوثيين، و»السياسية» كنتيجةٍ طبيعية. لم يكن ممكناً ترك القيادة لحميدتي في ذينك اليومين العاصفين- 11 و12 أبريل 2019- على الرغم من وضوح أنه الأقوى، خصوصاً مع تخلخل بنية قيادة الجيش النظامي مع مناورات اللجنة الأمنية وفي داخلها، وخطورة هجران البشير. لقد كان» غير عسكري» أساساً، رغم الميليشيا الهائلة التي يقودها، والحيثية السياسية التي يستطيع استخدامها. لكنّ الجميع كانوا يدركون ذلك، في الداخل والخارج. ولم يستطع طموح البرهان وإجراءاته لتعزيز إمساكه بخيوط اللعبة؛ إلّا قليلاً؛ إيقافَ طموح حميدتي. أصبحت البلاد حبلى بصراع كامن لا يخفى على أحد، ولا تستطيع الصراعات المدنية – المدنية، ولا المدنية – العسكرية إخفاءه أيضاً! في حربهم الراهنة، يعزل الطرفان مؤقتاً على الأقل، ضغوط الشارع وقواه المدنية/السياسية وأشباحه المرعبة لهماً كليهما. تشكّلت حكومة حمدوك المدنية، الواعدة نسبياً على الأقل بمسار متماسك باتّجاه تأسيس حديث يجدّد الدولة، بعد تسوية أولية ما بين القوى المدنية والعسكريين. إلّا أنها عجزت عن استكمال ذلك المسار، ووصلت من جديد إلى مرحلة الأزمة التي ابتدأت مع التغيير المزدوج القوى منذ يومه الأول: انقلاب اللجنة الأمنية في أبريل 2019، وانتفاضة الشارع والقوى الثورية المتجددة المتصاعدة؛ فجاء الحلّ أيضاً من طريق الانقلاب في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 وانفراد العسكر بالسلطة، الذي توحدت به أطراف الانقلاب الأول من جديد ضد التغيير الذي كاد يصبح بديهياً من قبل الداخل والخارج. آنذاك، لم يطل انتظار حميدتي إلّا لأشهر معدودات، وعاد لينتقد الانقلاب الذي كان فيه شريكاً، متقرِّباً من قوى الشارع، ومعتمداً أسلوباً جديداً ربّما يضعه أقرب إلى السلطة. لم يكن ذلك كلّه متناقضاً مع حقيقة انقسام قوى التغيير نفسها، بتركيبتها المليئة أساساً بالتناقضات، بل الملغومة بها، فانقسمت قوى الحرية والتغيير مرتين على الأقل، وتقسّمت قوى التغيير الجذري نفسها تحت مطرقة الراديكالية التي لا ترحم.
من جهة أخرى، تابعت القوى الإقليمية علاقاتها مع الأطراف المختلفة، ولم يكن بينها من هو صاحب مصلحة بتغيير حقيقي. كان ذلك تكراراً لمأساة الربيع العربي، الذي صدّق دعم تلك القوى له وانساق لها حتى أوصلته إلى الهزيمة. فقد كان البرهان وحميدتي شريكين أساساً في دعمهما الملموس – والمجزي- للمساهمة العسكرية السودانية في التحالف ضد الحوثيين، ثمّ دعمت بعض تلك الأطراف قوات الدعم السريع بالسلاح وبالعلاقات التجارية مباشرة، في حين أخذت القوى الأخرى التي كانت تدعم البشير وإسلامييه في السابق تبحث عن مدخل جديد لها. لم تكن إسرائيل بعيدة أيضاً، وهي صاحبة مصلحة مباشرة في تطوير تطبيعها مع العرب والعالم، وضد إيران.
حالياً، ظلّت قوى الشارع الجذرية على عهدها، تفهم جيداً أن لا مصلحة لها مع طرفي الصراع الحاليين، اللذين سيتحدان من جديد لو أحسّا بالخطر من خارجهما، واللذين هما أيضاً متحّدان في إعادة تأسيس دور مضمون من حكم العسكر، متحّدان في علاقاتهما المفتوحة على الخراب الاقتصادي والزبائنية، وفي عدم الاكتراث – بل الترحيب- بتفتّت السودان وفشله كدولة أكثر فأكثر. لذلك هو على حق من يطلب الآن، لا عودة الجيش إلى ثكناته وحسب، بل خروجه من الخرطوم وكلّ المدن والتجمعات السكنية.. لكنه لا ينسى التأكيد على ضرورة حلّ ميليشيات الدعم السريع، ففي نموذجها يكمن الخطر الاستراتيجي الأكبر.. وحتى يتحقق ذلك من دون مخاطر جسيمة، لا بدّ من التركيز على وقف إطلاق النار الشامل!