معصوم مرزوق يكتب: الزمن غير الجميل

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 5 أكتوبر 2021, 4:06:10 م
  • eye 7638
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أتابع باستمتاع كتابات صديق فنان فلسطيني عن الزمن الجميل ، ويدهشني تمسكه العنيد بأطراف التفاؤل ، حين يمزج " كوكتيل " الموسيقي والفن التشكيلي والفولكلور والدين والفلسفة والتاريخ ، ثم يشرب في صحة " زمنه الجميل " .

أن كتاباته معزوفات أدبية راقية ، تتنفس " نستولجيا " رحيق الفكر والأيام ، تمتص رحيق أجمل ما في النفس البشرية كي تمنحنا هذا العسل الرائق ، وأمام بعض السطور تتمني لو قبلت القلم الذي سطرها ، ولكنك تفيق حتماً من خمرها المسكوب بلا مدي ، حين يصدمك الزمن السقيم ، فتكون أشبه بمن استيقظ فجأة من حلم وردي بديع ..

لا غرو أن النفوس تشتاق أن تغتسل كي تنقي من أدرانها وأوساخها ، تحتاج أن تتوضأ كي تصلي في محراب الأمل من جديد ، وذلك ممكن بقراءة الكتب المقدسة ، والأدب الراقي ، والإنصات إلي الموسيقي الخالدة ، بل بمجرد التأمل إلي إعجاز وردة ترتجف في لحظة الشروق بعد أن تحممت بالندي .. نعم .. أيها الصديق .. نحن في أمس الحاجة لذلك .. ولكن ... آه .. ملعونة هي الإستدراكات الداخنة التي تقاطع مسري النسيم العليل ، وملعون من يقــــاطع زقزقة " الحسون " كي يلقي نشرة أخبار ...


هل نسير علي الأرض وعيوننا محلقة فوق السحاب ؟ ..كيف نأمن الإنزلاق في الحفر أو السقوط بين أيادي قطاع الطريق ؟ .. هل يمكن أن نمشي إلي الأمام وعيوننا ملصوقة في خلفية رؤوسنا ؟ .. كيف يتجاوز " بيتهوفن " صرخات الجوعي والمقهورين ودقات طبول الموت الذليل ؟ .. هل ينقذنا الفكر الرهيف المضمخ بالفل والياسمين من هموم العيش علي حافة المستنقع ؟ .. نستطيع أن نخلق العالم كما نتوهمه ، ولكن هل نستطيع أن نعيش فيه؟.

من المؤكد أنه حينما يعتل الجسد تفقد الحواس ذوائقها المعتادة ويسيطر الألم ، فلا يصبح لحاسة السمع ذائقة التمييز ، ويصير البصر غائماً أو غائباً ، وتصبح الكلمات حمي من الهذيان ، ومن المؤكد أن الإنسان الذي لن يجد رغيف العيش فأنه سوف يأكل الزهور دون أن يفكر في تأملها ...


أتصور أن المسألة ليست فيما نختار ، وإنما فيما يمكن أن نخطو به خطوة تالية ، مجرد خطوة واعية في اتجاه صحيح للأمام ، أن الإختيار ترف لا يقدر عليه من تملكت منه سطوة الواقع البشع ، فبين كل هذا الدخان والرماد والدماء لا يبقي سوي تلمس مواقع القدمين ، فالرؤية غائبة ، والأصوات صراخ وتضرع ، والآلام أشد من الإحتمال ، وأمضي من أي فرحة طارئة تثيرها زقزقة عصفور أو حسون ...

سطور " الزمن الجميل " تبدو وليمة شهية ، بينما الأمعاء مشبعة بالدماء والنفايات وبالأسماك المتعفنة ، وقد يراها البعض – وأنا لست منهم – مجرد مخدر مؤقت يحلق بالرأس لبعض الوقت ، ولكنه يخفي عن عيونهم عيوبهم في المرآة ، أو قد يرونها مجرد قطرات من مسكن للألم لجرح أوسع من الأيام والأحلام  ، ولكنني أراها منديلاً معطراً علي جبهة محمومة ، أو محاولة لإحياء الموتي في زمن يحترف قتل الأحياء ..زمن مات فيه الحياء نفسه ..


أرجو ألا أبدو متجاوزاً – وقد تجاوزت بالفعل – إذا رأيت أن الفكر يجب أن يقلع عن العواطف والنبل والتجرد كي يصفع الواقع بقوة وقسوة ، ويهز الخوف في قلوب الناس ، ويرفع السيف في مواجهة الرداءة قبل أن يقدم باقة زهور لزمن كان جميلاً .. أقول قولي هذا وأنا مشفق عليك وعلي نفسي ، فمن الصعب علي صانع الحلوي أن يحرق أصابعه في صناعة السيوف ، ولكن .. بصراحة .. أين المذاق ؟؟ ..

 ذلك الطفل " محمد الدرة " .. خلف ساتر ومن ورائه أحتواه أبوه بين ذراعيه وهو يشير إلي آلة القتل كي تتوقف فلا تتوقف ، يسقط الطفل مضرجاً في دمائه بين ذراعي أبيه العاجز المذهول .. ذلك المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية لم يستغرق سوي لحظات ، لكنه يطاردني منذ ذلك الوقت في صحوي ومنامي .. ليس مقتل الطفل – رغم فظاعته -هو المؤلم ، وإنما ملامح الأب المشلول العاجز عن حماية فلذة كبده ، أنها نفس ملامح ملايين الآباء الذين شلهم الفقر وعجزوا عن حماية أطفالهم من الموت جوعاً .. أنه قهر الرجال ، والشعور بعبثية أفكار العدل والحب والنبل والفروسية ..


صفوف الأسري المصريين الذين اغتالتهم أصابع غادرة ضغطت علي الزناد في خسة ودناءة ، مشهد آخر لا ينبغي أن يفارق العقل الجمعي حتي تجيئ لحظة الحساب والعقاب ، إذ يجب أن نواصل رواية الحكاية حتي لا تغيب في دخان الدروشة الأزرق ، يجب ألا ننسي أو نسامح مهما كانت مزامير دواد رائعة موحية ، ليظل مزمور الأسري عازفاً نازفاً أعلي من أوركسترا فيينا وعبقريات باخ وتشايكوفسكي وموتزارت ...

أن عالم اليوم لا يحكمه الفلاسفة والشعراء وعازفي الكمان ، وإنما يحكمه الجزارون وشذاذ الآفاق وقطاع الطرق ، ولن يفل الحديد سوي الحديد ، فالسلام لم يتحقق في تاريخ البشرية بالمناشدات والإسترحامات والمبادرات والنوايا الطيبة ، وإنما كان دائماً يتحقق بحد القوة التي تفرض علي الخصم الإستسلام ، والقوة ليست مجرد آلة الحرب وحدها – علي أهميتها- وإنما هي إرادة التحرر الساعية إلي إمتلاك أسباب القوة الشاملة .


وفي هذا الإطار تبرز أهمية " نيوتن " و " فيثاغورث " و " أوبنهايمر " ، وتتجاوز أي أهمية أو فائدة لـ " بيتهوفن " أو " هاندل " أو " زكريا أحمد " ، يصبح العلم وسيلة لا غني عنها للخروج من مأزق الواقع المفروض ، وتصبح الإرادة الحرة بنفس أهمية الماء والهواء ، وهي أمور ممكنة ليست مستحيلة ، وهي ليست مجرد خيار بين خيارات أخري ، بل فرض حتمي لا مناص عنه .

من المؤسف أن تستدرج السطور إلي صلادة الصخور ، أن تتمزق بيوت الشعر علي أسنة الحراب ، أن يعلو صوت البوم علي زغرودة المزمار ، ولكن ذلك قدر جيل يولد من رحم معذب ويجب أن نقطع حبله الصري فوراً كي يشرع في السير علي قدميه منذ اللحظة الأولي ، فهذا الجيل من الآباء الجدد يجب ألا يقبل بعجز والد " محمد الدرة " ، أو بالعار الذي تغلفه مزامير الجهل أو دعة ذل عيش العبيد ..


كنا علي جبهة قناة السويس لا نحلم بالعبور ، وإنما نتدرب عليه ، لم نكن نتضرع إلي الله أن يرسل صاعقة علي الشاطئ الآخر ، وإنما قذفنا بطلقاتنا في صدور الأعداء بلا رحمة ، وداست أقدامنا صاعقة ذلك الشاطئ ، وقبل أن ننتصر علي عدونا انتصرنا علي خوفنا وترددنا ، ورفضنا كل مزامير الوقوعيين من أبناء جلدتنا الذين كانوا يرون إستحالة النصر وحكمة أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونسلم للعدو شرفنا وماضينا ومستقبلنا .. لو اكتفينا بالحلم لكنا حتي هذه اللحظة نحلم بالعبور ربما من شاطئ النيل الغربي إلي شطه الشرقي !!

لقد تحدث السلاح أبلغ مما تحدث به كل الشعراء ، وكان صوت إنفجار دبابات وطائرات العدو أشجي من صوت أم كلثوم ، وكانت أجساد الشهداء أكثر نبضاً بالحياة من أجساد الأغبياء الذين أرتضوا أن يدفعوا ذلهم ثمناً للحياة ، وكـانت إبتســـامة رقيب فصـيلتي " رضوان"  لحظة العبور ، أكثر جمالاً وإيحاءاً من إبتسامة " المونا ليزا "   ..


أنا لا أنازع النوستالجيا أو سحرها ، ولكنني صرت أمقت البكاء علي الأطلال ، وأكره الأغاني التي تشكو من عذاب الحرمان وقهر الحبيب ، وليصفح لي الصديق الأعز جرأتي علي زمن أعشقه كما يعشقه وأتمناه كما يتمناه ، إلا أنني أتذكر دائماً مقولة بريخت : " أن الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة ، لأنه يعني الصمت علي جرائم أشد هولاً " .. وأظن أنه يتفق معي في أن الحديث عن الأشجار لا يزال جميلاً ، ولكن أين هي تلك الأشجار التي يمكن أن نتحدث عن جمالها ؟؟ ..

لقد انحسر الإبداع الذي كان واحة يلجأ إليها القلم كي يستظل بنخيلها السامق ، ويبلل شفتيه بمداد ينابيعها المتدفقة ، ويسترخي بدنه المرهق علي رمالها الناعمة الدافئة ، بل ولم يعد المقال يشفي الغليل ، بعد أن ثار الشك في جدوي الكتابة نفسها في زمن يتطلب الفعل والحركة ، زمن يفرض قبحه علي ريشة الفنان فلا تنقش علي اللوحات سوي كوابيس الواقع بألوان وخطوط تخدش النفوس المرهفة وتجرحها وتدميها .. 

وبالمناسبة كنت مؤخراً في جاليري لفنان عالمي كبير ، ووجدت أنه وضع "   فردة حذاء قذر "  داخل إطار ، حذاء حقيقي وليس خطوطاً في لوحة .. لم يدهشني زحام الزائرين حول هذه اللوحة المعبرة ...

التعليقات (0)