مدى الفاتح يكتب: عن «التغيير الدستوري» في النيجر

profile
  • clock 8 أغسطس 2023, 5:23:58 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

النيجر التي لم تكن تذكر إلا نادرا في وسائل الإعلام، أصبحت تتصدر الأخبار عقب استحواذ رئيس الحرس الرئاسي على السلطة. أثار الخبر وتفاصيله المتعلقة بعزل الرئيس محمد بازوم ضجة عالمية، لأهمية البلد وموقعه. منذ بداية الأحداث والتحليلات لم تتوقف حول دوافع هذا التحرك ووجهته ورعاته، وتوزعت الأسباب المقترحة ما بين الطموح الشخصي لمن سموه «قائد الانقلاب» وإمكانية أن يكون مدفوعا من الرئيس الأسبق محمدو يوسفو، الذي كان مقربا منه، وما بين الحديث عن مؤامرة دولية تقف خلفها روسيا. التحليل الأولي، الذي كان يعتبر الأمر مجرد لعبة فرنسية جديدة، والذي كان يستبعد أن يكون التحرك فرديا ومعزولا، سرعان ما ثبت فشله بعدما ظهر من غضب الفرنسيين، الذين كانوا أول المطالبين بعودة الرئيس بازوم واستعادة «النظام الديمقراطي»، والذين وصل انفعالهم حد الدعوة لاجتماع مجلس الأمن الوطني، الذي لا يجتمع إلا للضرورة.
الغضب الفرنسي مفهوم، فقيادة جديدة مناوئة تعني نهاية التعاون العسكري، الذي كان يوفر لفرنسا وجودا عسكريا تحت غطاء المساندة والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وهو وجود مهم لها بعدما فقدت أهم قواعدها في دول الساحل. القيادة المناوئة تعني أيضا أن إمداد فرنسا بالمواد الخام كاليورانيوم، وفق الاتفاقات القديمة، صار مثار شك، وكذلك كل التفاصيل الأخرى المتعلقة بالنفوذ والتعامل الخاص، الذي كان يجده الفرنسيون داخل مستعمرتهم السابقة. باريس ليست الغاضب الوحيد، فهناك واشنطن أيضا، التي تقلق على قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في مدينة «أغاديس»، كما تخشى من فقدان أحد أهم الحلفاء، الذين ارتبطت معهم بعلاقة خاصة، والذين تخشى أن يسحبوا لصالح موسكو.

يدرك الجميع أن الغضب الفرنسي ليس مرده الخوف المطلق على الحريات العالمية، وإنما تهديد المصالح، التي إن جاء من يحافظ عليها فسيجد كل الدعم والمؤازرة

الانزعاج الفرنسي والغربي وصل حد التهديد بالتدخل العسكري، وتحريض الجيران في «المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا»، تعرف اختصارا بـ»إيكواس»، على تبني ضغوط مختلفة والتلويح بالخيار العسكري. التهديدات لم تنجح في حمل القيادة الجديدة على التراجع، بل على العكس ساهم ذلك في تصلب مواقفها أكثر، فمن ناحية لم تجد بداً من التواصل مع روسيا كحليف في مقابل التربص الغربي، ومن ناحية أخرى عملت على التقرب أكثر من جوارها المناهض لفرنسا، خاصة مالي وبوركينا فاسو، اللتين اعتبرتا أن من واجبهما التدخل إلى جانب النيجر في حال نشوب حرب. كل ذلك سيجعل المشهد يتعقد أكثر، فالتدخل من أجل مهمة «استعادة الديمقراطية» عبر إعادة الرئيس المعزول إلى القصر، الذي يتوسط قاعدة عسكرية، لن تكون مهمة سهلة، سواء تمت عبر جيش غربي، أو عبر جيوش محلية (من التبسيط هنا عقد مقارنة مع تدخل «إيكواس» السابق في غامبيا). نيجيريا، أهم قوى «إيكواس»، التي هدد رئيسها منذ البداية بالتدخل المباشر، أعاد رفض برلمانها لمخطط الاجتياح العسكري التذكير بالتعقيدات، التي يمكن أن تواجه البلد إثر هذا التدخل على صعيد النزوح المحتمل واحتمالات تمدد الصراع. نتذكر أن البلد، الذي يواجه تحديات جمة ويخوض معارك مرهقة وبعيدة عن الحسم مع تنظيم «بوكو حرام»، تربطه وشائج قبلية وارتباطات اجتماعية كثيرة مع جارته النيجر، فالتشابه في اسم البلدين، الذين لم يفرقهما سوى التقاسم الاستعماري، لم ينبع من فراغ. بقية دول «إيكواس»، وعلى رأسها السنغال وساحل العاج، تعاني أيضا من تعقيدات كثيرة تجعل الاتجاه للعسكرة مغامرة غير مأمونة العواقب. صعوبة التدخل العسكري لم تمنع الدول والمنظمات السياسية، كالاتحاد الافريقي و»إيكواس»، من الشروع في عقوبات غير مسبوقة، في محاولة لحصار وخنق الاقتصاد النيجري الضعيف، فتم الشروع في تجميد الأصول الخارجية وتفعيل إجراءات من قبيل قطع الكهرباء المستمدة من نيجيريا. يطرح كل ذلك تساؤلات مهمة حول الديمقراطية الافريقية، خاصة مع الدعم الشعبي الكبير، الذي وجدته قرارات إزاحة الرئيس السابق بازوم، فقد رأينا أنه، وعلى الرغم من كونه رئيسا منتخبا، إلا أن قليلا جدا من الناس تكبدوا عناء المدافعة عنه، فيما عبر الآلاف عن ارتياحهم وتفاؤلهم بدخول البلاد مرحلة جديدة. تثبت لنا هذه الأحداث أن مفاهيم، مثل «الحرية» و»الديمقراطية» و»الانقلاب»، هي مجرد مفاهيم فلسفية وحمالة أوجه، فالفرنسيون، الذين سارعوا لانتقاد التغيير، باعتباره انقلابا غير شرعي، هم أنفسهم، الذين رعوا ويرعون أكبر الديكتاتوريات في القارة، سواء العسكرية المباشرة، أو التي تتخذ مظهرا ديمقراطيا خادعا. اليوم يدرك الجميع أن الغضب الفرنسي ليس مرده الخوف المطلق على الحريات العالمية، وإنما تهديد المصالح، التي إن جاء من يحافظ عليها فسيجد كل الدعم والمؤازرة. من المفاهيم الأخرى حمالة الأوجه، التي تطلق في سياق سلبي مفهوم «الشعبوية»، فالزعماء الثائرون على التبعية الفرنسية يوصفون بأنهم شعبويون، وأنهم إنما يريدون دغدغة مشاعر الملايين، وفي هذا التوصيف تهرب من السؤال الحقيقي وهو: لماذا كانت الشراكة مع فرنسا مسمومة لدرجة فرح الجماهير بقطع العلاقات مع دولة يفترض أن تكون مرتبطة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا بهم؟
في بوركينا فاسو المجاورة كانت القرارات الخاصة بطرد السفير الفرنسي والقوات الفرنسية، بل حتى منسقة الأمم المتحدة، محل ترحيب شعبي، ولم يكترث المبتهجون بتهديدات قطع المساعدات، وكأن لسان حالهم يقول إن عقودا طويلة من الشراكات المزعومة لم تسفر عن أي نهضة. الحال قد يكون مشابها في النيجر، التي تهددها فرنسا اليوم بقطع المساعدات، فالبلد، الذي يمد العالم باليورانيوم، هو الذي تعتمد نسبة تقدر بـ17% من سكانه على المعونات الإنسانية، بل إن مناطق التعدين هي البقعة الأكثر تضررا، حتى على المستوى الصحي، حيث لم تكلف فرنسا ولا مخبروها المحليون أنفسهم دفع نسبة قليلة من المال لتحسين حياة الضحايا، الذين كان من قدرهم الوجود في منطقة غنية بالموارد، التي لا يصيبهم منها إلا ما تفرزه من نفايات. منطق المحللين، الذين يتحدثون عن عدم وجود أزمة تستدعي الخروج على الشرعية، مختلف عن منطق من خرجوا بأعداد كبيرة مؤيدين للتغيير، فبينما يشير المحللون والأكاديميون إلى الاستقرار الدستوري، على اعتبار وجود نظام انتخابي وبرلمان وحكومة ذات شرعية، يتحدث المتظاهرون الداعمون من زاوية أخرى عن وجود مشكلة تتمثل في الفقر غير المحتمل وغير المتسق مع ما تملكه البلاد من ثروات، وهو وضع ضاغط يحفز على دعم أي أفكار جديدة، حتى لو كانت من خارج «الصندوق». إن من أكبر الأدلة على عطب «المسار الديمقراطي» النيجري، الذي يتداعى العالم لإنقاذه، ما تعلق بالجيوش والقواعد الأجنبية وخريطة توزعها في البلاد، فإذا كانت الحكومة الفرنسية قد شرحت لشعبها أهمية الوجود في المنطقة، وإذا كان البرلمانيون الغربيون على دراية بمهام جيوشهم هناك، فإن الأمر مختلف في حالة الشعب النيجري، الذي لم يأخذ أحد رأيه، بل قد لا تجد من السياسيين من يعلم ببنود الاتفاق العسكري وحدود التدخل الغربي الممكن. الأدهى من ذلك هو أنه يصعب، على الجميع، الإجابة عن سؤال كيف تمت الموافقة على أن تكون اليد العليا في الأراضي النيجرية للجيوش الأجنبية، في حين لا يلعب الجيش الوطني سوى دور ثانوي مساند. هذا أمر لا يقبل العقل أن يكون أقره برلمان. المقلق في المسألة النيجرية أن كل السيناريوهات تظل مفتوحة، بما فيها سيناريو الحرب الشاملة التي تحمل مبررا جاهزا وعنوانا كافيا لتبرير أي مأساة: «استعادة الديمقراطية».


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)