- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
محمود علوش يكتب: المواءمة التركية بين الأمن والاقتصاد والدبلوماسية
محمود علوش يكتب: المواءمة التركية بين الأمن والاقتصاد والدبلوماسية
- 9 يونيو 2023, 3:10:36 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أنهى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجزء الأكبر من عملية إعادة تشكيل السلطة الجديدة في البلاد بعد الانتخابات. من الملاحظات المهمة في التركيبة الجديدة أن بعض الشخصيات البارزة، التي تتولى مهامّ جديدة، لديها خبرة واسعة في مجالات أخرى حسّاسة. لدى هاكان فيدان، الذي سيقود الدبلوماسية التركية في الفترة المقبلة، خبرة كبيرة في الأمن والاستخبارات لما يقرب من عقد ونصف العقد، بفعل إدارته جهاز المخابرات التركي. ولدى إبراهيم قالن، الذي سيقود جهاز المخابرات، خبرة واسعة في الدبلوماسية بفعل الوظيفة التي كان يشغلها سنوات، وهي مستشار الرئيس والمتحدّث باسم الرئاسة. أما وزير الدفاع الجديد يشار غولو، فكان يشغل في السابق رئيس هيئة الأركان التركية. تهدف هذه التعيينات إلى تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية، واللذين سيشكّلان نقطة ارتكاز في السياستين الداخلية والخارجية في الولاية الجديدة لأردوغان.
كبلد، يعاني من صراع تاريخي مع حزب العمال الكردستاني المحظور، ويُحيط به حزامٌ من الاضطرابات الأمنية والجيوسياسية، ويخوض صراعاً جيوسياسياً مزمناً مع اليونان وقبرص الجنوبية، كما تشغل الأبعاد الأمنية حيّزاً كبيراً في تشكيل علاقاته الخارجية مع قوى كبرى كروسيا والولايات المتحدة، فإن تحقيق اندماج متكامل بين مجالي الأمن والدبلوماسية يجعل تركيا أكثر قدرة على التعامل مع هذه التحدّيات. في ظل هذه التعيينات الجديدة، سيتمكّن المسؤولون الجدد من توظيف خبراتهم الواسعة في المجالات الأخرى الحسّاسة لبناء سياسة أمنية ودبلوماسية أكثر فعالية ومنسجمة مع بعضها بعضا. من الميزات المهمة في تركيبة السلطة الجديدة، قدرة المسؤولين على اتخاذ القرارات والتقييمات الفعّالة مع مركزية أقل. سيبقى الرئيس أردوغان مهيمناً بطبيعة الحال في تشكيل السياسات الأمنية والخارجية، لكنّ بمقدوره الاعتماد بقدر أكبر على مسؤولين يحظون بثقة كبيرة لديه، ويمتلكون خبرة واسعة في الأمن والسياسة معاً.
المواءمة بين الأمن والدبلوماسية يُمكّن أنقرة من إعادة تشكيل سياستها الإقليمية بطريقةٍ توازن بين تحقيق الأهداف الأمنية ومتطلبات الدبلوماسية
بالنظر إلى الخبرة الواسعة التي اكتسبها فيدان في الأمن والاستخبارات، فإنها ستكون حاضرة في تشكيل سياسة خارجية جديدة توائم بين متطلبات الأمن والدبلوماسية. وكذلك الحال بالنسبة لإبراهيم قالن الذي ستُساعده الخبرة الدبلوماسية الواسعة التي اكتسبها في فترة عمله مستشارا أول لأردوغان في تشكيل سياسة أمنية واستخباراتية تُراعي متطلّبات الدبلوماسية. يكتسب الدمج بين المجالين أهمية أكبر في إدارة القضايا الأمنية الحسّاسة التي ترتبط بالعلاقات مع الخارج، كالصراع مع وحدات حماية الشعب الكردية السورية، وملف تنظيم غولن. كما أن هذا الدمج سيُساعد تركيا في تشكيل سياسةٍ خارجيةٍ نشطة في القضايا الجيوسياسية الشائكة مع الغرب على وجه الخصوص، كالصراع الجيوسياسي مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسّط والشراكات العسكرية والأمنية التي أقامتها الولايات المتحدة وفرنسا مع اليونان، والتي تندرج في إطار التحدّيات الجيوسياسية التي تواجه تركيا مع الغرب. أما بالنسبة للعلاقة مع روسيا، فإن المواءمة بين متطلبات الأمن والدبلوماسية ستُساعد البلدين في جعل الشراكة الجيوسياسية بينهما في سورية وجنوب القوقاز والبحر الأسود فعّالة ومثمرة بقدر أكبر.
علاوة على ذلك، سيساعد الدمج بين مجالي الأمن والسياسة الخارجية تركيا في تشكيل سياسة خارجية نشطة أيضاً مع جوارها الإقليمي الجنوبي، لأن مجال الأمن يشغل الحيز الأكبر من علاقات تركيا مع محيطها الجنوبي، فإن المواءمة بين الأمن والدبلوماسية يُمكّن أنقرة من إعادة تشكيل سياستها الإقليمية بطريقةٍ توازن بين تحقيق الأهداف الأمنية ومتطلبات الدبلوماسية. سينعكس هذا الدمج، بشكل أوضح، في السياسة الخارجية الجديدة التي ستنتهجها تركيا إزاء ملفّي سورية وليبيا. بالنظر إلى الدور الفعّال الذي لعبه فيدان، عندما كان في جهاز الاستخبارات في الإشراف على قنوات التواصل الاستخباراتية والأمنية مع النظام السوري، فإن إدارته للمفاوضات معه في الفترة المقبلة سترتكز بشكل أساسي على مجال الأمن. وكذلك الحال بالنسبة لليبيا، حيث سيُساعد الدمج بين الأمن والدبلوماسية أنقرة في صياغة سياسة جديدة تُراعي بين المصالح الأمنية والجيوسياسية وبين الدبلوماسية. سينعكس هذا الدمج بوضوح في العلاقة مع مصر، والتي سترتكز في عهدها الجديد على التعاون الثنائي في الملف الليبي وفي شرق البحر الأبيض المتوسط.
ستشغل الاعتبارات الاقتصادية في العهد الجديد لأردوغان حيّزاً أكبر في عملية تشكيل السياسة الخارجية
من الملاحظ أيضاً في تشكيلة السلطة الجديدة في تركيا، الارتباط الوثيق الذي يسعى إليه أردوغان بين السياسات الاقتصادية والخارجية. بينما اقتصرت السياسة الخارجية خلال العقد الماضي على المواءمة بين التحدّيات الجيوسياسية والأمنية، فإن الاعتبارات الاقتصادية ستشغل في العهد الجديد لأردوغان حيّزاً أكبر في عملية تشكيل السياسة الخارجية. يبدو ذلك مفهوماً بالنظر إلى أن أكبر التحدّيات التي تواجه تركيا في السنوات الخمس المقبلة هي الاقتصاد وإعادة إعمار المناطق المنكوبة التي دمّرها زلزال 6 فبراير، والتعامل مع هذه التحدّيات بشكل فعّال يتطلب سياسة خارجية قادرة على الاستفادة من الميزات الاقتصادية للعلاقة مع مختلف الفاعلين الخارجيين من خلال جلب مزيد من الأموال الساخنة والاستثمارات الأجنبية. في الأعوام الثلاثة الماضية، بدأت تركيا بالفعل عملية دمج بين احتياجاتها الاقتصادية وإعادة تشكيل علاقاتها مع روسيا ودول الخليج، لكنّ هذه العملية ساعدت في مواجهة مؤقتة للتحديات الاقتصادية وغير كافية لتشكيل سياسات اقتصادية مستدامة. لذلك، من المرجّح أن تتوسع هذه العملية في الفترة المقبلة لتشمل الغرب كذلك.
مع الأخذ بالاعتبار أن الخلافات التركية الغربية من غير المرجّح أن تُعالج بشكل كامل في المستقبل المنظور، فإن المواءمة بين مجالات الأمن والاقتصادية والسياسة الخارجية ستُساعد أنقرة في إدارة خلافاتها مع الغرب. سيتمثل الاختبار الفوري الذي سيواجه هذه المواءمة في الفترة المقبلة في موقف تركيا من عملية انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ولأن أردوغان حريص على بدايةٍ جيدة مع الغرب في ولايته الرئاسية الثالثة، فإنه سيُركّز على اتباع سياسة مرنة في ملف توسيع "الناتو" مقابل الحصول على مزايا أخرى في علاقاته مع الغرب كإعادة جذب الاستثمارات الغربية وانخراط غربي في إعادة إعمار المناطق التي دمّرها الزلزال، فضلاً عن إتمام صفقة شراء مقاتلات إف 16 من الولايات المتحدة. في غضون ذلك، سيتعيّن على أردوغان إعطاء دفعة للعلاقات المضطربة مع الاتحاد الأوروبي من خلال الحفاظ على اتفاقية اللاجئين والانخراط بشكل أوثق مع الأوروبيين، من أجل تحريك عملية السلام القبرصية، مقابل الحصول على مزايا اقتصادية على غرار رفع التأشيرة عن دخول الأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي وتحريك مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد وتعزيز دور تركيا في تجارة الطاقة. يندرج المشروع التركي الروسي لإنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا ضمن هذا الإطار، لكنّ نجاحه سيبقى مرهوناً بالآفاق المستقبلية للحرب الروسية الأوكرانية.