- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
محسن محمد صالح يكتب: التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية (2)
محسن محمد صالح يكتب: التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية (2)
- 9 يونيو 2023, 2:36:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نتابع في هذا المقال جدلية الديني والعلماني في الحركة الصهيونية، حيث أبرزنا في المقال السابق (الذي نشر على "عربي21" في 16 نيسان/ أبريل 2023) الجوهر الديني للحركة الصهيونية، والتداخل والتماثل بين الديني والقومي لدى اليهود. ونسلط الضوء في هذا المقال على تداخل العلماني والمُقدَّس في الشخصية الصهيونية، كما نُبيّن أن معظم الرواد الأوائل للفكرة الصهيونية كانوا من الحاخامات.
ثالثا: علمانيون ولكن "مقدسون"
إن الفكرة المركزية في الأيديولوجية الصهيونية، هي الامتزاج والتداخل الكامل بين القداسة والقومية، وهي تعبر عن نفسها في الإنسان والمكان والزمان، وأهم عناصرها الإنسان، أي "الإنسان المقدس" أو "الشعب اليهودي المقدس". وستجد أن رؤية اليهود بوصفهم شعبا مقدسا تتكرر في مقولات هرتزل "الليبرالي"، وبن جوريون العمالي الاشتراكي، وبورخوف الشيوعي، وإن كانت تتخفى دائما تحت "ديباجات" مراوغة.
الفكرة المركزية في الأيديولوجية الصهيونية، هي الامتزاج والتداخل الكامل بين القداسة والقومية، وهي تعبر عن نفسها في الإنسان والمكان والزمان، وأهم عناصرها الإنسان، أي "الإنسان المقدس" أو "الشعب اليهودي المقدس".
والحركة الصهيونية قدمت نفسها امتدادا لليهودية وليس نقيضا لها، واستخدم الصهاينة وحتى الملاحدة منهم مقولات دينية، وتعاملوا مع دينهم اليهودي بروح أكثر إيجابية وانفتاحا من تلك التي أظهرها المُلحدون من المسلمين والمسيحيين. وكان ماكس نوردو (Max Nordau) القيادي الصهيوني الكبير (الذي كان مقربا إلى هرتزل، وعمل رئيسا أو نائبا لرئيس عدد من المؤتمرات الصهيونية) يُعدُّ ملحدا، ولكنه عدّ الدين "مصدرا لطاقة بناء كاملة". وكان جابوتنسكي (V. Jabotinsky) ملحدا أيضا، وهو مؤسس الصهيونية التنقيحية، والأب الروحي لرئيس الوزراء الصهيوني الأسبق مناحيم بيغن وتجمُّع الليكود، وقد تحدث عن نفسه بوصفه بَنَّاء يسهم في بناء معبد جديد لربه الذي أسماه "الشعب اليهودي".
أما الزعيم الصهيوني نحمان سيركين (Nachman Syrkin) الذي يُعدُّ أبرز مؤسسي الصهيونية العمالية (التي حكمت الكيان الصهيوني منذ إنشائه وحتى 1977)، فأشار إلى اليهودي المقدس بوصفه نبيا وشهيدا بل ومسيحا مصلوبا، على حدِّ تعبيره!! وتحدث الزعيم الصهيوني موشيه ليلينبلوم (Moshe Lilienblum)، الذي بدأ حياته عالما دينيا، ثم تحوّل علمانيا تاركا للدين، قائلا؛ إن "الأمة كلها أعز علينا من كل التقسيمات المتصلبة.. فلا مؤمنون ولا كفار؛ لأننا كلنا مقدسون سواء كنا غير مؤمنين أو أرثوذكسيين". وهكذا، فإن هذا المفكر الصهيوني بعد تحوله للإلحاد، كان ما يزال يرى نفسه مقدسا؛ لأن "الشعب اليهودي" بالنسبة له هو مصدر القداسة!!
وقد حاول المفكر الصهيوني كلاتزكين توضيح الأمر، فقال؛ إن اليهودية "تعتمد على الشكل لا على المضمون"، وهذا الشكل الأساسي -كما يقول- هو تخليص الشعب اليهودي للأرض، أما المضامين الروحية والفكرية، فهي تختلف بشكل راديكالي، وهذا لا يهم لأن "مضمون الحياة نفسه سيصبح قوميا عندما تصبح أشكالها قومية".
ولا يهتم بن جوريون، المؤسس الفعلي للكيان الصهيوني وأول رئيس وزراء، إن كان مَنْحُ اللهِ أرضَ كنعان لليهود حقيقة إلهية أم لا، بل المهم عنده أن هذه "الأسطورة" مغروسة في وجدان "الشعب اليهودي"، ويجب أن تبقى سارية المفعول، حتى ولو ثبت غير ذلك". أي إن مصدر الشرعية عنده ليس بالضرورة الوحي الإلهي، وإنما الشعب "الذي حلَّت فيه الروح الإلهية" حسب ادعائه؛ ويكفي أن يقتنع الشعب بذلك ليصبح هذا أمرا مشروعا وحقّا لا نزاع فيه.
إن الحديث بعد ذلك عن وجودية هرتزل وعلمانيته الصارمة التي وصلت حد الإلحاد، حتى إنه تعمّد انتهاك الشعائر اليهودية عندما زار القدس، أو عن استهزاء ماكس نوردو بالتوراة وقوله؛ إنها "طفولية بوصفها فلسفة، ومقززة بوصفها "نظاما أخلاقيا"، أو عن تلذذ حاييم وايزمن أحيانا بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام المباح شرعا لدى اليهود.
إن الحديث عن ذلك كله وغيره، ينبغي أن يوضع في إطاره المحدود، فهؤلاء في نهاية الأمر وفي خلاصة التحليل خدموا التطلعات اليهودية الدينية في فلسطين، وسعوا إلى إنقاذ بني دينهم (قومهم) والارتقاء بهم وبناء دولة لهم. كما اتسعت حركتهم الصهيونية للتيارات الصهيونية الدينية وغيرها، كما اتسعت دولتهم الصهيونية بعد ذلك لهذه التيارات، لتعبر عن نفسها بحرية وتشارك في القيادة السياسية، وتفرض شروطها حسب ما يتيح لها وزنها في نظامهم الانتخابي "الديمقراطي". ومن ثم فإن شيوعية أو علمانية هؤلاء لم تكن "إقصائية" أو "استئصالية"، وإنما متعايشة بل ومتكاملة مع غيرها. وظلت خدمة "الشعب المقدس" هي الرابطة التي تجمعهم، ولذلك لم تخل الوزارة الإسرائيلية منذ إنشاء الكيان الصهيوني 1948 وحتى الآن من وزراء يمثلون الأحزاب الدينية، ويمسكون بوزارات حساسة كالداخلية والتعليم.
رابعاً: حاخامات في الريادة الأولى للصهيونية:
الحديث عن ذلك كله وغيره، ينبغي أن يوضع في إطاره المحدود، فهؤلاء في نهاية الأمر وفي خلاصة التحليل خدموا التطلعات اليهودية الدينية في فلسطين، وسعوا إلى إنقاذ بني دينهم (قومهم) والارتقاء بهم وبناء دولة لهم. كما اتسعت حركتهم الصهيونية للتيارات الصهيونية الدينية وغيرها، كما اتسعت دولتهم الصهيونية بعد ذلك لهذه التيارات لتعبر عن نفسها بحرية، وتشارك في القيادة السياسية، وتفرض شروطها حسب ما يتيح لها وزنها في نظامهم الانتخابي "الديمقراطي".
يركِّز الكثير من دارسي المنظمة الصهيونية على هويتها العلمانية، من خلال التركيز على سلوك هرتزل ورفاقه المؤسسين للمنظمة، ولكنهم يتجاهلون الجذور التي غذت نشأتها، والرواد الأوئل الذين أسهموا في ظهورها فكريا وأيديولجيا، كما أسهموا في اقتراح البرامج وخرائط الطريق وطرق التنفيذ؛ مما استفادت منه المنظمة الصهيونية لاحقا، وكانت مَدينة لهم بالكثير... وهؤلاء الرواد الكبار أبرزهم لم يكونوا إلا حاخامات!!
كان شبتاي زفي (Shabbetai Tzvi، 1626-1676) الذي وُلد في إزمير (في تركيا الحالية) وعاش في رحاب الدولة العثمانية، وادعى أنه المسيح الذي ينتظره اليهود، من أوائل من دعا إلى تجديد "الهيكل" في القدس، وإلى ما أسماه تحطيم قيود الذل والانحطاط، واحتلال اليهود المركز اللائق بين أمم العالم، وتكوين لجنة تمثل اليهود في 15 بلدا، وتتخذ القرارات لتنفيذ هذا المشروع، بحيث يكون واجبا على اليهود جميعا قبولها والخضوع لها. ودعا إلى أن يتم ذلك بالتنسيق مع فرنسا، أما الأرض التي دعا إلى "استعادتها"، فهي فلسطين وإقليم الوجه البحري من مصر. ودعا اليهود إلى "ألا يدخروا وسيلة أو تضحية في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، أي الرجوع إلى بلادنا، حيث يمكن أن نعيش في ظل شرائعنا الخاصة". غير أن الدولة العثمانية سجنته، فأعلن إسلامه، لكنه ظل على وفائه ليهوديته.. وعُرف أتباعه بعد ذلك بـ"يهود الدونمة".
أما الحاخام يهودا القالي أو "القلعي" (Judah Alkalai، 1798-187)، المولود في سراييفو (عاصمة البوسنة، وكانت تحت الحكم العثماني)، فقد تصور في سنة 1843 أن الحل العملي "لاسترجاع" الأرض المقدسة، هو في الدعوة لعقد جمعية عامة كبرى لليهود، وإقامة صندوق قومي لشراء الأراضي، وإقامة صندوق مماثل لجباية الضرائب من اليهود. كما دعا إلى "عودة" اليهود كلهم، ولكن بشكل تدريجي متأن حتى يتم إعداد الأرض وتحضيرها، وهي الآراء التي تبنتها ونفذتها الحركة الصهيونية فيما بعد. كما دعا القالي إلى تشكيل مجلس للحكماء، يكون باستطاعته فرض طاعته واحترامه على اليهود.
وكان الحاخام زفي هيرش كاليشر (Zevi H. Kalischer، 1795-1874)، الذي عاش في بروسيا (ألمانيا سابقاً) أحد رواد الصهيونية الكبار، وقد قضى معظم حياته في تورن في بولندا، وفي عام 1862 نشر كتابه "البحث عن صهيون" (Drishot Tziyon)، وكان أول كتاب يظهر في شرق أوروبا يتحدث عن الاستيطان الزراعي اليهودي في فلسطين. وقد أكد فيه أن بداية الخلاص اليهودي هي بالجهد الإنساني، وكسب موافقة الأمم على جمع اليهود في الأرض المقدسة، وأن العمل في الأرض المقدسة هو جهد مقدس، وقد حث على الاستيطان في فلسطين وإقامة منظمة تتولى ذلك.
وتُعد جمعيات أحباء صهيون أحد الإرهاصات السياسية التي وفرت قواعد عريضة ومتينة للمنظمة الصهيونية العالمية في شرق أوروبا خاصة. وقد بادر لتأسيس أول جمعية لأحباء صهيون الحاخام صموئيل موهيليفر (Samuel Mohilever، 1824-1898) سنة 1882 ثم توالت فروعها في الانتشار، وانتخبته في مؤتمرها الأول عام 1884 رئيسا لها، ورأس مؤتمراتها العامة في 1887 وسنة 1889.
وموهيليفر هو أبرز رواد الصهيونية الدينية، وله دور تأسيسي في المنظمة الصهيونية العالمية. وتجلى عمل جمعيات أحباء صهيون في دعم حركة الاستيطان اليهودي في فلسطين وتشجيع الهجرة وإقامة المستوطنات، وغلب على هذه الجمعيات الطابع الديني، وعندما نشأت المنظمة الصهيونية العالمية سنة 1897، انضم إليها 260 فرعا من هذه الجمعيات، مما شكل عنصر إثراء كبير ودفعة هائلة للمشروع الصهيوني.
وهكذا، فلعل شبتاي زفي يُعد الرائد الأول والأكبر للصهيونية (قبل هرتزل بنحو 350 عاماً)، أما يهودا القالي (القلعي)، فيعد الرائد الأول في القرن التاسع عشر؛ بينما توافق صدور كتابا "البحث عن صهيون" لزفي هيرش كاليشر، و"روما والقدس" للمفكر الصهيوني العلماني موزيس هيس (Moses Hess)، الذي كان رائدا في إبراز الفلسفة الصهيونية العلمانية، في السنة نفسها أي 1862؛ في الوقت الذي كان فيه هرتزل ورفاقه مدينون لموليهيفر وتياره في نشر الصهيونية في الوسط اليهودي، خصوصا الأرثوذكسي، وفي البرنامج العملي للاستيطان.
يتبع..