ماهر الملاخ يكتب : في علاقة الحضاري بالسياسي - قراءة نقدية لبراديغم مدرسة الإخوان المسلمين

profile
ماهر الملاخ أكاديمي إعلامي- تخصص سيميائيات
  • clock 13 نوفمبر 2021, 4:45:31 م
  • eye 1125
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عبر تاريخها الحضاري الطويل، مرت، ولاتزال تمر الأمة الإسلامية من فترات عصيبة، وفق ثنائية التحدي والاستجابة، بمفهوم توينبي، إلى أن آل بها الحال في هذه الدورة الى حالة "الاحتباس الحضاري".

ومع امتداد هذه الحالة لما يزيد عن قرن من الزمان، يبدو أن هذه الامة لا تزال تتفاعل وتتدافع، مما يدل على حياتها وحيويتها.

وحين التأمل في سبب استمرار ذلك التفاعل والتدافع، سوف نستنتج أن تلك الحيوية، لا علاقة لها بمشروعها السياسي بالذات، فالحالة السياسية لدول الأمة اليوم، ليست في موقف الفعل والمبادرة، وإنما هي في وضع التلقي والانفعال.

بل حتى إذا عدنا إلى الوراء، فسنجد أن التجربة السياسية في التاريخ الاسلامي، هي في الواقع تجربة فاشلة بالمجمل: إذإأن لحظات النموذج السياسي المثالي، بمعيار القيم التي بشر بها الإسلام، هي لحظات جد قصيرة، لا تتجاوز 31 سنة (29 سنة خلافة راشدة + 2 سنتان حكم عمر بن عبد العزيز)، أي هو نجاح بنسبة لا تتجاوز 2,13%.

لكن هذه الأمة في المقابل، قد حققت ريادة حضارية طويلة، وصلت الى 13 قرنا على الاقل، أي انها قد أنجزت نجاحا بنسبة لا تقل عن 92% في أسوء تقدير.

هيمنة السياسي على السلم الحضاري:

حين مات النبي عليه السلام، لم يعين خليفة، ولا أرشد صحابته لطريقة محددة في اختياره، ولا حدد شكل الدولة ومؤسساتها، ولا حيثيات نظام الحكم وعناصره. وهو عليه الصلاة والسلام، لم يهمل ذلك نسيانا ولا تفريطا، بل لأن مشروع الدولة لا تمثل جوهر رسالته، وبالتالي لا تتمتع بتلك الأهمية التي يمكن أن نتصورها ضمن مشروع الإسلام. بل هي من باب (وأخرى تحبونها، نصر من الله وفتح قريب).

وهو الدليل على كون المشروع السياسي يحتل أدنى رتبة في سلم أولويات المشروع الحضاري.

واليوم، نحن شهود على سوء الحالة السياسية والاقتصادية التي تعيشها الأمة الإسلامية، في نفس الوقت الذي نشهد فيه أن الإسلام يسجل أعلى نسبة اعتناق، وأكبر نسبة تمدد، حسب منصات الرصد العالمية، ومنها مركز بيو الشهير.

فما الذي يفسر هذه المفارقة الواضحة، إن لم يكن ذلك التمايز البين بين الحالة الحضارية في الإسلام وحالته السياسية، كون الأولى لا تتوقف عن الثانية.

ذلك التمايز الذي لا ينفي تأثر ما هو حضاري بما هو سياسي، ولكنه تأثر أعراض وليس تأثر جوهر، (بمفهوم المقولات الفلسفية). أو بمعنى آخر، فإن الحالة الحضارية للإسلام قد تتأذى بسوء الحالة السياسية، لكن مصيرها لا يتضرر بالضرورة. فيكون ذلك من باب (لا يضروكم إلا أذى).

ومن جهة أخرى، كون ذلك المشروع الحضاري الإسلامي يمتلك نظرية في الحكم السياسي، لا يبرر أن يختزل كل مشروعه في ذلك المجال بالذات.

وحين نستحضر مشروع مدرسة الاخوان المسلمين، في تعاطيه مع التحدي الحضاري الذي واجته الأمة الإسلامية، والتي جاءت تلك المدرسة كاستجابة له، نجد أن البراديغم الذي اعتمدته، لم يستطع استيعاب تلك الطبيعة: كون مشروع الاسلام هو مشروع حضارة بالأساس، وليس مشروع دولة بالضرورة. أي أنه مشروع أمة في الأصل، وليس مشروع نخبة حاكمة تماما.


وقد بلغت درجة ذلك الترفيع مع كتابات سيد قطب رحمه الله، حين بشّر بمفهوم "الحاكمية"، الذي جعل من نمط الحكم معيارا لطبيعة العقيدة. وتم تصريف تلك الفكرة في أشكال خطيرة، يمكن تفصيلها في مناسبات أخرى.

ضيق التعاطي مع مساحة الممارسة السياسية:

سؤال منهجي يفرض نفسه هنا: هل تقتصر الممارسة السياسية في حد ذاتها على ممارسة الحكم؟

إذا ما انطلقنا من مفهوم أصيل في النسق العقدي الإسلامي، وهو مفهوم "الشهادة"، فسوف نخلص إلى أن ممارسة السياسة، قد تكون بممارسة الحكم، وقد تكون بممارسة الرأي في الحكم. وهي ما يحقق مفهوم الشهادة على الناس، كمفهوم أصيل ضمن المشروع الحضاري الإسلامي.

غير أن فكر مدرسة الإخوان المسلمين قد اختزل الممارسة السياسية، في ممارسة الحكم أو السعي له. فأضاف إلى الخطأ في ترتيب المشروع السياسي ضمن أولويات المشروع الحضاري، خطأ في التعاطي مع مجال الممارسة السياسية.

وفي الوقت الذي يرفّع الفكر الاخواني من شأن المشروع السياسي، الى درجة اعتباره المعادل المباشر لنمط الاعتقاد والتوحيد (مفهوم الحاكمية)، ويقصر منطق الممارسة السياسية على ممارسة الحكم، نجد في مقابل ذلك أن الفكر العلماني (مع التحوط الشديد في الاستخدام) قد أقصى المشروع الحضاري الاسلامي من أي حق في أن يمتلك مشروعا سياسيا.

وبين الموقفين، هناك مساحات اعتدال واسعة:

تلك المساحة التي تتمثل في الاعتراف بحق المشروع الحضاري الإسلامي أن يكون له مشروع سياسي، في ذات الوقت الذي لا يقتصر الأول على الثاني وإنما يحتويه ويشمله. حيث لا يجوز لا اختزال ولا إقصاء: حيث وجب أن يوضع المشروع السياسي للإسلام في أدنى الأولويات، وأن يوسع من مجال الممارسة السياسية، دون أن تكون تلك الممارسة السياسة مقتصرة على من قبل إقصاء مرجعيته الدينية. في ذات الوقت الذي تشتغل فيه النخبة مع الأمة على مستوى القيم الاسلامية الكبرى، بدءا بتثبيت الاعتقاد، الى توجيه الأخلاق، مرورا بإنتاج الفكر.

فإن أفضى ذلك الاشتغال الى تأسيس مشروع سياسي، فسيكون نتيجة منسجمة، وعامل تنمية وتمكين للمشروع الحضاري.

حيث يأتي ذلك من باب (وأخرى تحبونها)

وإذا لم يفض إلى ذلك، فسيكون نتيجة مؤثرة لا محالة، لكن دون أن يمثل تهديدا لوجود المشروع الحضاري أو إيذانا بنهايته.

فيكون من باب (لن يضروكم الا اذى).

وبهذا، يكون التمكين السياسي هو التجلي التكميلي للمشروع الحضاري الاسلامي. لتبقى الرسالة المركزية لذلك المشرع هي التمكين الايماني والقيمي للناس كافة. أي يكون شاملا لكل ما يتوقف عليه صلاح حياة الإنسان في الدنيا، ونجاته في الاخرة. وهو مبرر وجود دين الاسلام فوق الأرض.

إن الاشتغال ضمن الخط الحضاري، أرحب وأوسع، وأكثر تجذرا في التاريخ، وأقدر على تحقيق مراد الله من هذا الدين.

وحين عجز البراديغم الإخواني عن استيعاب هذه الجزئيات الخطيرة، وظل يصر على مركزية المشروع السياسي، وكونه هو منطلق هدفه ومنتهاه، ومعيارية نجاحه وفشله، فقد حكم على سقفه بالانخفاض، وعلى مجاله بالاختزال، وهو ما يؤذن اليوم بفشله ونهايته.

معيقات تطويرالبراديغم الإخواني:

هناك من يرى أنه من المشروع أن نطرح السؤال التالي:

لماذا لا تكون مدرسة الاخوان هي ذاتها الاقدر على تطوير مشروعها بنفسها، كي تستجيب لهذا الأفق الحضاري الجديد؟ بما لها من تجربة تنظيمية وفكرية ونضالية.

الجواب البسيط يكمن في "سلطان البراديغم".

أي إن "الدليل المفاهيمي" للإخوان المسلمين، عاجز من داخله عن تطوير ذاته نحو هذا المستوى. وهو قد قدّم أفضل ما لديه خلال ما سبق من مراحل.

ذلك أنه محكوم بالعقلية السنية السلفية التقليدية في التعاطي مع التاريخ من جهة، والمعارف العلمية من جهة ثانية، والقيم الانسانية من جهة ثالثة.

  • فعلى مستوى التعاطي مع التاريخ: لا يستطيع البراديغم الإخواني تجاوز المنطق التبريري التسطيحي في قراءة الأحداث، بدءا من واقعة السقيفة الى لحظة سقوط الخلافة.
  • وعلى مستوي التعاطي مع المعارف العلمية، فهو لم يحسم في طريقة التعامل مع المنتوج المعرفي الحديث، وخاصة في جانبه الإنساني (فلسفة، علم نفس، علم اجتماع ..) وبالتالي لم يفرز أي نظرية لها سلطة علمية في هذا المجال، وأقصى ما وصل إليه لا يعدو مستوى مفهوم "التبيئ" الذي ابتدعه المعهد العالمي للفكر الاسلامي. والذي وصل منذ فترة الى بابه المسدود.
  • وأما من ناحية القيم الانسانية، فباعتبار وفائه للنموذج السني السلفي التقليدي، فقد ظلت قيم الحرية والعدل والكرامة، قيما هامشية، لا تمثل مرجعا ومعيارا للسلوك الفردي (القدرة على الابداع) ولا الجماعي (القدرة على التعايش).


استنفاد أغراض البراديغم الإخواني: 

لقد جسدت طبيعة التعاطي مع الحالة المصرية، سواء تلك التي سبقت الانقلاب على حكم الشهيد محمد مرسي، أو التي تلتها، مدى صعوبة المراهنة على أي تطوير في النموذج الإخواني. وهو التعاطي الذي ظل محصورا في اعتبار أسباب الفشل خارجية، ولا علاقة لها بما هو ذاتي. في حين أن تلك المعضلات الذاتية تتسم بالعمق والضخامة والاتساع:

فلقد بُني البراديغم الاخواني على تحدي سقوط الخلافة (سياسة)، وتدني مستوى التدين في الأمة (دين).

وكان الجواب برنامجا تربويا، وسعيا حثيثا لإقامة "الدولة الاسلامية".

بعد تسعين سنة، أفلحوا في المساهمة في الحفاظ على مستوى نمط معين من التدين، لكنهم فشلوا في إقامة الدولة.

ذلك أنهم لم ينجزوا تشخيصا علميا للمعضلة الاساسية التي عانت منها الأمة بداية القرن العشرين: فالتحدي لم يكن، مجرد تحد سياسي وتربوي، بل كان التحدي حضاريا. إذ إن سقوط "الخلافة" لم يكن مجرد سقوط دولة، بل كان "احتباسا حضاريا".

بمعنى أنه كان يلزم تقديم مشروع استجابة حضارية متكاملة، لا مجرد إقامة توليفة سريعة لبرنامج تربوي ذي أفق سياسي، لتكوين الفرد، وقاعدة شعبية للوصول للحكم.

ولذلك، فإن تلك التجربة وإن حققت توسعا أفقيا على مستوى المجتمعات، إلا أنها لم تقدم، نموذجا اجتماعيا متوازنا على مستوى التربية. لأن الهدف كان هو بناء نموذج تبشيري (داعية)، أكثر منه نموذجا متكاملا ذاتيا، وفاعلا اجتماعيا. حيث تتحكم فيه متوالية "العزلة الشعورية"، باعتبارها الضامن الأساس لحمايته من الانسياق وراء "فساد" المجتمع. وحيث جعلت منه كائنا متغربا عن واقعه مقطوعا عن بيئته.

وحتى على المستوى السياسي، لم يستطيع البراديغم الإخواني أن يقدم نموذجا ناجحا في تدبير الدولة، لغموض طبيعة تصورهم للدولة المنشودة.

إضافة الى وجود قصور لديهم في فهم المنطق الذي يتحكم في تسييرها.


معالم في طريق البراديغمات البديلة:

وأخيرا، يكون من المشروع أن نطرح التساؤل التالي :

إذا كان التاريخ اليوم يسير في اتجاه تجاوز الاطروحة الاخوانية، فهل تكون الأمة قادرة على إفراز استجابة بديلة تملأ الفراغ في وجه التحديات المتنامية؟".

بمقتضى سنة التحدي والاستجابة، فلا يمكننا إلا أن نجزم، أننا مقبلون على براديغمات بديلة لمدرسة الإخوان المسلمين، وربما نحن نعيش إرهاصاتها منذ فترة.

على أن تلك البراديغمات، لن يكتب لها النجاح دون أن تضع بين عينيها حصيلة القصور والأخطاء في التجارب السابقة. فتحقق مجموعة من الشروط، التي بمكن اعتبارها معالم أولية في طريق إنضاج أ بدائل جديدة، ومن ضمنها ما يلي:

  • إعادة الاعتبار إلى مفهوم الشهادة على الناس باعتباره مشاركة بالموقف والفعل في مسار الحضارة الإنسانية.
  • إعادة الاعتبار إلى الفعل الحضاري بكل مجالاته المتنوعة، ومداخله المتعددة، باعتباره المجال الأرحب للاشتغال والتأثير.
  • إعادة موقعة المشروع السياسي ضمن سلمية الهرم الحضاري، باعتباره تجليا من تجليات نجاح مجموعة من مكونات الفعل الحضاري، وليس باعتباره مكونا محوريا فيه.
  • إعادة قراءة التاريخ الإنساني والإسلامي، في اتجاه تجاوز قصور العقلية النقدية للأحداث والوقائع.
  • إعادة استيعاب المعارف الإنسانية، والتمييز بين هيكلها المشترك، وبين توظيفاتها الخاصة.
  • إعادة بناء منظومة القيم، واستيعاب تطورها، وتجليات تحققها في الواقع.
  • إعادة النظر في النموذج التربوي الذي يمثل مدخل ومخرج مشروع الفعل الحضاري.

بدون الاستجابة لتلك الشروط، تكون تلك البدائل القادمة مجرد استنساخ غير فعال لبراديغم نعيش اليوم آخر لحظات حياته.


التعليقات (0)