- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوة يكتب لقطات اسكندريه
محمد قدري حلاوة يكتب لقطات اسكندريه
- 3 أبريل 2021, 1:42:31 م
- 940
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان غافيا نصف غفوة ممدد الجسد على السور الإسمنتي العريض.. ينظر بغير إعتناء للمارة من حوله غير آبه بهم.. يمسك بسيجارته ينفث منها سحابات من الدخان بينما يسقط بقايا غبارها على المعطف الصوفي البال الذي يرتديه.. لحيته تكاد تحتل قسمات وجهه.. لولا تلك النظرة الحادة الثاقبة المحتمية تحت حاجبيه الكثيفين.. الموج يهدر من تحته وطيور النورس تحلق تلتقط بمنقارها السمك العابث.. السيارات تطلق نفيرها المزعج..سياراتان أصطدمتا بعنف وهبط منها السائقان يتبادلان السباب والعراك.. المارة تحلقوا حولهما.. البعض يحاول فض النزاع والآخرون وقفوا في فضول يراقبون المشهد.. أحد أفراد الشرطة يدون في دفتره بعض الأرقام.. وجمع من الشباب واقفين على الطوار يسعون لجذب المارة " للكافيهات" المنتشرة على البحر.. هو ما يزال ممدا على السور العريض ينظر للسماء الناصعة والسحب المارقة بهدوء عجيب..
البحر صار بضعة شواطئ خاصة محاصرة بالأسيجة والأسوار.. لم تعد هناك متع مجانية في هذا الزمان الردئ.. المراكب الصغيرة تقاوم عسف الأمواج صاعدة هابطة.. والشباك تحمل نذرا يسيرا من خيره الوفير.. بائع " الفريسكا" ينادي على بضاعته ويسير بخطوات نشيطة معتمرا قبعته البيضاء العريضة..
ألقى بعقب سيجارته لتطفو على الماء.. تقلب علي جنبه مواجها الماء.. يبدو أن المعركة حامية الوطيس الدائرة من خلفه قد طالت وخدشت هدأة ورونق عالمه الحالم.. أخذ يسعل فجأة بشدة متناولا جرعة من الماء وبصق بعدها على الأرض..قام وخلع قبعته الصوفية وأخذ يحك شعر رأسه المهوش بشدة..
أخرج حقيبة جلدية باهتة اللون متآكلة طبقة الجلد منزوية خلف السور.. كانت مليئة بالأوراق.. يخرج بعضا منها بين حين وآخر محركا رأسه مثل المداحين.. ملوحا بها للمارة قائلا " يا ملعونين.. يا ولاد الكلب".. يأخذ في تفرس الأوراق بنظراته النهمة ويحدث بها علامات مجهولة ليعيد صيحته الأثيرة بإيماءاته المكرورة.. يضعها بعد ذلك بعناية في مكانها بجواره.. ويعود للتمدد مستلقيا بجسده وقد أعطى ظهره للشارع والبصر والضجيج.. سادرا في عالمه.. لم تشغله المعركة الدائرة من خلفه تلك المرة..وأخذ يغط في سبات عميق..
(٢)
" ترام الإسكندرية" نجا من حمى التطوير بعد..شعور غامر ينتابني وأنا أستقله متأملا في تلك البيوت العتيقة.. ترى من أي درب مر الفرنسيين والإنجليز؟.. هذه الطرق بالتأكيد قد تشربت بدماء الشهداء و المقاومين.. هنا كانت " المذبحة" التي كانت التكأة لدخول جيش الإحتلال الإنجليزي.. في بقعة ما تدلي جسد " عمر مكرم" عقابا له على المقاومة.. في تلك الدروب مر "الإسكندر الأكبر" بجيوشه.. أستقبلت " كليوباترا" " أنطونيو".. أتى " عمرو بن العاص".. تخفي " النديم" هاربا بحلمه ويقينه.. خلف شبابيك قلعة " قايتباي" سهر المرابطون دفاعا عن "المحروسة ".. كل ذلك ومازالت تحيا.. صامدة.. تبسط ذراعيها محتضنة البحر وموجه المنتحر على صخورها..
ذلك المشوار الأبدي " لمحطة الرمل " إنعطافا نحو شارع " سعد زغلول " لتناول فنجانا من القهوة المضبوطة من " البن البرازيلي".. لافتته القديمة و نادله العجوز ورائحة البن الآسرة..
فرع " الهيئة العامة للكتاب" على الرصيف المقابل.. كنوز من الكتب ترقد متربة تحتاج يد باحث أثري دؤوب.. مجموعة من الموظفين شديدي الذوق والأدب يجلسون متسامرين حتى يأتي لهم كل بحمله وصيده من الكتب.. شارع" النبي دانيال".. هناك حيث باعة الكتب القديمة المتمرسون.. شمس البحر قد لفحت وجوههم.. وذكاء الصيادين في إقتناص الصيد يقفز من عيونهم.. يعلمون قيمة الكلمة والمعنى.. ينتصرون في كل نزال.. لكنهم أصدقاء وأحبة.. ما أجمل أن تبادل أوراق النقد بأسفار الكلمة والسهر والعرق والدموع..
في " الإسكندرية" القصور والبنايات الشاهقة.. البيوت المتآكلة الجدار التي تسقط دائما في كل نوة قاسية.. فيها السيارات الفارهة تسير جنبا إلى جنب مع عربات " الترمس" و " البطاطا" و " الفول السوداني".. هي التاريخ.. والحاضر.. والحياة.. البحر. بموجه الغاضب الهادر.. السمك الصغير والحيتان والقروش.. عندما يختزل الزمن والوجود في بقعة جغرافية.. فأنت في حضرة الإسكندرية..
"يا اسكندرية فيكي الغلابة..
ع الرزق يسعوا ولا يناموش..
نزل شبكهم في بحر طامي..
طلع شبكهم على فشوش..
وفيكي بين البشر ديابة..
وفيكي فوق البشر وحوش..
وفيكي ناس مغرمين صبابة..
لو خان زمانهم ما بيخنوش..
وفيكي خمري يا إسكندرية..
سلمت امري يا إسكندرية..
مقدرش اشوفة وما اغنيلوش"..
" أحمد فؤاد نجم "..
(٣)
تمثال " سعد زغلول" يقف شامخا في " محطة الرمل".. مجموعة من الشباب يلتفون حوله لإلتقاط الصور " السيلفي".. ربما لا يعلم جلهم قصة الزعيم ولا مسيرته أو تاريخه.. فقط بضعة ذكريات يحرصون على نقشها على جدار العمر بلقطة أو حكاية.. كثيرون قد يسخرون منك لو حدثتهم عن ذلك الكائن" المطربش".. من يحتفي بالتاريخ الآن؟. من ينقب ويبحث بدأب بين دفات الكتب في عصر تغول وسائل التواصل الإجتماعي؟..
بعض المباني المتباينة الطراز تتراص في تناسق غريب.. إنها جزء لا يتجزأ من سحر هذه المدينة " الكوزموبوليتية" العريقة..
أمام فندق " سيسل" التاريخي تقبع مقاهي " تريانون" و " ديليس".. عبق الإسكندرية القديم.. المقاعد الجلدية العتيقة.. التماثيل والصور المنتشرة على الجدران.. ماكينات القهوة والشاي القديمة.. كأنك عدت قرنا كاملا للوراء.. يأتي " النادل" بزيه الوقور و" الفوطة" البيضاء ملتفة حول ساعده يسألك بأدب عن طلبك.. علي تلك المنضدة المنزوية هناك يجلس عاشقين صغيرين.. يحلقان في عيون بعضهما البعض.. حديثهما الهمس.. منعزلان عن الكون وصخبه.. تلك اللحظات الساحرة التي مرت من العمر وبقيت محفورة في القلب والوجدان.. آه من هذا الزمن.. كيف مرت أيامنا ومرقت بتلك السرعة والغفلة؟..
" فى قهوة على المفرق..
في موقد وفيه نار..
نبقى أنا وحبيبي..
نفرشها بالأسرار..
جيت لقيت فيها..
عشاق إتنين صغار..
قعدوا على مقعدنا..
سرقوا منا المشوار.."..
تلك البدوية ذات العباءة السوداء والسلاسل النحاسية الكبيرة التي تزين الصدر " نبين البخت.. ونقرأ الودع".. أسلم بعضهم كفوفهم إليها وهي تمر عليها بإصبعها قارئة المستقبل والمصير..
الخوف الدائم للإنسان من المستقبل يجعله يحاول دوما فك طلاسمه..قارئة الودع بالطبع تبشر ولا تنفر.. ذلك يضمن لها منحة من النقود أكثر سخاء.. يتذمر البعض من تلك الجنيهات القليلة التي تحصل عليها من " الدجل".. كم من تجار أحلام تاجروا بنا وحصلوا على الثروات الطائلة.. دجالون هم أكثر أناقة وأهيب طلة.. لكنهم يسرقون المستقبل.. ذلك الكائن الغامض الذي يهابه الجميع..
(٤)
بعض من الصيادين يقفون هنا وهناك.. إذا كنت في شك من الرزق فأرجع البصر مرة أخرى.. منتثرون رهط على الصخور الطحلبية.. الموج الهادر يصل مرفأه الأخير مصطدما بالصخر ليتشظي قطرات بلا حصر.. بعضها يلتصق بالجسد واهبا إياه إنتعاشة إستثنائية مباغتة.. قطرات أخرى تهبط بعد إرتفاع ساربة بين الصخور المتراكمة.. عائدة إلى البحر.. تائهة فينة ثانية في لجته.. ستلقي ذات المصير مرة ومرات أخرى.. هل هناك مفر من القدر؟.. قطرات إستكانت على الطحالب اللزجة وإمتزجت بها.. تتوهم أنها تختار حياة جديدة ومصير آخر.. موجة عملاقة قادمة تسحقها وتمحق سكنها الجديد ساحبة إياهم نحو عمقها السحيق.. صياد عثر الحظ يحاول تخليص خيطه من بين الصخور..
جمع آخر من الصيادين يقف على الألسنة الصخرية الوليدة التي صنعتها يد الإنسان القادر على إنتهاك حرمة كل شئ.. يستندون بظهورهم على جدران " المطاعم" و " الكافيهات" المتلاصقة وتحتل اللسان.. جلبة البشر وضجيجهم يعج به الممشى.. دقات الموسيقى الصاخبة تصم الآذان.. يجلس الصيادون غير عابئين بالجلبة...هذا يحكم تثبيت طعمه.. وذاك ينظر بتركيز لقائم سنارته.. وثالث يخلص سمكة غافلة بحرص ودربة واضعا إياها في حقيبة من الخوص..
تلك الأسماك الساقطة في الفخ تتملص راقصة في ضوء الشمس الذهبي.. ترقص رقصة الموت الأخيرة.. مالذي جذبها إلى هذا الطعم؟.. الحاجة.. الجوع.. حب المغامرة؟.. هل لو كانت تعلم أن وجبتها الأخيرة فيها الردي والهلاك..هل تراها كانت لتقدم على إلتهامها؟.. أحد الصيادين سقط في شصه سمكة صغيرة.. خلصها من الفخ بهدوء وألقاها في البحر مرة أخرى.. ربما وجدها غير صالحة للطعام.. قد يكون أشفق عليها.. المهم أنه وهبها فرصة الحياة مرة أخرى.. هل تعي الدرس وتتعظ ولا تسقط في فخ جديد؟.. من المستبعد ذلك رغم الجراح والدماء التي تسيل من فمها.. يقولون إنها ذاكرة السمك _ قصيرة دائما لا تنقش التجربة والدرس _.. ذاكرتنا ليست بأفضل منها كثيرا.. ليست الناجية.. نعود أحيانا لذات الفخ بإرادتنا وإن تجمل وتلون وتزين.. لسنا بالأفضل في هذا العالم.. لكننا الأقوى.. والأقصز ذاكرة أيضا..
بعض السماكين يفضلون عرض بضاعتهم من السمك في أحواض أحياء ينتفضون.. ذلك دليل على الطزاجة والجودة.. عزيزي الكائن البشري.. هل تفضلها مشوية أم طازجة أم مغمورة في طاجن؟.. تنبه وأنت تلتهم الفصوص البيضاء الشهية بأن هناك من يلتهم عمرك وأحلامك وأيامك أنت الآخر وبتفضيلاته .. هكذا تدور الحياة وتسخر .. كائنات تتسلط على أخرى.. و مخلوقات تتسيد وتسيطر على مخلوقات.. من أقصر وأمحي؟.. ذاكرة السمك أم الإنسان؟..