- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: هل ينحدر النظام السياسي في أمريكا إلى الانقسام والخلل الوظيفي؟
لطفي العبيدي يكتب: هل ينحدر النظام السياسي في أمريكا إلى الانقسام والخلل الوظيفي؟
- 18 أغسطس 2023, 1:32:03 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الانقسام داخل أمريكا في الوقت الراهن قائم على أسس أيديولوجية وثقافية واقتصادية. وهناك شعور واضح بالأزمة في الديمقراطيات الغربية عموما، بدءا من صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية في عدة أجزاء من أوروبا، وتآكل الضوابط والتوازنات الدستورية في المجر وبولندا، بشهادة دول أوروبية نفسها. وأيضا التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما رافق وصول دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، ومسارات التحول المعادي للديمقراطية، ومعاناة المهجرين والأقليات واللاجئين، ومشاكل حقوق الإنسان وتغييب مبادئ القانون الدولي الإنساني.
أثار الحزب الجمهوري الأمريكي تحت قيادة ترامب انزعاجا كبيرا بشأن وضع الديمقراطية وآفاقها المستقبلية. ويبدو أنه ما زال كذلك بالنظر إلى إصراره على خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. إذا تعثرت الديمقراطية، فإن تآكلها أو انهيارها يجب أن يعزى بطريقة ما إلى أخطاء الرأي العام، في تقدير أستاذ العلوم السياسية والقانون لاري بارتلز. بغض النظر عما إذا كان المنطق يمضي قدما، من تقلبات الرأي العام إلى عواقبها المفترضة، أو إلى الوراء، من فشل المؤسسات الديمقراطية إلى أسبابها، فإن الارتباط المنطقي الذي يحكم العلاقة بين الرأي العام وأزمات الديمقراطية توفره «النظرية الشعبية» التي عبر عنها إبراهام لنكولن «حكومة الشعب، من الشعب، لأجل الشعب».
الاستقطاب الحاد بين الحزبين الأمريكيين وما يقال عن تسييس القضايا وتحييد الخصوم أحد مظاهر الأزمات البنيوية داخل المجتمع السياسي الذي يزيد «ديمقراطيتهم» تعثرا
يُشار في أمريكا إلى أن الديمقراطيين والجمهوريين يشوهون بعضهم بعضا، ويقوضون سياسات بعضهم، ويتآمرون على بعضهم، ترامب وأنصاره ما زالوا يعتبرون أنفسهم محميين من الانتقاد ليس بفضل قوة آرائهم، بل بسبب الخصائص المميزة لمن هم كفئة ذات هوية معينة تقيم الفوارق بينها وبين الفئات الاجتماعية، على أساس ما لديها من شكاوى وتظلمات. وعلى الرغم من أن سياسة الهوية نشأت بين المنظرين الليبراليين على الشق المقابل من المعترك السياسي، فإن مؤيدي ترامب الذي يلاحق قانونيا بتهم عديدة، يقول عنها إنها مسيسة، يعتمدونها في تصوير أنفسهم على أنهم الضحية. تلك هي المشكلة التي أشار لها كيم هولمز، بين الهويات السياسية المستقطبة والمؤسسات السياسية المستقطبة هي الأخرى، التي تقود النظام الأمريكي نحو الأزمة. وبصفته سياسيا مخضرما، يدرك الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أن التفويض الذي يناله زعماء الدول بالحكم، يستند إلى قدرتهم على تحسين ظروف معيشة شعوبهم، وأن أي محاولة لإجبارهم على الاختيار بين علاقة عسكرية مع أمريكا توفر لهم الأمن، وعلاقة اقتصادية مع الصين، وهي ضرورية لرفاهيتهم، «لا يقوم بها إلا أحمق». في الأثناء، أوضح صانعو السياسة في الولايات المتحدة أنهم يعتزمون إبقاء الصين متأخرة جيلا واحدا على الأقل في السباق على تفوق الذكاء الاصطناعي يبدو أنهم يتغافلون عن الواقع، فمنذ سبعينيات القرن الماضي حتى نهاية 2019، لم تسجل الصين، حسب كثير من التقديرات نموا أقل من 5% سنويا، بينما لم تسجل الولايات المتحدة نموا فوق 5%. فيما تظل واشنطن تعتبر تحالف بكين وموسكو تهديدا متصاعدا لهيمنتها العالمية، وهي مشغولة به. «التفوق على الصين هو المهمة الرئيسية للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي في العقود المقبلة». تصريحات بايدن هذه تأتي من إدراكه العميق بخطورة التحدي الصيني، فبكين في عهد ترامب، كما في فترة الرئيس الحالي تمثل التحدي الاستراتيجي الرئيسي لمكانة الولايات المتحدة ودورها في العالم. في وقت حذر فيه مهندس الانفتاح الأمريكي على الصين هنري كيسنجر، من أنه ما لم يجد البلدان تفاهما استراتيجيا جديدا، فسيظلان في مسار تصادمي، وكلما كان التجمد في العلاقات أعمق زاد خطر حدوث تصدع عنيف. مسارات جائحة كوفيد 19 وتأثيراتها في المحيط الدّولي، والعلاقات بين السلطة والأفراد، وتداخلات الفواعل الدولية في بناء عالم ما بعد كورونا، هو أمرٌ يحتّم نزوعا لحظيا نحو الصراع بدل التوافق، وسينتج عنه تراجع قوى عالمية على حسابِ اتحادات جهوية وإقليمية على نحو إعادة تشكيل العالم بفواعل دولية قديمة لا تتغيّر استراتيجيتها القائمة على القوة والسيطرة والتّحكم. في السياق ذاته، المتاعب الحقيقية في أمريكا تتأتى بسبب «الإحباط والسخط والغضب المبرّر وغياب أي استجابة متماسكة». استشعر ذلك المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، وأيضا المؤرّخ الأمريكي نيل جابلر ومايكل ليند وغيرهم، فأولئك الذين أنشأوا النظام الحاكم، واستفادوا منه، يعملون بلا هوادة للحفاظ عليه، حتى لو تطلّب ذلك تشديد القمع والتّسلط من أجل الحفاظ على المزايا نفسها. بينما تعمل القوى الشعبية في جميع أنحاء العالم على خلق مجتمع أكثر عدلا وإنسانية. إنها نوع من الحرب الطبقية على نطاق عالمي، مع نتائج غير مؤكدة. والنظام السياسي القديم ينهار، فيما يولد نظام سياسي أمريكي جديد. والتحالفات الحزبية التي حددت الفرق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لعقود منذ منتصف القرن العشرين انهارت منذ فترة طويلة. وعلى مدى نصف القرن الماضي، تغيّرت تكتلات الناخبين الذين كانوا يصوتون لهما تقليديّا تبعا للتحولات الأيديولوجية والديمغرافية والاقتصادية والجغرافية والثقافية. وإعادة تجميع الائتلافات الديمقراطية والجمهورية الجديدة على وشك الانتهاء. أصدق مفكريهم، نعوا «وفاة الديمقراطية الأمريكية»، وذلك في فترة حكم دونالد ترامب أساسا. هل ما يجري في أمريكا اليوم أزمة في بنية النظام السياسي؟ أم أزمة اقتصادية ستُفقد أمريكا مكانتها العالمية؟ وهل ينحدر النظام السياسي في الولايات المتحدة إلى الانقسام والخلل الوظيفي فعلا؟ يبدو أن أهمّ ما يحرّك ترامب في تصريحاته وقراراته المثيرة للجدل أثناء فترة حكمه، أو خارجه هو نرجسية الرجل القوي، الذي يعتقد أن من الممكن تحويل قدرته على إبرام الصفقات المالية والتحايل على الطرف الآخر إلى التوصل لصفقات سياسية والتعالي على رؤساء الدول. وتصوير ترامب لهذه الانشطارية بين نحن وهم، ليست عفوية أو بريئة، في تقدير محمد الشرقاوي، بل تعكس منحى آخر من مناحي التسخير أو الاستغلال الأيديولوجي لخطاب الشعبوية في تضخيم الانطباع العام بشأن الهوّة الفعلية، أو المفترضة بين النخبة السياسية في واشنطن وعامة الشعب الأمريكي، على امتداد القارة، وهي بذلك تمثل امتدادا للمنطلق الغوغائي الذي تبناه ترامب منذ البداية، وإحدى أوراق اللعب التي استقطب بها أنصاره، حتى بين فئات المتعلمين، ويخلص البعض إلى أنّ ترامب يظلّ مروّج النرجسية المتطرفة لما كان يعرف بجيل الأنا، الذي بدأ يظهر في السبعينيات من القرن الماضي، بين من اعتبروا أنفسهم مركز العالم، وترعرعوا على تصرّفات صبيانية ضد اللياقة السياسية خلال إقامتهم في حرم الجامعات، وسميت هذه النزعة بثقافة الأصالة.
في المحصلة، القوى الهيكلية والنفسية وراء انحدار أمريكا إلى الانقسام والخلل الوظيف،. كما يراها الباحث السياسي إزرا كلين. أمريكا مستقطبة، أولا وقبل كل شيء، من خلال الهوية، كل من يشارك في السياسة الأمريكية ينخرط، على مستوى ما، في سياسات الهوية. ومن الطبيعي أن تظهر أعراض «أزمة الديمقراطية» وتتفاقم، بما في ذلك السخط الاقتصادي، والكراهية تجاه الهجرة والتكامل الأوروبي، والاستقطاب الأيديولوجي، وعدم الثقة في سياسة النخب، وعدم الرضا عن طريقة عمل الديمقراطية نفسها. ويبقى الاستقطاب الحاد بين الحزبين وما يقال عن تسييس القضايا وتحييد الخصوم أحد مظاهر الأزمات البنيوية داخل المجتمع السياسي الأمريكي الذي لن يزيد «ديمقراطيتهم» إلا تعثرا.
*كاتب تونسي