- ℃ 11 تركيا
- 26 ديسمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: الاستقرار العالمي يحتاج إلى وجود توازن للقوة وليس للهيمنة
لطفي العبيدي يكتب: الاستقرار العالمي يحتاج إلى وجود توازن للقوة وليس للهيمنة
- 22 سبتمبر 2023, 1:51:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ما من شك في أن للعبة إدارة التنافس عواقب بشرية لا تقل دمارا عن نشوة القوى العظمى بالنصر خلال التسعينيات من القرن الماضي. والولايات المتحدة دخلت حقبة جديدة، حيث لم يعد بإمكانها تغيير الأنظمة الحاكمة، لا بقوة السلاح ولا بفعل العقوبات.
التفوق العالمي للجيش الأمريكي كان الصخرة التي بنيت عليها استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، وسياستها الأمنية لأكثر من 3 عقود، مع ذلك درجة الانحدار النسبيّ لن تكون كما لو أنّها نهاية العهد الأمريكيّ. ومن المؤكد أنّ تراجع الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي في السنوات الأخيرة، بالتزامن مع صعود قوى أخرى في مقدمتها الصين، ستكون له عواقب وخيمة على التفاعلات السياسية والسلم والحرب في العالم.
انتهت لحظة القطب الواحد، والولايات المتحدة لن تكون قوية كما كانت في الماضي، ومستقبل قيادتها للعالم، ربما يعتمد في نهاية الأمر على مدى قوة الموارد واستمراريتها
ما فعله الناتو هو دفع خطوط المواجهة نحو الشرق، وكانت مناشدات روسيا بالتفاوض على البنية الأمنية لشرق أوروبا تقع على آذان صماء. أما الآن فلم تعد تقع على آذان صماء، وقد حشّد الروس عشرات الآلاف من الجنود على الحدود مع أوكرانيا وداخلها، وبات من المؤكد أنّ أي خطأ استراتيجي سيكون خطأ أوروبا الغربية الأخير. واشنطن اكتشفت عدم جدوى القوة، وعليها الآن أن تسقط العصا من يدها وأن تبدأ بتوزيع الجزر. عليها أن تتولى حسب دافيد هيرست، مهمة حل النزاعات حول العالم، ولا ريب في أنها مهمة مستعجلة، وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، جنت في العام الذي شارف على الانتهاء، حصادا مرا من أخطاء ارتكبها أسلافه على صعيد السياسة الخارجية. في الأثناء، يتقبل قادة الولايات المتحدة حقيقة مفادها أن الصين لن تتلاشى، وأن شي جين بينغ لن يتخلى عن أهدافه، وأن التفوق العسكري الأمريكي لم يعد مضمونا، لكن التركيز على حملة الردع قد يكون هو السبيل الوحيد للتعايش السلمي في عالم لم تعد الولايات المتحدة تهيمن عليه. وفي وقت ما زال أنصار استراتيجية الردع يرون أن أفضل طريقة لردع بكين، هي جعل غزو تايوان غير ممكن من خلال حشد القدرة الضاربة الكافية في المنطقة لإقناع الرئيس الصيني بأن الهجوم سيفشل. الولايات المتحدة تحركت بسرعة لإعادة الاستقرار داخل العالم الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أطلقت مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك الأحلاف الدفاعية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما جعلها تقود العالم ضمن ما بات يعرف بمصطلح «السلام الأمريكي» المقتبس من المصطلح القديم المعروف باسم «السلام الروماني»، الذي يعود إلى عصر هيمنة الإمبراطورية الرومانية القديمة على العالم، لكن كثيرا من المراقبين من أمثال المحلل السياسي الألماني أندرياس كلوث، يؤكدون أن هناك مخاوف من لحظة انتهاء دور أمريكا كقائد للعالم، على اعتبار أن التراجع الأمريكي يعود إلى «التمدد الامبراطوري» المفرط، أو لانكماش نصيب أمريكا من الاقتصاد العالمي، وغير ذلك. فمع انتشار التكنولوجيا، والتحديات العالمية، تآكل التفوق العسكري لصالح الصين. ومن المؤكد أن التوجه شرقا لم يكن يُقصد منه إنهاء حرب باردة واحدة، وإشعال حرب باردة أخرى مع الصين، إلا أن ذلك ما هو حادث بالفعل. ليس بوسع بايدن أن يقرر ما إذا كان يرغب في تهدئة الرئيس الصيني، أو مواجهته، ولكن من المؤكد أن فعل الأمرين معا بالتعاقب لن يجدي نفعا. ونرى كيف يحاول جو بايدن مهادنة الرئيس الصيني الغائب عن المؤتمرات الدولية، وكيف يسعى إلى تلطيف الأجواء رغم عدم حضور تشي في قمم المجموعات وأيضا في الجمعية العامة. لقد خاضت الولايات المتحدة العديد من الحروب منذ نهاية ما يسمى بفترة ما بعد الحرب: كوريا وفيتنام وكمبوديا ولاوس وأفغانستان ويوغوسلافيا والعراق وليبيا وسوريا واليمن، والآن أوكرانيا. والهدف الخفي ليس كسب الحرب، ولكن تنظيم تدمير دول بأكملها، وإحداث فوضى سياسية واجتماعية بهدف «التقاط القطع» والسيطرة على الاقتصادات الوطنية للدول القومية ذات السيادة. ويتم تنفيذ هذه الأجندة أيضا من خلال تغيير النظام و»الثورات الملونة» والاختفاء المتزامن، وتجريم جهاز الدولة، جنبا إلى جنب مع الطلب الاقتصادي القوي، وفرض ديون كبيرة مقومة بالدولار. والآن ما يحدث في أوكرانيا هو «الخصخصة التامة» لبلد بأكمله بتعبير فيكتوريا نولاند مستشارة الرئيس بايدن للشؤون الخارجية. والهدف الرسمي للولايات المتحدة من أوكرانيا الآن هو جذب استثمارات خاصة بمليارات الدولارات للمساعدة في مشاريع إعادة الإعمار في بلد مزقته الحرب. إنه برنامج ربحي، التدمير يؤدي إلى إعادة الإعمار. وما هو على المحك هو التدمير الاقتصادي والاجتماعي للدول القومية ذات السيادة. الدائنون موجودون هناك لالتقاط القطع والحصول على الثروة الحقيقية، لقد بات محتملا جدا حسب دافيد هيرست أن يندلع صراع عالمي تشارك فيه جيوش حقيقية، وتستخدم فيه أسلحة حقيقية، بل تستخدم فيه أسلحة دمار شامل. ناهيك عن أننا في زمن غدت فيه القوى العسكرية في العالم أفضل وأحدث تجهيزا من أي وقت مضى، ولديها القابلية والاستعداد للمضي قدما في إبداعاتها الخاصة في هذا المجال. ويحسن بواشنطن أن تتأمل في خريطة العالم، وأن تفكر قبل أن تقدم على الخطوة التالية. ثمة حاجة إلى فترة طويلة من التدبر، حتى الآن لم يخل صراع انهمكت فيه الولايات المتحدة خلال قرن مضى من الزمن من خطأ فادح، رغم الخطاب الدافئ الذي يرى من خلاله أمثال جوزيف ناي، أنّ هناك عقبات حقيقية تقف في وجه التحالف الروسي الصيني، تتجاوز حدود التنسيق الدبلوماسي التكتيكي، فالصين كقوة صاعدة لديها ما تكسبه أكثر من روسيا في الوقت الراهن، من ضمن ذلك الدخول إلى التجارة والتكنولوجيا الأمريكية. علاوة على ذلك لا تزال هناك بقايا من عدم الثقة التاريخية بين روسيا والصين، فهما تتنافسان في تأثيرهما في آسيا الوسطى، وأثار غضب الروس وجهة نظر الصين التجارية التي ترى أن التبادل التجاري بينهما هو تبادل الصناعات مقابل المواد الخام.
انتهت لحظة القطب الواحد، والولايات المتحدة لن تكون قوية كما كانت في الماضي، ومستقبل القيادة الأمريكية للعالم، ربما يعتمد في نهاية الأمر على مدى قوة الموارد واستمراريتها. أما مسارات القوى المنافسة، والاستقرار العالمي فيحتاج إلى وجود توازن للقوة، وليس للهيمنة. وتبقى الصين هي الدولة الوحيدة المرشحة لتحل مكان الولايات المتحدة، نظرا إلى المتطلبات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والنووية للدولة المهيمنة.
كاتب تونسي