- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: في مخاطر الانتخابات الديمقراطية دون ديمقراطيين
عمرو حمزاوي يكتب: في مخاطر الانتخابات الديمقراطية دون ديمقراطيين
- 18 يناير 2022, 3:49:34 م
- 542
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يستحق النقاش الدائر اليوم في الأوساط الفكرية والأكاديمية الغربية حول مقومات الحفاظ على استقرار الحكومات الديمقراطية وشروط التحول نحو الديمقراطية المتابعة. فعالمنا المعاصر يتقلب بين غرب ديمقراطي تتعرض حكوماته لصدمات شعبوية متتالية وشرق تتجدد سلطويته وجنوب يراوح بين تحولات ديمقراطية ناجحة وأخرى فاشلة.
فقد مر العديد من مجتمعات أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا في الثلث الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين بتحولات سياسية متتابعة أبعدتهم عن أنماط الحكم الديكتاتورية والسلطوية، وأنتجت ترتيبات جديدة لإدارة العلاقة بين الدولة والمواطنين اتسمت بالانفتاح السياسي والتنافسية.
منذ سبعينيات القرن الماضي، شرع مفكرون وأكاديميون غربيون في طرح تساؤلات حول ما إذا كان يتعين على حكوماتهم تشجيع تلك التحولات ودعمها كي تؤسس لنظم حكم مستقرة ذات طبيعة ديمقراطية ليبرالية. تصاعد اهتمام الغرب بدعم التحول نحو الديمقراطية الليبرالية خارجه ليصل إلى حدوده القصوى في بداية التسعينيات بعد انهيار حكم الأحزاب الشيوعية في مجتمعات أوروبا الوسطى والشرقية وتبنيها ليافطات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق، واستحال من ثم إلى قناعة بالحتمية التاريخية لانتصار الديمقراطية الليبرالية عالميا.
غير أن أمورا كاستمرار الاستعصاء الديمقراطي في بعض الدول الكبرى كروسيا الاتحادية والصين على الرغم من تبني الدولتين لاقتصاد السوق وكذلك تعثر التحول نحو الديمقراطية في بعض أقاليم العالم الحيوية كالشرق الأوسط وآسيا الوسطى على الرغم من انتفاضات العرب الشعبية في 2011 وتنظيم انتخابات دورية وتنافسية في بعض بلدان آسيا الوسطى، مثل هذه الأمور رتبت تدريجيا كبح جماح التفاؤل الغربي بانتصار الديمقراطية الليبرالية ودفعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة والحكومات الأوروبية إلى اختزال الاهتمام بدعم الديمقراطية في الخارج إلى مجموعة بسيطة من الأدوات والممارسات هدفت لحماية حقوق الإنسان والحريات المدنية وتفاوتت حظوظها من الفاعلية من إقليم إلى آخر ومن دولة إلى أخرى.
مثل هذا المد والجذر في الغرب بشأن فرص التحول نحو الديمقراطية خارجه يشكل الإطار الفكري والأكاديمي للنقاش الدائر حول شروط التحول نحو الديمقراطية وما يندرج تحته من إحالات إلى خبرات المجتمعات المعاصرة في شرق أوروبا والبلقان وبلادنا العربية. والفكرة الجوهرية هنا هي أن نجاح التحول نحو الديمقراطية يستلزم تحقق مجموعة من الشروط المجتمعية والسياسية المسبقة، أهمها سيادة حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة الوطنية وحياديتها التي بدونها تتحول آليات وظواهر كالانتخابات الدورية وتداول السلطة والتعددية الحزبية وتنوع كيانات المجتمع المدني إلى واجهات خالية من المضامين والنتائج الديمقراطية.
في هذا السياق تستدعى حالات مجتمعات عربية كالعراق ولبنان والمغرب للتدليل على أن تنظيم الانتخابات التشريعية الدورية كآلية لإدارة التنافس السياسي في مجتمعات لم يستقر بها بعد حكم القانون وتعاني إما من غياب الحيادية والفاعلية عن مؤسسات الدولة أو من هيمنة التشكيلات الطائفية والعرقية ليس له إلا أن يؤدي إلى تعميق التوترات المجتمعية والسماح للصراعات بين النخب السياسية والاقتصادية بأن تغزو كامل الفضاء العام وتضعف إلى حد الإلغاء الدولة الوطنية. لا تداعيات إيجابية إذا لتنظيم الانتخابات في العراق ولبنان والمغرب طالما استمرت الظروف الراهنة، والأجدر بالنخب السياسية والاقتصادية في البلدان الثلاثة أن تعكف على التأسيس لحكم القانون ولبناء الدولة الوطنية القادرة ذات المؤسسات المستقرة والحيادية عوضا عن إضاعة عوائد المجتمع ووقت المواطنين في انتخابات تشريعية لا طائل من ورائها.
ضعف حكم القانون وشيوع الفساد يقللان من فرص النمو الاقتصادي المتوازن ويهددان التوافق المجتمعي مما يلزم بتفضيل التحول التدريجي والمنظم نحو الديمقراطية
بجانب حكم القانون واستقرار مؤسسات الدولة، ثمة عوامل قانونية وسياسية ومؤسسية أخرى يشار إليها أيضا كشروط مسبقة للتحول نحو الديمقراطية مثل التسليم العام بشرعية الدولة المعنية في حدودها المتعارف عليها وبرباط مواطنيتها المحدد في إطارها الدستوري والقانوني وتنوع النخب السياسية والاقتصادية الممارسة للسلطة على المستويات الوطنية والمحلية على النحو الذي يضمن عدم تركز السلطة في قبضة القلة ويؤدي إلى شيء من الفصل والرقابة المتبادلة بين ممارسي السلطة ويخدم من ثم الصالح العام. ففي العراق ولبنان والسودان واليمن على سبيل المثال مازال التنازع حول طبيعة وهوية الدولة حاضرا بقوة، وعلاقة رابطة المواطنة بالولاءات الأولية للجماعات العرقية والمذهبية لم تحسم مؤسسيا بعد. تقارن خبرات البلدان العربية الأربعة بحالة مجتمعات أوروبا الغربية التي استقرت بها الدول الوطنية وقبلت شرعيتها شعبيا قبل قرون من تحولها نحو الديمقراطية. كذلك يقارن تركز السلطة في بلدان كالجزائر ومصر والأردن ودول الخليج في يد القلة وتتعاقب على حكمها إما نخب تقليدية أو نخب عسكرية وأمنية، وما ينتجه تركز السلطة من طغيان للأجهزة التنفيذية وضعف بين في أدوار واختصاصات المؤسسات التشريعية وفي استقلالية المؤسسات القضائية، تقارن كافة هذه الأمور بتعددية شبكات النفوذ والسلطة السياسية والاقتصادية في مجتمعات أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية قبل انجاز التحول نحو الديمقراطية.
ثم هناك شرط مسبق إضافي آخر يتجاوز حدود القانوني والسياسي والمؤسسي باتجاه المجتمعي العام، ويتعلق بحتمية توفر درجة من النمو الاقتصادي ومن تماسك الطبقة الوسطى كأمر لا غنى عنه لانجاز التحول نحو الديمقراطية ولاستقرار الحكم الديمقراطي. واللافت هنا هو أن نفرا غير قليل من علماء السياسة المساهمين في النقاش حول شروط التحول نحو الديمقراطية يجزم، وبعض الخبرات التاريخية والمعاصرة يعضد مثل هذا الطرح، بأن نظم الحكم السلطوية أقدر من النظم المتحولة حديثا نحو الديمقراطية على ضمان النمو الاقتصادي وتطوير المرافق الرئيسية كالتعليم والصحة والخدمات المدنية التي تحتاجها الطبقة الوسطى للازدهار.
كثيرة هي المقارنات التي يوظفها ذلك النفر من علماء السياسة، بين سنغافورة المدارة سلطويا والناجحة بامتياز على مختلف الأصعدة المعيشية وبين جنوب أفريقيا التي تحولت ديمقراطيا لتتعمق إخفاقاتها الاقتصادية والاجتماعية، وبين فنزويلا بديمقراطية حياتها السياسية منذ الخمسينيات وتوتراتها المجتمعية وانقلاباتها العسكرية التي لا تتوقف وشيلي التي مرت بفترة ديكتاتورية قاسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلا أنها تمتعت بمعدلات نمو اقتصادي عالية مكنتها من التحول لاحقا بنجاح نحو الديمقراطية. وفي العالم العربي، يقابل الثمن الاقتصادي والاجتماعي الباهظ الذي تحملته الجزائر في التسعينيات حين أدخلت بعض الإصلاحات الديمقراطية «المتعجلة» بأوضاع الجزائر في السبعينيات والثمانينيات، والمؤشرات المعيشية في تونس قبل الإطاحة بزين العابدين بن علي بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وأيضا مصر قبل 2011 وبعد 2013 على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية حيث تعثر التحول الديمقراطي بفعل مقاومة مؤسسات الدولة القوية وخطايا القوى السياسية وانهارت مرافق مجتمعية حيوية.
توظف الخبرات المعاصرة للتحذير من اختزال البناء الديمقراطي في تنظيم لانتخابات دورية وتداول للسلطة دون اعتبار لمجمل العوامل القانونية والسياسية والمؤسسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعين حضورها كشروط مسبقة لضمان نجاح واستقرار التحول الديمقراطي. غير أن المسكوت عنه يتمثل، من جهة، في تجاهل تحولات ديمقراطية ناجحة حدثت واستقرت دون أن يتحقق جميع أو بعض الشروط سالفة الذكر، إن في الهند الفقيرة أو في سويسرا وكندا بالتنازع الذي استمر إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بين الجماعات العرقية المكونة لهما على طبيعة وهوية الدولة أو في اليابان التي لم يحضر بها التنوع في مراكز السلطة السياسية وشبكات النفوذ الاقتصادية قبل أن تفرض عليها المؤسسات الديمقراطية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
من جهة أخرى، يصمت المحذرون من اختزال البناء الديمقراطي في انتخابات دورية وتداول للسلطة، يصمتون عن حقيقة ضعف حكم القانون ومؤسسات الدولة الوطنية في الكثير من المجتمعات المستبدة والسلطوية. يصمتون أيضا عن انتفاء مصلحة نخب الحكم في دعم نشوء حكم قانون قوي ومؤسسات دولة فعالة ومحايدة خوفا من الانتقاص مستقبلا من امتيازات النخب وتداعيات ذلك الأمر بالغة السلبية لجهة شيوع الفساد وغياب عدالة الحد الأدنى الاجتماعية. يصمتون، أخيرا، عن كون ضعف حكم القانون وشيوع الفساد يقللان من فرص النمو الاقتصادي المتوازن ويهددان التوافق المجتمعي مما يلزم بتفضيل التحول التدريجي والمنظم نحو الديمقراطية على الرغم من عظم المخاطر.
كاتب من مصر
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"