- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: حد أم ترشيد للمقولات العنصرية؟
عمرو حمزاوي يكتب: حد أم ترشيد للمقولات العنصرية؟
- 5 يوليو 2022, 4:02:07 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان علي أن أظل جالسا وأن أتظاهر بالإنصات إلى المتحدثين المشاركين في حلقة النقاش الجامعية التي قدمت من أجلها. على الرغم من أن العنوان التليفزيوني للحلقة «الشرق الأوسط بين خطر الهجرة غير الشرعية والارتحال وطلب اللجوء: ما العمل؟» أثار هواجسي وكاد أن يدفعني إلى البقاء بعيدا، إلا أن الصداقة التي تجمعني باثنين من المتحدثين ألزمتني الحضور.
بحثت عن مقعد في الصفوف الخلفية للقاعة التي توسطتها مائدة مستديرة، وارتفعت يد تحييني وتشير إلى مكان خال بجوار صاحبها في الصف الأخير. تذكرته على الفور، هو زميل دراسة سابق في قسم العلوم السياسية بجامعة برلين الحرة عرف عنه الانتماء إلى العديد من الحركات اليسارية والمشاركة الدائمة في التظاهرات المدافعة عن حقوق الأجانب واللاجئين وعمل بعد إنجازه لأطروحة الماجستير في صحيفة يسارية (ألمانيا الجديدة) ولم يتخل أبدا عن لهجته الألمانية الشرقية (اللهجة الساكسونية). جلست إلى جواره بعد عناق قصير وتبادل قليل من الكلمات عن مفاجأة اللقاء بعد كل تلك السنوات، شغلتني لوهلة علامات تقدم العمر التي بدت عليه ومر بداخلي الخوف من تقدمي في العمر والوحدة التي صارت بفعل اختيارات كانت لي وظروف للحياة فرضت علي رفيقة تنقلاتي المحمومة، طفت أمام عيني الصورة الفوتوغرافية للفيلسوف الإيطالي نوربيرتو بوبيو في تسعينياته التي تتصدر الغلاف الأحمر لكتابه «عن الشيخوخة» (https://images-na.ssl-images-amazon.com/images/I/319SQUISRiL._SX322_BO1,204,203,200_.jpg) ثم تطايرت دون أن أتذكر ملامحه بوضوح. ألقت بداية الجلسة النقاشية بسترها الحاجبة على مخاوفي فأسكتتها، وضعت ابتسامة فاترة على وجهي واستجمعت طاقتي العقلية لمتابعة مداخلات المتحدثين.
كانت الدقائق الأولى تمضي متثاقلة والكلمات التي تشكلها أفواه المتحدثين تؤكد لي عبث النقاش الأكاديمي عن الشرق الأوسط حين يختزل في عموميات لا تراعي من جهة خصوصيات بلدانه المختلفة وتمايز أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا تعتبر من جهة أخرى بغير الهجرة غير الشرعية والارتحال بعيدا عن مجتمعاتنا كظواهر مشكلة للحقائق الكبرى لحياتنا كعرب وشرق أوسطيين.
لا إشارة إلى المعدلات المنخفضة للتنمية الإنسانية في العديد من المجتمعات ولا إلى تطورها الإيجابي في بعضها (مجتمعات الخليج وعلى مستويات التنمية الاقتصادية والأمان الاجتماعي مصر خلال السنوات الماضية). لا اكتراث بالانهيارات المتكررة لمؤسسات الدولة الوطنية ولا صراعات الحكومات المتصاعدة بلاد العرب والشرق الأوسط على الموارد المائية الشحيحة إلا بما يخدم تناول مسألة الهجرة غير الشرعية والارتحال. لا اهتمام بالأزمة الاقتصادية العالمية التي أنتجتها جائحة كورونا وتلتها الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها على تدهور الأوضاع المعيشية في عموم مجتمعاتنا، من المغرب مرورا بمصر وإلى العراق وباستثناء وحيد هو بلدان مجلس التعاون الخليجي. لا تفكير ممنهج في مسألة التغير المناخي وآثارها المتمثلة في المزيد من الضغوط على الموارد ومزيد من التهميش والمعاناة الاجتماعية بين ظهرانينا.
عبث النقاش الأكاديمي عن الشرق الأوسط حين يختزل في عموميات لا تراعي من جهة خصوصيات بلدانه المختلفة وتمايز أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا تعتبر من جهة أخرى بغير الهجرة غير الشرعية
ثم بدا لي من بعد ما رأيت آيات إعجاب الجمهور بالعموميات الملقاة باتجاههم وتقديرهم «للوضوح» الذي تناول به المتحدثون «قضايا الشرق الأوسط المعقدة» (خلال مداخلاتهم، كرر المتحدثون كثيرا استخدام تلك العبارة أو تنويعات عليها) لأمتنع عن النظرة النقدية إلى الجلسة وأدرك أن الإلقاء بالعموميات بشأن الهجرة غير الشرعية والارتحال واللجوء ربما مثل السبيل الوحيد لتحفيز الجمهور على الإنصات إلى شرح لأحوال الشرق الأوسط لا يسقط في هاوية المعالجات السياسية الرديئة والعنصرية الرافضة لقدوم العرب إلى أوروبا والمروجة فقط لأزمات اللجوء واللاجئين.
مع مرور المزيد من الوقت، أيقنت أن هذه هي بالفعل الاستراتيجية الواعية للمتحدثين الذين وظفوا مداخلاتهم لتمرير رسائل سياسية تقدمية تدافع عن حق أعداد «مقبولة» من العرب في قدوم القارة الأوروبية طلبا للأمان وحقهم في اللجوء وبعض بلادهم تجتاحها الحروب الأهلية ومآسي عنف الجماعات الإرهابية وخروج مؤلم للأقليات الدينية والعرقية كما في سوريا والعراق وحقهم في الحياة والأمن. كان الصديقان والمتحدث الثالث (أستاذة علوم اجتماعية وأستاذ علاقات دولية وإعلامي) يمارسون فنا معلوما من فنون التواصل مع الجمهور يستند إلى ثلاث خطوات: أولا، الاقتراب المحدود (والمحسوب) من انطباعات وقناعات الأغلبية (لا شيء في الشرق الأوسط غير ملايين المهاجرين واللاجئين الذين تتحمل الحكومات الأوروبية كلفة طرقهم أبواب القارة) ثانيا، التحرك خطابيا إلى استثارة الشكوك في بعض تلك الانطباعات والقناعات (هل على الأوروبيين بالفعل إغلاق الأبواب في وجه الهاربين من حرائق الشرق الأوسط؟ هل التخوف من النزوع الراديكالي والعنيف للاجئين العرب في محله أم أن أهوال الهروب من المعاناة من الإرهاب والعنف تصنع من العدد الأكبر من اللاجئين باحثين عن الاندماج السلمي والناجح في المجتمع الجديد؟) ثالثا، المحاولة لقلب تلك الانطباعات والقناعات رأسا على عقب (قد يكون الأفضل للحكومات الأوروبية هو تشجيع حكام الشرق الأوسط على استثمار موارد مجتمعاتهم الشحيحة في مواجهة أزمات الفقر والبطالة وانعدام الأمان الاجتماعي، قد يكون الأفضل هو وضع موارد الأوروبيين في استثمارات اقتصادية تخلق فرصا للعمل وتدعم شبكات الأمان الاجتماعي جنبا إلى جنب مع عمل الأوروبيين على امتداد الساحل الجنوبي للبحر المتوسط لمنع اللاجئين من بلوغ الأراضي الأوروبية).
هذه لحظة صعبة للغاية في أوروبا التي تواجه هي أيضا تداعيات جائحة كورونا وشبح الكساد العالمي وأزمات ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، هذه لحظة صعبة للغاية في أوروبا التي تستقبل اللاجئين الأوكرانيين بالورود وتتخوف من استمرار من قدم إليها من بلاد العرب والشرق الأوسط على أراضيها ولا ترغب في قدوم لاجئين جدد من ذوي البشرة الداكنة. وفي هذه اللحظة الصعبة، تكتسب كل محاولة أوروبية للحد من المقولات العنصرية، بل حتى مجرد ترشيدها، أهمية مجتمعية حقيقية.
كاتب من مصر