علي عبالحميد يكتب : مظاهرات التنحي

profile
  • clock 11 يونيو 2021, 1:50:28 ص
  • eye 705
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أربعة وخمسون عاما مضت على رفض الشعب العربي في مصر للهزيمة التي تعرضت لها مصر والأمة العربية، ورغم الظلام الدامس الذي عاشته القاهرة ومحافظات الجمهورية والغارات الصهيونية على البلاد وأخبار الهزيمة الصعبة والمهينة التي تلقتها مصر وأمتها العربية، ورغم أن الطريق إلى القاهرة متاح لقوات العدو لآن تتقدم، إلا أن جماهير الشغب أظهرت معدنها الأصيل وتحركت بداخلها إرادة المقاومة، فما أن أعلن القائد عن النكسة التي تعرض لها النضال الوطني، فخرج الشعب القائد المعلم عن بكرة أبيه يرفض الهزيمة ويصدر أمره إلى القائد أن ابق في موقعك لتقود النضال والمقاومة ضد العدو الصهيوني، وتبدأ أسطورة الصمود، والمقاومة، وإعادة بناء القوات المسلحة.

الشعب هو القائد وهو المعلم.. وهو صانع الانتصارات الكبرى..

ولي مع هذه الأيام حكايات وحكايات، وعن 9 ، 10 يونيو 1967 ذكريات:

كنت حينها دارسًا بالمرحلة الثانية بمنظمة الشباب الاشتراكي (دورة إعداد قيادات وكوادر منظمة الشياب الاشتراكي بمعسكر حلوان لمدة خمسة عشر يوما أو احدى وعشرين يوما) وكنت حينها قد أنهيت امتحانات الصف الثاني الثانوي بمدرسة الاسماعيلية الثانوبة، لآلتحق بعد الامتحانات مباشرة بالمعسكر، وكنت قد عشت بالاسماعيلية أجواء التعبئة والاستعداد للحرب مع العدو الصهيوني، وكنا نشاهد قوات الجيش المصري وهي تمر أمامنا في طريقها إلى سيناء، في هذه الأجواء سافرت إلى حلوان تقريبا في 20 مايو 1967 للمشاركة في دورة المرحلة الثانية، وأذكر وبينما كنا نتهيأ للبرنامج اليومي في صباح 5 يونيو فوجئنا بطيران العدو فوق رؤسنا وعلى ارتفاع منخفض جدا، وكانت مشاعرنا ملتهبة وجياشة برغبة المشاركة في المواجهة، ولم نتبين حقيقة ما حدث يومها، ويوما بعد يوم بدأت تتسرب مشاعر متناقضة مبهمة، إلى أن عقدت قيادة المعسكر اجتماعا معنا صباح 9 يونيو تشرح لنا طبيعة الموقف في ايماءات غامضة وأن من المتوقع أن يتحدث الرئيس جمال عبدالناصر اليوم لبشرح الموقف، وتم إنها دورة المعسكر قبيل موعدها الختامي بيومين، ومن ثم بدأنا بالسفر إلى محافظاتنا، ركبت القطار بعدها متوجها إلى مدينتي الاسماعيلية، وكان الرئيس قد بدأ يلقي خطابه، استمعت إلى بعض فقرات الخطاب، ولم أنتبه إلى الجزء الأخير من الحطاب، حيث كان القطار قد وصل إلى الإسماعيلية، وبدأت أخطو طريقي إلى المنزل، حيث كانت الشوارع مظلمة والإضاءة مُقيدة، ولفت نظري مشهد ضباط وجنود الجيش المصري وهم يجلسون متفرقين على الأرصفة في مشهد غير مألوف، ولفت نظري ضابط شاب برتبة نقيب غلى ما أذكر، وكان يبكي بشدة، تقدمت منه أسأله ماذا حدث؟ ولماذا تجلسون هكذا؟ قال لي لا شيء.. لا تقلق.. كل شيء هيبقى كويس، طبعًا رأني صبي صغير، كنت لم أكمل السابعة عشر عامًا بعد، لكني حاولت أن أفهم ماذا حدث، فالمشهد حولي يوحي بأمر جلل فوق كل تصور، سألته مُلحًا.. هل تحدث عبد الناصر بشيء في نهاية خطابه، فقد فاتني الجزء الأخير من الخطاب.. إلا أن الضابط الشاب كان مصممًا على أن يبعث في نفسي الطمأنينة.. لا تقلق.. كل شيء هيكون أفضل.

وواصلت سيري إلى منزلي على بُعد خطوات ما بين جامع الاسماعيلية الكبير بميدان المطافي واستاد الاسماعيلية، لأجد زملائي في الشارع أمام باب المنزل وهم يبكون ويصرخون.. جمال عبد الناصر تنحى، والاسرائيليين على الضفة التانية من القنال، ورغم نزول الخبرين عليَّ كالصاعقة، إلا أنني لاحظت طاقة غير عادية في زملائي الشباب الضغار على التحدي ورفض ما حدث والاصرار على المقاومة وهذ طبيعي من شباب تملؤه الحيوية والحماسة .. ولِمَ لا وهو شباب تربى في ظل الثورة ومبادئها وتشبّع بأرائها وأفكارها..

بقيت على هدوئي.. لم استوعب ما حدث.. ارتقيت درجات السُلم لأصل إلى شقتنا بالدور الرابع، واستقبلني أبي وأمي باللهفة والخوف حرصا عليَّ وعلى مشاعري فهما يعرفان مدى حبي والتزامي بالثورة وقائدها وهما من زرعا فيَّ الوطنية وكنت أشارك في كافة المعسكرات بتأييدهما، وأذكر كيف كان والدي يحملني على كتفه في العام 1956 وأنا في سن السادسة لآرى جمال عبد الناصر وهو بالبدلة الكاكي يمر في شارع الثلاثيني بالاسماعيلية، وكيف حضرت معه في السرادق الكبير باستاد الاسماعيلية عام 1964 لاستمع إلى خطابه مباشرة.

بقيت على هدوئي.. وتجمدت مشاعري.. أفكر في ما حدث.. وأقلب الأمر على كافة وجوهه، وأنا أتابع تداعيات الأحداث من خلال جهاز الراديو الكبير المعلق على الحائط، كنت أقف على الكنبة في صالة منزلنا وأذني تلتصق بالراديو.. أتابع الأخبار.. وردود الفعل، وكيف أن الجماهير في القاهرة قد خرجت ورغم الظلام الدامس للتوجه إلى قصر القبة تطالب عبدالناصر بالعدول عن الاستقالة وترفض أن يتولى زكريا محيي الدين الحكم بديلا لجمال عبد الناصر.. وتتواصل الأحداث..

ورغم ظلام الليل.. والوقت المتأخر.. نزلت إلى الشارع.. لأتواصل مع الأصدقاء..   والأنباء تتوالى من الزملاء والأصحاب بأن اسرائيل وصلت على حافة القناة، وأشهد بأنني لم ألحظ أي مشاعر للخوف من أهلنا وزملائي الشباب الصغير.. وكانت تساؤلاتهم: ماذا بعد؟ وماذا نفعل؟.. ومشاعر الشباب والناس تنطق بأن جمال عبد الناصر لا بد أن يستمر لمواجهة هذه اللحظات العصيبة.

أذكر ليلتها وفي نقاش مع بعض الأصدقاء المحدودين، سُئلِت ما رأيك؟ قلت بوضوح، من الطبيعي أن القائد المهزوم لا بد أن يرحل، ومن الطبيعي يعد هذه الهزيمة أن يرحل جمال عبد الناصر، كان هذا رأيي حينها، قلت هذا وأنا من تربى في مدرسة جمال عبدالناصر، وأمنت بقيادته ودوره ومشروعه ونضاله الثوري، وطبيعتي التي تربيت عليها وثقافتي وأيضا ما تعلمته في منظمة الشباب، أن ألتزم الموضوعية والصدق والحق والحقيقة، وأعتقد أن ذلك سبب لي ولا يزال اشكاليات في مواضع عديدة، ولكنني أليت على نفسي أن التزم الصدق والموضوعية والإخلاص والوفاء إلى أن يقضي الله أمرأ.

وبقيت على رأيي هذا حتى الصباح، وأنا لا أزال أقلب الأمر على كافة الوجوه، وإن كنت بالتأكيد قد تفاعلت مع الإرادة الشعبية الجارفة التي تطالب عبدالناصر بأن يبقى في المسؤولية لمواجهة الخطر الداهم المحيط بالبلد، وبالتأكيد كانت مشاعري كلها مع جمال عبد الناصر وكنت على وشك أن أسافر إلى القاهرة في الصباح مع زملائي للمشاركة في التظاهرات الشعبية العظيمة لمطالبة عبدالناصر بالبقاء في موقع المسئولية.. 

تلك كانت مشاعري خلال يومين من أخطر أيام مصر في عصرها الحديث،.

 وبدأت مرحلة جديدة من النضال الثوري، عنوانها الصمود وإعادة البناء.. أحمد الله أنني شاركت فيها منذ صباي ومطلع شبابي ولا أزال جنديا مؤمنًا بالثورة العربية الناصرية متطلعا إلى إعادة بناء الحركة الثورية الناصرية بروح نضالية بعيدًا عن الزيف الذي لحق بكثيرين افتقدوا معايير جمال عبد الناصر في رؤية الواقع العربي والمصري الراهن، وأحمد الله أني مارست نضالي طيلة حياتي بروح المسئولية والإخلاص والتفاني، ولم أتطلع في حياتي إلى مواقع أو مناصب، وما مارسته من مسئوليات في مراحل العمل الثوري والنضالي دفعتني إليه ضرورات وظروف لم أكن أملك التخلي عن الوفاء بها، ويعلم كل من تعامل معي أنني لم أسع لموقع أو منصب.. ومع ذلك تحملت مسئوليات قيادية في بناء الحركة الناصرية والقومية العربية سواء في تنظيماتها السرية والعلنية على امتداد الساحة المصرية والعربية من سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، وأفخر بدوري الذي مارسته في مرحلة من مراحل تنظبم الطليعة العربية التنظيم القومي الذي بناه جمال عبد الناصر، وسيأتي يوم قريب أسجل فيه رؤيتي في الواقع الناصري والعروبي القومي من واقع ما عايشته. 

والله من وراء القصد.

التعليقات (0)