- ℃ 11 تركيا
- 13 نوفمبر 2024
علي الصاوي يكتب.. متى تتعلم الدرس يا غبي؟
علي الصاوي يكتب.. متى تتعلم الدرس يا غبي؟
- 11 يوليو 2022, 5:19:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سألني أحدهم وقال: صف لي الشعارات السياسية فقلت: هي مثل إمرأة قبيحة لم تستطع أن تجمل نفسها فلجأت إلى الذهب والحلي لتداري قبحها، ثم قال: حدثني عن السياسي الفاشل، فقلت: هو الفارغ الذي لا يعاني من مخاض الفكر، ولا تستهويه المشاريع القومية الفعالة التي تحتاج إلى جهد متقن وعمل متواصل وممارسة واعية وكاريزما مقبولة جماهيريا، هو الذي يميل الى المشاريع ذات الهياكل الفارغة لإخفاء ضعفه، وفي الغالب تراه يتموضع دائما في جبهة الضد بدافع النفعية وإن لم يكن هناك داعي لذلك، فإن كنت يمينا كان يسارا والعكس، يكره الوجوه الحقيقية ويدمن حضور الحفلات التنكرية، مذهبه في السياسة أن يتحسس المصائب ويرسي سفينة مصالحه على مرفأ جراحها، كالآكلة يسرح ويمرح ويتغذى على خراجها، لا يتورع من إراقة ماء وجهه تحت مبررات واهية للظفر بفتات أو غنيمة وإن دعس عليه خصمه.
ثم قاطعني وقال: أهو ذاك؟ فقلت: لا، فهذا النوع من الساسة حين يصعب عليه مواجهة خصومه إما أن يشوه سمعتهم أو يخترق خصوصياتهم ويضيق عليهم، وهذا لعمري لعلامة إفلاس وخواء وتخمة وتسافل فكري، فمن علامات الإفلاس الانشغال بالناس، ولو وجد أمثال هؤلاء قيم سامية يروج لها، أو مشروع قومي ينتفع به، لما وجد لنفسه وقتا يتتبع فيه آثار الناس ويتجسس عليهم، لكن نفسه الخبيثة تأتيه ببلاء خفي يذهب بعقله، فيسقط في آتون السطحية والتفاهة فيحط من قدر نفسه، هذا إن كان له قدرا من الأساس.
وتعال أحدثك أكثر يا صديقي في هذا الصدد، يقول صاحب كتاب الأمير: أنا لا ألوم من يتطلّع الوصول إلى السلطة لأن طبيعة التملّك راكزة في النفس البشرية، بل أراني أميل إلى الثناء على كل راغب في مد نفوذه، إذا كان يُحسن التصرف، ولكن كل من يُحاول امتلاك البلاد وهو جاهل بطُرق السياسية ثم يتماهى فيما تُوحيه إليه شهوة التملّك، فهو جدير بأن يُلام على تهوره لومًا عنيفا، ثم يقول: إن الذين يرتقون من عامة الشعب إلى الحكم والإمارة بحُسن الطالع لا يجدون أقل صعوبة في الارتقاء، ولكنهم يجدون أعظم المصاعب في المحافظة على ما وصلوا إليه.
كلمات بمثابة لبنات أولى في بناء جدار الحكم وكيفية تحصينه من الهدم المبكر، وتعكس أهمية أن يتمتع الراغب في الوصول إلى السلطة بالكياسة والفِطنة وامتلاك أدوات القوة وإجادة المناورات السياسية وفن التفاوض، بل واقتناص الفرص وإلا تحوّل إلى مفعول به بدلا من أن يكون فاعلا.
يُعلمنا التاريخ أن من وقف عند مرحلة سياسية معينة ونسج على منوالها بأدوات عصرها من دون ضخ دماء جديدة وابتكار نظريات تواكب العصر وأهله وتتماهى مع المتغيرات السياسية والتقلبات الاجتماعية، صدأت فكرته وتآكلت مها كانت قوية ومتوائمة مع الوجدان النفسي والفكري لمحيطه، فما يصلح لعصر قد لا يناسب عصرا أخر، ومهما كان إيمانك قويا بأفكارك التى نشأت عليها فقد تمل منها نفسك، وينفر منها غيرك إن لم تُحدّثها باستمرار.
وفي السياسة قد يجرّك الجمود والركود وضعف الأدوات إلى حلبات الصراعات الصفرية أو العدمية مع خصومك فتواجه بالسيف ما يقتضي أن تواجهه بالصاروخ، وتواجه الدبابة بأسنّة رماح مكسورة، وسهام خشبية مبتورة، وتخطط بحسن النية ما يحتاج إلى حسن فطنة ودهاء سياسي، فتظل في دائرة الضعف الاستراتيجي لا تخرج منها إلا على مقابر السياسة مباشرة.
فالفاعل السياسي لا يمارس السياسة بالتمنّى وجهل الواقع، فقد يُقبل منه أن يشذ في أحلامه الخاصة، لكن لا يقبل منه أن يشذّ في قراءة وتفسير الواقع ويشرد في مثالياته الأفلاطونية الفارغة، فيتهم خصمه بالغباء في حين أنه مُسيطر على مقاليد الأمور، ويُروّج لأتباعه أن فكرة خصمه إلى زوال وهو لا يملك أسباب إزالتها، أو يرى أن كل من يُخالفه على خطأ فيصمّ أذنه ولا يسمع لأحد، فيظن نفسه أفضل من الأخرين وهو في الحقيقة خدع نفسه وورط أتباعه، بعد أن كشف الملعب السياسي ضعف قدراته وسذاجة خطته، فكل من قرأ معطيات الواقع بشكل خاطئ دفع الثمن هزيمة ساحقة سواء في ميدان الحرب أو في ملعب السياسية.
السياسي الناجح يرى الواقع كما هو لا كما يتمنّى أن يراه، وإلا فلن يستطيع أن يفرض نفسه في الميدان وبالتالي لن يجد لنفسه مكانا على الطاولة، فإما أن يستجدي خصمه للجلوس ويقبل بشروطه مُرغما لأنه فاقد لأي روافع تحت الطاولة فهو بلا رصيد سياسي حقيقي، وإما أن يظل يتخبط في الأرض حيران، أو أن يدور بين رحى الإذعان والتنازلات المهينة أملا في البقاء.
وهناك من الساسة المنهزمين من يلجأ للهروب بدلا من المواجهة، فيكون مثله كمن أنشأ شركة في منطقة صناعية ثم جاءت شركة أخرى عملاقة تعمل بجانبه في نفس تخصصه، وبدلا من أن يواجهها بأدوات تسويقية محترفة وتطوير بنية شركته وضخ أيدى عاملة جديدة بعقول واستراتيجيات حديثه، أغلق الشركة ونقلها إلى مكان بعيد عن تلك الشركة العملاقة، ليحافظ على حجم إنتاجه الضعيف وفريق عمله التقليدي المتواضع، ولو أنه طوّر من نفسه وعالج أخطائه لأصبح منافسا قويا للشركة العملاقة، فيستفيد المستهلك من التدافع التنافسي بينهما، وتظل عجلة الانتاج تجرى من دون خسائر أو توقف فيحدث توازن في السوق، لكن غباءه الاستراتيجي أخرجه من سوق المنافسة بلا رجعه، وجعل المستهلك تحت رحمة واحتكار الشركة العملاقة.