عصمت سيف الدولة : الصوت الأصيل الغائب

profile
  • clock 25 أبريل 2021, 2:07:39 م
  • eye 1055
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

نعنى بالأصيل الأمة العربية .

ونعنى بالغيب أنها ليست، ولم تكن منذ خمسين عاما، طرفا حاضرا ومشاركا فى الصراع السياسي والاجتماعي الذى يدور حول مصيرها ذاته . 

 ذلك لأن الأمة العربية ـ عندنا ـ ليست الشعب العربي (البشر)، وليست الأرض العربية (الوطن) فإن لكل دولة شعبا ووطنا بدون أن يعنى هذا أن لكل دولة تقوم على أمة. وليست الأمة العربية عندنا شعبا ذا لغة واحدة أو حياة إقتصادية واحدة أو حالة نفسية واحدة أو دين واحد .

واحدة أو سائدة تستويان فليست هذه هى القضية؛ إن لكل قبيلة جائلة فى الصحراء أو كامنة فى الغابات لغة واحدة وحياة إقتصادية واحدة ودين واحد وشعور قوى بالانتماء القبلي يسمونه الحالة النفسية بدون أن يعنى كل هذا أن كل قبيلة أمة .

إنما الأمة العربية ـ عندنا ـ تكوين اجتماعي واحد من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معا والحضارة التى نتجت خلال تطور تاريخي من تفاعل الشعب بالأرض. فنحن عندما نقول ـ مثلا ـ أننا أمة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل (الأمة) الذى يتضمن الجزء (الوطن) . فالشعب العرب (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكونان معا الأمة العربية التى ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التى تقيم عليها إلى أمة، أو من أرض لا تخص شعبا بعينه إلى أرض عربية، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي، واختص به ليكونا وجودا واحدا هو الأمة العربية خلال تفاعلهما الذى أسفر عن حضارة متميزة. أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة أو الثقافة أو الدين .. الخ فتلك عناصر التكوين الحضاري وهى تختلف من أمة إلى أمة تبعا لظروف التطور التاريخي الذى كونها . أما الحالة النفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ فتلك معبرات فى الأفراد عن إنتمائهم إلي أمة قائمة وتختلف من فرد الى فرد فى الأمة الواحدة تبعا لوعيه علاقته بمجتمعه القومي .

 هذا الوجود الإجتماعى الذى نسميه أمة يحمل فى ذاته خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما ننكر وجود الأمة أو أننا نستبعدها من نطاق التعامل بيننا .

 أولى هذه الخصائص وهى أن الأمة تكوين تاريخي نتج عن تفاعل أجيال متعاقبة من الشعب مع أرضه المعينة. وهذا يعنى أن الأرض (الوطن) ملكية تاريخية مشتركة بين أجيال الشعب العربي . ويترتب على هذا أن أى جيل من الشعب العربي لا يملك حق " التصرف " فى أرض الوطن أو فى جزء منها . فإن فعل بأن تنازل أو تخلى عن جزء من الوطن العربي فإنه لا يفعل شيئا سوى خيانة أمته ويبقى للأجيال القادمة حق استرداد أرضها ومعاقبة الخونة .

ويكون هذا هو الموقف القومي الصحيح من معارك التحرر.

 الخاصية الثانية هى أن الأمة تكوين مشترك من الشعب العربي كله والوطن العربي كله . فكل فرد عربي ذو حق مساو لأى فرد عربي آخر فى كامل تراب الوطن العربي ، أى أن الأرض ( الوطن ) ملكية مشتركة بين كل أفراد الجيل القائم فى أية مرحلة تاريخية . وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :

 أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة دون باقى الشعب العربي بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى الوطن العربي بل هم شركاء فى المصادر فى العمل وفى الإنتاج وفى العائد . ومع إخراج الأرض من نطاق الملكية الخاصة يصبح لكل فرد عربي نصيب بقدر ما يؤدى من عمل منتج .

ويكون هذا هو الموقف القومي الصحيح من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :

 أن ليس لأى فرد أو مجموع من الأفراد ولو بلغت عشرات الملايين أن تقتطع لنفسها من الوطن العربي جزءا ـ كبيرا أو صغيرا ـ لتستأثر لنفسها به دون باقى الشعب العربي ، وتمنع باقى الشعب العربي من حقه فى المشاركة فيه . فإن فعلت كان من حق الشعب العربي فى الجزء ، وفى باقى الوطن ، أن يعيد وحدته ووحدة أرضه .

ويكون هذا هو الموقف القومي الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث :

 أنه ليس من حق فرد أو مجموعة من الأفراد ولو بلغت الملايين أن تنفرد بسلطة إتخاذ القرارات المتصلة بكيفية توظيف الموارد المادية والبشرية المتاحة فى الوطن العربي أو فى وضع النظام الدستوري أو القانون الذى يصوغ علاقة الناس فيه ، بل أن لكل عربي حقا متساويا فى الإسهام بالرأي وبالعمل فى إدارة مجتمعه القومي المشترك .

ويكون هذا هو الموقف القومي الصحيح من معارك الديموقراطية .

 هذه هى ضوابط الموقف القومي التقدمي كما يعبر عنه الشعار المثلث حرية ( ديموقراطية ). وحدة . اشتراكية . ولأنها ضوابط مستمدة من خصائص واقع موضوعي هو الوجود القومي ، فإنها ضوابط موضوعية . فكما أن وجود الأمة العربية ذاته لا يتوقف على معرفتنا أو إرادتنا فإن ضوابط الموقف القومي التقدمي المستمدة منه لا تتوقف على اختيارنا . إن اخترناها فقد عرفناها ولم نختلقها . وإن لم نخترها فهي ضوابط صحيحة ويتحمل من يشاء مسئولية ما إخثار . ولكنه فى هذه الحالة يكون إما منكرا لوجود الأمة العربية ، أو رافضا التعامل معها كواقع موضوعي . وألف باء السياسة تعلمنا أن إنكار الواقع الموضوعي أو تجاهله لا يؤدى إلا إلى الفشل .

غير أنه من الواقع الموضوعي أيضا ، الذى لا يجوز إنكاره أو تجاهله أن الأمة العربية (الوطن) مغتصبة بعض أرضها وتقوم على فلسطين دولة استعمارية استيطانية يسمونها " إسرائيل " . ثم إن الوطن تجزأ فيما بين عشرين دولة تضع كل منها لما تتأثر به حدودا تحرسها شرطة ومحاكم وسجون. ثم أن الأمة العربية (الشعب) مقسم فيما بين عشرين دولة تمارس كل دولة منها سلطاتها عليه وتلزمه دساتيرها وقوانينها ولوائحها وتعتبر بقية الشعب العربي خارج حدودها أجانب فلا تسمح لهم بأن ينتقلوا إليها أو يعملوا فيها إلا طبقا لشروطها . وتستأثر كل دولة بما فى الأرض التى قامت عليها من ثروات مادية وبشرية وتساوم أو تبادل أو تتاجر أو تضارب أو تبدد تلك الثروات طبقا لما يذهب إليه حكامها.

ثم أن فى داخل كل دولة تستأثر قلة بما هو متاح فيها من ثروات مادية وبشرية وتحصل من عائدها على ما تريد لها قوانينها المستغلة وتحرم الشعب العربي فيها وخارجها من حقه فى ثروات وطنه .

ثم أن فى داخل كل دولة تحتكر قلقة السلطة وتحرم الشعب العربي فيها وخارجها من حقه الديموقراطي فى إدارة شئونه المشتركة .

هذا واقع موضوعي أيضا .

هذا الواقع الموضوعي يحمل فى ذاته ـ أيضا ـ خصائص الإعتراف به والتعامل معه بحيث أن جهل أو تجاهل هذه الخصائص كلها أو واحدة منها يعنى أننا إما أن ننكر وجوده أو أننا نستبعده من نطاق التعامل بيننا .

أولى هذه الخصائص هى تفرد كل دولة عربية بوجودها الخاص أرضا وشعبا ، إن هذا يسلبها الحق ـ دوليا ودستورا ـ فى مد سيادتها إلي خارج أرضها ويمنحها حق منع إمتداد أية سيادة " أجنبية " إلى داخل أرضها . إنها مسئولة عن الحفاظ على وطنها والدفاع عن سلامة ترابها ، وليست ملزمة بأن تحافظ على ما يتجاوز حدود وطنها أو الدفاع عنه ، وكل دولة أو شعب مسئول عن أرضه ومصيره فإن فشل فذلك تقصيرا منه وإن استسلم كان " حرا " فى شأنه ولا مسئولية على الدول العربية الأخرى . وقد تتعاون الدول العربية وقد تتضامن وقد يساند بعضها بعضا فى معركة أو أكثر ولكن ذلك يكون فى نطاق الموقف المبدئي :" حق كل شعب عربي فى تقرير مصيره " مستقلا عن غيره .

ويكون هذا الموقف الإقليمي الصحيح فى معارك التحرر .

الخاصية الثانية هى إستقلال كل دولة عربية عن الأخرى . وليس لأى فرد عربى من الحقوق إلا ما يستمده من قوانين دولته ، وليس لأية دولة عربية أن تتدخل فى شئون دولة عربية أخرى وتترتب على هذا ثلاثة مواقف مبدئية :

الموقف الأول :

أنه ليس لأى فرد أو مجموعة من الأفراد أن يستأثر لنفسه أو لأنفسهم خاصة ، دون باقى الشعب " فى دولتهم " بمصادر الثروة المادية أو البشرية المتاحة فى " وطنهم " بل لابد من أن يكون لك واحد حسب عمله . وليسوا مسئولين بعد هذا عن تحرير شعوب غيرهم من الاستغلال والقهر الاقتصادي .

ويكون هذا هو الموقف الإقليمي من معارك الاشتراكية .

الموقف الثانى :

حق كل شعب فى كل دولة فى الاستقلال بدولته والاستئثار بما فى أرضها من ثروات وحريته فى استثمارها والتصرف فيها بدون تدخل من أية دولة عربية أخرى ، والدفاع عن هذا الاستقلال فكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا والاستنجاد بالدول الأوروبية أو الأمريكية فيما لو حاولت دولة عربية أن تتدخل فى شئون الدولة المعينة .

ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الوحدة .

الموقف الثالث : 

حق كل دولة فى أن تقيم نظامها السياسي والاجتماعي الداخلي بدون تدخل فى شئونها وضرورة احترام هذا النظام السياسي والاجتماعي من كل الدولة العربية حتى لو كان قبليا أو إقطاعيا أو ديكتاتوريا فاشيا .

ويكون هذا هو الموقف الإقليمي الصحيح من معارك الديموقراطية .

واضح أن المواقف القومية تناقض المواقف الإقليمية تماما .

ومع ذلك فإن الواقع القومي الموضوعي ، والواقع الإقليمي الموضوعي متواجدان معا ومتداخلان فى الأمة العربية الواحدة . فكل قطعة أرض هى أرض قومية وأرض إقليمية فى الوقت ذاته . وكل شعب إقليمي هو فى الوقت ذاته جزء من الشعب القومي . وكل نصر إقليمى فى معارك التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية هو فى الوقت ذاته نصر قومي . إن هذا التواجد المشترك بين القومي والإقليمي فى الأمة العربية يثير كثيرا من الغموض الفكري والحركي فتختلط المواقف وتتاح فرص الادعاء والمثالية معا . إذ يسمح ـ أول ـ للقوى الإقليمية بأن تسترد تحركاتها بغطاء دعائي قومي . ويسمح ـ ثانيا ـ لبعض القوى الإقليمية بأن تستر عجزها بإدانة الإقليميين وتحركاتهم والوقوف سلبيا من الأحداث التى تجرى فى وطنهم القومي بحجة أنها أحداث إقليمية يحركها إقليميون ، هذا بينما الأمة العربية ، أمتهم ، هى موضوع تلك الأحداث .

 فكيف يمكن تبرير هذا الغموض ؟

 بأن تفرز القوى فى الوطن العربي على أساس مواقفها من الواقع وتناقضاته القوميون التقدميون قوة مفرزة والإقليميون بكل اتجاهاتهم قوى مفرزة . كل قوة تمثل واقعا موضوعيا ماديا وبشريا . أحدهما الواقع القومي ، والثاني الواقع الإقليمي . وعندما تفرز القوى على هذا الوجه سيكون التناقض بينهما أعمق مما تجدى فيه المصالحة أو الحلول الوسيطة ، وسيكون الصراع بينهما أكثر ضراوة من كل صراع عرفته الأرض العربية . وهذا هو ما تدركه القوى الإقليمية تماما وتخشاه حتى الموت . ولما كانت القوى الإقليمية هى المسيطرة حاليا بأجهزتها الإقليمية " الدول " فإن كل تلك الدول تسخر قواها الظاهرة والخفية وتتعاون فيما بينها ومع أعداء الأمة العربية فى كل مكان للحيلولة دون أن تفرز القوى القومية نفسها فتصبح قوة مواجهة ضارية .

 ويساعد على هذا أن القوى القومية التقدمية لا تستطيع بحكم ولائها للأمة العربية أن تقف من المعارك التى يديرها ويقودها ٨ موقفا سلبيا . فهي تؤيد كل موقف إقليمي من أجل التحرر أو الاشتراكية أو الديموقراطية . وهذا بدوره يساعد القوى الإقليمية بأن تدعى أنها إنما تخوض المعارك من أجل الأمة العربية وقضاياها المصيرية . وهكذا تختلط المواقف وتبدو الخيانات الإقليمية كما لو كانت إنقاذا للأمة العربية ، وتستغل السمة القومية لكل غاية ، وكل نصر وكل هزيمة لتغطية الغايات الإقليمية واجبا فى النصر القومي ونسبة الهزيمة الى الأمة العربية .

 فما الحــــــل ؟..

 إن القوى الإقليمية السائدة لن تسمح أبدا للقوى القومية التقدمية بأن تفرز نفسها وتلتحم معا لتكون قوة مستقلة عن الدول العربية وقواها الإقليمية . إنها ستحارب هذا بكل وسيلة وعندما تعجز قد تحاول احتوائه لتكون القوة القومية التقدمية فى خدمة قوة أو قوى إقليمية . وبالتالي فإن مسئولية فرز القوى القومية التقدمية تقع على عاتق تلك القوى . ولا يجديها عذرا ما تلاقى من عقبات ينثرها الإقليميون على طريقها فإن أحدا لا يستطيع ـ بحق ـ أن يعتذر بما يفعله أعداؤه .

 عندما تفرز تلك القوة القومية التقدمية ستكون ممثلة للأمة العربية . أما قبل أن تفرز فإن كل الأطراف الذين ساهموا منذ خمسين عاما ويساهمون اليوم فى المعارك الدائرة على الأرض العربية ، أيا كان موضوع تلك المعارك ، هى قوى إقليمية . كل منهم يمثل إقليمه ، ولا يمثل أى منهم الأمة العربية . وقد يتعاونون ويتضامنون ولكنهم حينئذ حلف إقليمي يمثل دولهم ولا يمثل الأمة العربية . وعندما ينتصرون يكونون هم الذين انتصروا وليست الأمة العربية . وعندما ينهزمون تكون الإقليمية هى التى انهزمت وليست الأمة العربية . هذا بالرغم من أنهم " يستعملون " الشعب العربي والأرض العربية فى تعبئة قواهم وتحريكها . ذلك لأن الأمة العربية ( الوطن والشعب ) هى الأصل ، أما الإقليمية ( الدول والأحزاب) فهي لا تملك لنفسها شيئا غير الوطن العربي والشعب العربي .

 وسيظل هذا الموضوع قائما إلى أن تجد الأمة العربية من يمثلها . إلى أن تلتحم القوى القومية التقدمية فى تنظيم قومي وتقدمي . ينطلق من الولاء لأمة دون غيرها ، 

ويتخذ من الأحداث المواقف القومية التى ذكرناها ، ويناضل فى سبيل تحرير الوطن من أجل وحدته ووحدته من أجل حياة اشتراكية لكل أبنائه . يناضل تكتيكيا فى كل مكان من أجل إقامة استراتيجية واحدة : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .

 وإلى أن يتم هذا لا تملك إلا أن نتحدث من موقع الولاء المطلق لأمتنا العربية ، تعبيرا عن موقف قومي مطهر تماما من أو شاب الإقليمية .

 إننا لا ندعى أننا نمثل الأمة العربية فنتحدث نيابة عنها ، ولكننا نزعم أننا فى هذا المكان ، وفى مثل هذا اليوم من كل أسبوع ، سنحاول أن نرفع صوت أمتنا فى كل الأحداث التى تجرى فى وطننا ولشعب

كتب المفكر العربي الكبير عصمت سيف الدولة هذا المقال في عام ١٩٧٥ .. ولا يزال الصوت العربي غائبا حتى الآن

التعليقات (0)