- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
عز الدين طيطي يكتب: الذكاء الاصطناعي: سيف ذو حدين في مكافحة تغير المناخ
عز الدين طيطي يكتب: الذكاء الاصطناعي: سيف ذو حدين في مكافحة تغير المناخ
- 31 أغسطس 2023, 5:06:06 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
وسط عصر يتسم بالتقدم التكنولوجي الملحوظ، برز الذكاء الاصطناعي كقوة هائلة قادرة على إعادة تعريف الصناعات والاقتصادات والمجتمعات. في هذا المشهد، تبرز المعركة ضد تغير المناخ باعتبارها واحدة من التحديات الأكثر إلحاحا في عصرنا. غير أن تأثير الذكاء الاصطناعي على هذه الجبهة الحاسمة عميق ومعقد، ويكشف عن تفاعل دقيق بين الآثار الإيجابية والعواقب السلبية.
الآثار الإيجابية
أحدثت قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعات مذهلة ثورة في النمذجة المناخية والتنبؤ المناخي. فعلماء المناخ أصبحوا بفضله قادرين على تحليل البيانات المناخية التاريخية، وصور الأقمار الصناعية، والمعلومات الآنية (التي تصل في وقت صدورها نفسه)، لتطوير تنبؤات أكثر دقة حول أنماط المناخ، والظواهر الجوية المتطرفة، وارتفاع مستويات سطح البحر. وتزود هذه القدرة التنبؤية صناع السياسات بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات استباقية ووضع استراتيجيات تخفيف فعالة لأي آثار سلبية محتملة.
تحقيق التوازن بين تسخير قوة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير وتخفيف آثاره السلبية سيكون محورياً لضمان كوكب مستدام وصالح للسكن للأجيال القادمة
وفي السياق نفسه، أدت خوارزميات الذكاء الاصطناعي إلى تحسينات كبيرة في كفاءة الطاقة عبر مختلف الصناعات. مثلاً، يمكن للشبكات الكهربائية الذكية مراقبة أنماط استهلاك الطاقة وضبط العرض في الوقت نفسه، ما يقلل من النفايات والانبعاثات، بالإضافة إلى ذلك، يتم تطبيق تقنيات التحسين المُعتَمِدَة على الذكاء الاصطناعي على طول خطوط الإنتاج والتوزيع، بدءاً من عمليات التصنيع وحتى طرق النقل، ما يقلل من استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون. أضف إلى ذلك أن الذكاء الاصطناعي يقود التقدم في إنتاج الطاقة المتجددة، حيث يمكن للألواح الشمسية وتوربينات الرياح المجهزة بتقنية الذكاء الاصطناعي تعديل مواقعها لالتقاط أكبر قدر ممكن من ضوء الشمس أو الرياح. كذلك يُمكن لأجهزة الاستشعار التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في تشغيل وضبط عمل محطات الطاقة الكهرومائية التنبؤ بتدفقات المياه، ما يؤدي إلى تحسين توليد الطاقة. على صعيد آخر تعتبر الزراعة مساهماً رئيسياً في انبعاثات غازات الدفيئة المسببة للانحباس الحراري. وتتيح الزراعة الدقيقة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي للمزارعين تحسين وترشيد الري، واستخدام المبيدات الحشرية، وجداول الزراعة بكفاءة، ما يؤدي إلى زيادة إنتاجية المحاصيل بموارد أقل. وهذا بدوره يقلل من اجتثاث الغابات لتحويلها إلى أراض زراعية، ويقلل من التأثير البيئي للزراعة. كما تساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مراقبة وإدارة الموارد الطبيعية مثل الغابات والمحيطات والحياة البرية، فبفضل الطائرات من دون طيار والمجهزة بالذكاء الاصطناعي يمكن اكتشاف أنشطة قطع الأشجار غير القانونية وحوادث الصيد الجائر، ما يساعد في جهود الحفاظ على البيئة، وعلى مقياس أكبر ولرؤية صورة أوسع تقوم خوارزميات التعلم الآلي بتحليل صور الأقمار الصناعية لتتبع معدلات إزالة الغابات وصحة النظم البيئية، وتوجيه استراتيجيات التدخل البناءة.
الآثار السلبية
رغم قدرة الذكاء الاصطناعي على تحسين استخدام الطاقة والماء، إلا أنه لا يمكن تجاهل استهلاكه الضخم لكليهما. فتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة يحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة الكهربائية والماء، وهو أمر له آثار بيئية ضارة. فقد أشارت رسالة بحثية نُشرت في مجلة «نيتشر» العلمية أن تدريب نموذج «جي.بي.تي4» والذي تقوم عليه النسخة الحديثة من «تشات جي.بي.تي» يحتاج الى قرابة 7.5 ميغاوات/ساعة أو ما يعادل الاستهلاك الكهربائي السنوي لـ700 منزل أمريكي. ووفقاً لتقرير نشر على موقع وكالة بلومبرغ للأنباء استَهلَكَ تدريب نموذج «جي.بي.تي3» حوالي 3.5 مليون لتر ماء وهذا يعادل الكمية المستعملة لتبريد المفاعلات النووية. وهذه الإحصائيات تتعلق بمرحلة تدريب النموذج فقط. يُضَاف إلى ذلك الماء اللازم للتبريد لدى استخدام النموذج، حيث يُقدِر باحثون في جامعة ريفرسايد في كاليفورنيا أن التحدث إلى «تشات .جي.بي.تي» للإجابة على 50 سؤالاً يستهلك لتراً من الماء. وبالنظر إلى وجود العديد من الشركات التي تطور نماذج شبيهة بـ»تشات .جي.بي.تي»، فإن الأرقام آنفة الذكر ستتضاعف بشكل سريع جداً، إضافة إلى أن مراكز تجميع وتصنيف البيانات المستعملة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما زالت تعتمد في عملها على مصادر الطاقة غير المتجددة، ما يلغي بعض المكاسب التي تتحقق بفضل استخدام الذكاء الاصطناعي في رفع كفاءة استخدام الطاقة، التي ذكرت سابقاً. كما أن الوتيرة السريعة للابتكار التكنولوجي تؤدي إلى دورات حياة أقصر للمنتج وزيادة في «النفايات» الإلكترونية، ذلك لأن أجهزة ومكونات البُنية التحتية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تطلق مواد خطرة في البيئة أثناء التخلص منها، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي استخراج المعادن النادرة اللازمة لوضع واستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي (مثل الغرافيت والليثيوم والكوبالت والتنتالوم) إلى استنزاف الموارد المحدودة لهذه المعادن. مسألة أخرى يجب التنبيه إليها في هذا الخصوص هي أن الأتمتة التي تُسهلها تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤدي إلى الاستغناء عن الوظائف، لاسيما في الصناعات التي تشهد تحولا رقمياً، ما سيؤدي بالنتيجة إلى صعوبات اقتصادية للأفراد والمجتمعات التي كانت تعتمد على القطاعات كثيفة الكربون، ما قد يعيق الانتقال العادل إلى اقتصاد أكثر خضرة.
بالحديث عن العدل والمساواة، تجدر الإشارة إلى أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي متحيزة بقدر تحيز البيانات التي يتم تدريبها عليها، وفي سياق تغير المناخ، يمكن أن تؤدي البيانات المتحيزة إلى توقعات وتوصيات سياسية خاطئة، بالإضافة إلى ذلك يثير نشر التقنيات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في إدارة عمليات مكافحة تغير المناخ وتداعياته السلبية أسئلة أخلاقية حول من يتحكم في هذه التقنيات وكيف تؤثر قراراتها في المجتمعات المهمشة. كذلك بينما يقدم الذكاء الاصطناعي حلولاً واعدة، هناك خطر الاعتماد المفرط على التكنولوجيا لحل التحديات البيئية المعقدة، إذ قد يؤدي هذا إلى صرف الانتباه عن التغييرات المطلوبة في سلوك الأفراد والمجتمعات والسياسات الحكومية اللازمة لمعالجة الأسباب الجذرية لتغير المناخ.
وفي الختام فإن المعركة الكبرى للتخفيف من وتيرة تغير المناخ ومعالجة تداعياته السلبية، يبرز الذكاء الاصطناعي كمنارة للأمل ومصدر للقلق في آن واحد، فمع أنه لا يمكن إنكار قدرته على إحداث ثورة في نهجنا في التعامل مع التحديات البيئية، فإن العواقب غير المقصودة التي تصاحب تطبيقاته لا بد من إدارتها بعناية. إن تحقيق التوازن بين تسخير قوة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير وتخفيف آثاره السلبية سيكون محورياً لضمان كوكب مستدام وصالح للسكن للأجيال القادمة. وبينما يتنقل صناع السياسات والعلماء وخبراء التكنولوجيا في هذا المشهد المعقد، فإن التأثير الحقيقي للذكاء الاصطناعي في المناخ يظل قصة قيد الكتابة؛ قصة من شأنها أن تشكل مسار علاقة البشرية بالبيئة.