- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
عبود مصطفى عبود يكتب : بضع سنين ٤
عبود مصطفى عبود يكتب : بضع سنين ٤
- 9 أبريل 2021, 11:19:51 م
- 881
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بضع سنين
----------
مضى أسبوع على وجودي في الفندق، وصل عدد النزلاء من الموظفين الجدد إلى سبعة، في الأسبوع التالي جاء إبراهيم ليصطحبني إلى رؤية السكن الدائم، كان يرتدي قميصا كاروهات بياقة حمراء يبدو أنه ورثه عن جده، فقد كان متهالكا جدا، وجاكت أسود لم تطئه يد الكواء منذ شهور، وبنطال قماش لونه عجيب وشبشب، عجبت جدا لملابسه غير المتناسقة، حاولت الربط بين ملابسه وبين انطباعي الأول عن سوء طويته، قطع أفكاري بصوته، وصلنا هذا هو السكن، نزلنا من السيارة ( ميكروباص) التي كان يقودها، وجدت نفسي أمام بيت قديم مكون من طابقين على مرتفع جبلي، أمامه محطة مياه الطائف، دخلنا إلى البيت وكان عبارة عن شقتين في كل طابق، الشقة بها ثلاثة غرف، وأكوام من القمامة في الممر المؤدي إلى الشقق، خرجت مسرعا من هذا المكان وقلت له: هذا ليس سكنا هذا سجن جوانتنامو.
رفضت بشدة الإقامة في هذا المكان، وطلبت أن أبقى في الفندق، وأحصل على بدل السكن، وأدفع الفارق للفندق من مالي الخاص، شعرت أن هذا الأمر أغضب إبراهيم، منذ ذلك اليوم صار اسم هذا السكن جوانتنامو..
في اليوم التالي اصطحبني إلى سكن آخر عبارة عن فيلا قديمة في حي شهار الراقي خلف شوكولاين محل الشيكولاته الشهير، وأمامها من الناحية الأخرى بيت الطيبات وهو مطعم كبير وفخم، في اليوم الأول لي تناولت العشاء فيه مع سامي عادل، ورغم شهرة هذا المطعم، لم يعجبني أكله، وكان تناول الغداء فيه بعد العمل أسوأ ما يحدث لي، أعجبتني الفيلا وكانت ثلاثة طوابق في كل طابق شقتين، ما عدا الدور الأخير كان شقة واحدة أمامها (رووف)، سكنت في الشقة الأخيرة مع زميل من العاملين في المدرسة الثانوي التي يمتلكها أيضا جار الله وتقع في شارع وادي وج.
عدت إلى الفندق وجهزت حقائبي، اتصلت بظريف وطلبت منه أن يمر علي في الليل لينقلني بسيارته إلى الفيلا، ذهبت إلى العنود لشراء بعض المستلزمات التي قد أحتاج إليها من أكواب وملاعق وخلافه، في الليل ذهبت مع ظريف إلى الفيلا وقابلت شريكي في الشقة الأستاذ ناصر، رجل خمسيني، يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في المدرسة الثانوي، يرتدي نظارة طبية، له شارب أبيض خفيف، أصلع الرأس إلا من الجانبين لديه شعر أبيض، رحب بنا في حدة، وقال هذه غرفة حضرتك ولها (بلكون) كبير، لكن أنصحك ألا تفتحه، لأن المجتمع هنا محافظ جدا وقد يتضايق الجيران، لأننا أغراب، و(الرووف) أمامك ممكن تجلس فيه إذا أحببت وهذا الحمام، والمطبخ، أنا أطهي طعامي فيه بعد عودتي مباشرة من العمل أي قبل الصلاة العصر، يعني محرم عليك في هذا الوقت، وهذه الثلاجة، سوف نقتسمها طوليا لك النصف الأيمن ولي النصف الأيسر، ولا يمس أحد منا حاجيات الآخر.
كان يقول هذه الضوابط في صورة حادة آمرة وكأنه جينرال عسكري يعاقب جندي لديه، لا زميل يراه لأول مرة.
شكرته وفتحت الغرفة ووضعت حقائبي، ونزلت مع ظريف لنتناول العشاء، قلت له بلاش بيت الطيبات، لنذهب إلى هيرمان، في الطريق قال لي لا تغضب من الأستاذ ناصر، ما زال أمامك الكثير وسوف ترى في الغربة العجب العجاب، أخذ يقص علي بعض نوادر المصريين في الغربة، قال إن مجموعة من المدرسين سكنوا في سكن جماعي، وقرروا توفيرا للنفقات عمل (ميس) للأكل، ووزعوا المهام، فلان يشتري الخضروات والدجاج من السوق، فلان يطهي الطعام، فلان ينظف الأوعية، مر عليهم أسبوع واحد فقط ثم اختلفوا، وقسموا ما أشتروه بينهم من خزين الطعام، وبقيت قارورة ماء كبيرة حاروا كيف يقتسمونها فتركوها، وفي الليل سمعوا صراخا فإذا بزميل لهم تكاد بطنه تنفجر من شدة الألم، فقد عز عليه أن يترك نصيبه من المياه، فشربها كلها دفعة واحدة، متصورا نفسه ناقة ستختزن المياه ابن الهبلة، هكذا قال، ضحكت جدا وقلت له: أتصور أن أستاذ ناصر هذا رجل طيب وليس حادا كما بدا لنا، ولكن ربما قابل نماذج سيئة كثيرة مثل النموذج الذي حكيت عنه الآن، لهذا يحتاط لنفسه مبكرا ويضع هذا السياج بينه وبين من لا يعرف.
طأطأ برأسه علامة الموافقة، مضت الليلة الأولى لي في غرفتي بالفيلا صعبة جدا لم أنم فيها لحظة واحدة، فصرير إطارات السيارت المسرعة في شارع شهار لا يتوقف، ازعجني طوال الليل، فضلا عن صوت التلفاز الذي يشعله أستاذ ناصر في حجرته ولا ينام إلا على صوته.
أخذت أتسلى بالقراءة، حتى جاء الفجر وبدأت أتجهز لأول يوم عمل.
***
تعرفت في الأيام الأولى للعمل على باقي الزملاء، منهم الشيخ جمال محمد أو الدرعمي كما كنا نناديه، جمعت بيني وبينه وشائج من المودة والاحترام سريعا جدا، وهو من الفشن محافظة بني سويف، تخرج في دار العلوم دفعة 1990 وهي الدفعة نفسها التي تخرج فيها صديقي الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام، والناقد الدكتور عايدي علي جمعة، الذي كان يسكن مع جمال في المدينة الجامعية، عمل جمال فترة بالنشر قبل أن يلتحق بوزارة التربية والتعليم، فهو من أخلص تلاميذ الدكتور أسامة عبد العظيم أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر، لازمه سنوات طويلة، وكان يدير له دار النشر الخاصة به، وللشيخ جمال قصائد رائعة فهو شاعر، لكن أكثر ما يعتز به القرآن الكريم، فهو من حفظته، وهبه الله صوتا نديا جميلا، كنت أحب سماعه جدا خاصة في صلاة الفجر، ثم توطدت صداقتي بمدرب الرياضيات الذهنية عاصم منصور، وهو شاب ثلاثيني، يرتدي نظارة طبية، رياضي ووقور جدا، لم أر في حياتي من يضاهيه نبلا وحسن خلق.
بدأت عمل خطة لتطوير الشركة وما تحتاجه من موظفين، وأهم خطوط النشر التي علينا العمل بها، كما عملت خطة تسويقية للإصدارات الموجودة، وكتب الغير، كانت الخطة عبارة عن مشروع أطلقت عليه اقرأ، يقوم على عمل معارض كتب مصغرة في المدارس الحكومية والأهلية بالطائف وعلى هامش هذه المعارض تقوم الشركة بعمل مسابقات وورش تدريب للتلاميذ في إلقاء الشعر، الصحافة المدرسية، وكتابة القصة، والإذاعة، وفن الأورجامي.
وكان لزاما علي الحصول على الموافقات الرسمية لتنفيذ المشروع فأصبحت أتردد أسبوعيا على إدارة الطائف التعليمية، وعلى نادي الطائف العلمي، وتوطدت العلاقة بيني وبين مديره الأستاذ محمد الزهراني، وفي الوقت نفسه أصبحت عضوا فاعلا في نادي الطائف الأدبي، وعُرض علي أن أكون عضوا شرفيا في مجلس إدارته، لكنني أعتذرت، والنوادي الأدبية في المملكة كيان ثقافي كبير ومهم جدا وهي تشبه في دورها وأنشطتها القصور الثقافية في مصر، في نادي الطائف الأدبي تعرفت على الدكتور فوزي خضر الكاتب الإذاعي الشهير وصاحب البرنامج الأشهر كتاب عربي علم العالم، الذي كانت تبثه الإذاعة المصرية في الثمانينييات والتسعينييات من القرن الماضي، عبر البرنامج العام، وكان يقدم أهم الكتب التي ألفها العرب وأثرت في مسيرة الحضارة الإنسانية، وقد أهدى لي الرجل بعضا من مؤلفاته، كما أخبرني أنه يقيم في الطائف منذ سنوات طويلة حيث يعمل مستشارا ثقافيا لمدير الجامعة، وكان يسكن في شارع ( أبوبكر ) وهو أهم شوارع الطائف التجارية، وكثيرا ما التقينا في محل القرموشي بجوار سكنه وتناولنا الإفطار معا (فول وتميس) والقهوة العربية، في تلك الأيام من شهر نوفمبر 2013 أقام النادي الأدبي ندوة كبيرة للناقد الكبير الدكتور عبد الله الغذامي وكانت عن دور المرأة في المجتمع وأختار لها أعضاء النادي عنوانا طريفا ماذا لو أن الأستاذ شنا لم يوافق الآنسة طبقة؟ وقد شرفت بحضور الندوة والجلوس مع الدكتور الغذامي قبل الندوة والدكتور فوزي خضر قرابة الساعة تحدثنا فيها في أمور شتى.
في تلك الفترة أيضا تعرفت على صديقي الرائع، إسماعيل حلمي وصارت كل تحركاتي معه ذهابا وإيابا إلى مكة وجدة، وفندق البرج لتناول وجبة البيك الساخنة التي صرت أفضلها على البروست الذي كرهته جدا، وكان أحد أهم أسباب التقارب الكبير بيني وبين إسماعيل واقعة حدثت بيني وبين البغل، والبغل هو المدير الذي كان يدير مدارس جار الله، وقد أطلق عليه الموظفون هذا اللقب عندما كتبت قصة للأطفال كان فيها بغلا، رأى فيه الموظفون شبها كبيرا من هذ الرجل، ولي معه واقعة مثيرة جدا وهي ما سنحكيه لاحقا بإذن الله.