عبد الله النجار يكتب: إهدار الكفاءات.. هكذا تسير بعض الدول نحو الانهيار بأيديها

profile
  • clock 27 أغسطس 2023, 5:41:53 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إذا أردت تدمير مؤسسة فيكفي أن تضع على إدارتها الأقلَّ كفاءة من كوادرها وهو سيتكفل بتدميرها، وإذا أردت تدمير دولة فيكفي أن تضع على رأسها الأقل كفاءة وذكاء وهو سيتكفل بإضاعتها وإضاعة شعبها.

منذ أيام انتشرت قصة لشاب مصري، مهندس بترول تخرج في كليته بامتياز وكان له ترتيب بين أوائل دفعته، وكان يتوقع حالما يتخرج أن تتهافت عليه شركات البترول.

ولكن لأن العمل بشركات البترول في بلادنا محجوز لأبناء ذوي الحظوة والنفوذ، فقد تقدم هذا الشاب للتعيين في كثير من شركات البترول وكان يجتاز كل الاختبارات متفوقاً على كل من معه، وكان يظن أن التفوق في هذه الاختبارات هو الباب للالتحاق بالوظيفة، لكنه كان يفاجأ دوماً بعدم تعيينه وتعيين من هو أقل منه تقديراً.

ثم عندما يئس هذا الشاب من أن تقدم له شهادة الهندسة بامتياز، الوظيفة التي يرجوها عرض شهادته "بكالوريوس هندسة بتقدير امتياز" للبيع؛ سخرية من أوضاعنا ولأنها لم توصله للوظيفة التي حلم بها طوال اجتهاده في دراسته وتفوقه فيها.

ويبدو أن القدر اختار لهذا الشاب مساراً آخر، فلقد تعرض لحادث سيارة وتوفي غرقاً إلى رحمة الله، ليشكو لخالقه الظلم الذي تعرض له في أرضه.

في بلادنا، هذه الحكايات المؤلمة ربما نسمعها دون دهشة، إذ أصبحت معتادة، فقبلها بسنوات وفي عهد مبارك، يعود إلى ذاكرتي خريجٌ من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان الأول على دفعته ورفضوا تعيينه معيداً في الكلية، فلجأ للتقديم في وزارة الخارجية؛ أملاً في إنصاف الدولة،  واجتاز كل الاختبارات، وبقي ينتظر بفارغ الصبر قرار تعيينه في سلك الخارجية، لكن تم رفض تعيينه مجدداً، بسبب ما وصفوه بـ"عدم اللياقة الاجتماعية"، فوالده كان يعمل عاملاً  بـ"اليومية" أي الأجر اليومي، فما كان منه إلا أن ألقى بنفسه في النيل ليذهب إلى ربه يشكو له ما تعرض له من مظالم  وإهانة لوالده الذي رباه وعلمه في واحدة من أفضل الكليات.

كانت جريمة الشاب أنه حلم بالإنصاف والعدل، بينما كانت جريمة الأب أنه يعمل باليومية واستطاع تربية ولده أفضل كثيراً من كثير من أصحاب الجاه والنفوذ والسلطة، كما أن لهذا الأب ابناً آخر تخرج في كلية الطب بامتياز.

الغريب أو المعتاد في الحادثين أن الضحيتين كانا طالبين متفوقين في كلية مرموقة يلتحق بها المتفوقون، فهما متفوقان على المتفوقين رغم ذلك لم يشفع لهما للحصول على وظيفة، كما أن كليهما ماتا غرقاً فاستراحا من ظلم وطنهما.

إن الحادثين ليسا حادثين عرضيين، بل هما نتيجة لسياسات وآليات عمل فاسدة في بلدنا، فتوضحان كيف يتم الحصول على الوظائف المرموقة، حيث لا يكون التفوق العلمي والمهني شرطاً في الحصول عليها  وإنما بالواسطة والنفوذ، وهو العرف السائد والمستمر حتى اليوم.

فبنظرة بسيطة نرى أن أغلب الوظائف المرموقة يتم شغلها بالواسطة والنفوذ لمن هم أقل تفوقاً وكفاءة، مما حرم مصر من أبنائها المتفوقين جسداً وروحاً، وأحل محلهم من هم أقل علماً و كفاءة وذكاء في مراكز ومؤسسات مهمة تعاني فيها الدولة من انعدام الكفاءة.

فمن البديهي أنه لن يكون أداء من حصل على وظيفته بالواسطة مثل أداء من تعب في تحصيل العلم، مما يؤدي إلى ضعف المؤسسات التي التحقوا بها، ولعل هذا هو السبب في تخلف بلادنا وكل بلاد العالم النامي.

فبلادنا طاردة للكفاءات، وأصحاب الجدارة والحماسة فيها لا يجدون الفرصة إلا إذا هجروها، وعملوا في دول أخرى، تقدرهم وتوفر لهم سبل النجاح، فيعود خيرهم على هذه البلاد وأهلها.

هكذا تسقط الدول بسبب عدم استعانتها بكفاءاتها، وينتشر فيها الفساد كمرض السرطان في الدم، والأمثلة كثيرة، فنجد كيف استمرت روسيا في التدهور عندما ترأسها رئيس مثل "بوريس يلتسين"، وأرسلت أمريكا فريقاً خاصاً ليدير حملته الانتخابية بشكل مباشر، وساعد الأوليغارشية الفاسدة في إعادة انتخابه لتحقيق مصالحها، فتمت خصخصة كثير من مقدرات الدولة وإغراقها في ديون غير مدروسة من البنك الدولي، وكل ذلك بسبب تغييب الكفاءات وتغلغل الفساد. 

بينما في ليبيا استولى القذافي وهو شاب دون الثلاثين على حكم ليبيا دون أي خبرة أو مؤهلات؛ ظناً أنه الزعيم المنتظر الذي سيجعل من ليبيا دولة عظمى، ورغم كونها دولة بترولية كدول الخليج لم يحقق من العظمة شيئاً سوى جعل اسم دولته "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"، فبدلاً من إنفاق ثروات بلاده في تنميتها، أنفقها على بناء مجد شخصي وشراء أسلحة لا تحتاجها بلاده، إضافة إلى تعيين حارسات شخصيات حسناوات لم ينفعنه حين ثار شعبه عليه، وها هي ليبيا اليوم أقرب لما يتم تسميته في الأعراف السياسية بـ"الدولة الفاشلة"، دولة غير قادرة على القيام بالوظائف والمسؤوليات الأساسيّة لشعبها، بسبب عقود غيبت فيها الكفاءات.

يؤكد ما سبق أن غياب الكفاءات وتغلغل الفساد يساهمان في انهيار الدول وإضعافها، فحين تصبح مؤسساتها هشة وفاشلة تنعدم قدرتها على التعامل والتفاعل مع الأزمات والمؤثرات الداخلية والخارجية بكفاءة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)