- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب استنزاف عالمية
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب استنزاف عالمية
- 29 يوليو 2023, 5:46:41 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل من جديد في حرب أوكرانيا؟ ليست القصة طبعا في «الهجوم المضاد» الذي يتعثر، ويترنح إلى الآن على صخرة الدفاعات الروسية الحصينة في الشرق والجنوب، ولا القصة في غارات مسيرات أوكرانية على موسكو وشبه جزيرة القرم و»جسر كيرتش» و»بيلغورود» وغيرها، فهذه كلها ألعاب دعائية ومعنوية ورمزية، ومن دون أثر حربي ملحوظ، وطلقات دخان طائش، ربما لإخفاء التحول الأخطر في سيرة الحرب، التي كانت من بدايتها ذات طابع عالمي، ثم صارت عالمية كاملة الأوصاف، وإن ظلت مقيدة جغرافيا بحدود أوكرانيا، ومسقوفة حربيا بعدم التورط في صدام بالسلاح النووي، لكن الجديد الذي طرأ في الأيام الأخيرة، أن جبهات الصدام بالسلاح، تتداخل وتندمج جغرافيا الآن مع جولات الصدام على جبهة الاقتصاد، وتتحرك قوافل الحرب من البر إلى البحر، وبالذات منذ قرار روسيا الأخير بالخروج من اتفاق الحبوب، ثم إعلان موسكو إغلاق «البحر الأسود» أمام سفن الحبوب المقبلة من الموانئ الأوكرانية، واتجاهها لتدمير ميناء «أوديسا» وغيره، مما تبقى صالحا للعمل في خدمة كييف، وإلى حد قصف ميناء «ريني» الأوكرانى عند نقطة التقاء البحر الأسود مع نهر «الدانوب»، وعلى بعد خمسمئة متر فقط لا غير من حدود رومانيا العضو في حلف شمال الأطلنطي «الناتو».
ويبدو الهدف الروسي القريب في تمام الوضوح، فموسكو تريد خنق أوكرانيا تماما من كل الجهات، وإنهاء فسحة عام اتفاق الحبوب، الذي تمكنت كييف فيه من تصدير ملايين من أطنان الحبوب، بينها ثمانية ملايين طن من القمح، لا تشكل سوى 4% من تجارة القمح العالمية، المقدرة بنحو 200 مليون طن سنويا، وتحتل فيها روسيا مكانا متقدما، وباستعداد لتصدير ما يصل إلى 50 مليون طن سنويا، تواجه مصاعب العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، التي زاد عددها إلى اليوم على 15 ألف عقوبة، لم تحقق الهدف المراد في خنق الاقتصاد الروسي، الذي تجاوز بسلاسة عواقب تفجير خطي أنابيب «نورد ستريم»، وامتناع أغلب الدول الأوروبية عن شراء الغاز والبترول الروسيين، وفرض سقف أسعار للمنتجات البترولية الروسية، رفضته موسكو، وامتنعت عن التصدير المباشر لمن تسميهم «الدول غير الصديقة»، وهم طائفة واسعة من الدول على رأسها أمريكا، عوضتها موسكو بالاتجاه شرقا وجنوبا، وتكثيف تصدير الطاقة بالتعاون مع الصين والهند والشرق الأوسط، وراحت تبيع منتجاتها البترولية والغازية بأسعار تفضيلية مخفضة للأصدقاء، زادت بحكم احتياجات السوق، إلى ما فوق سقف الستين دولارا لبرميل البترول، ودعمتها علاقات جيدة مع المملكة العربية السعودية وغيرها في منظمة «أوبك» وفي «أوبك بلس»، وبأسطول بحري ضخم بديل عن سفنها التجارية الخاصة، وصار الكل حتى في الغرب الأوروبي، يشترون الغاز والبترول الروسي، عبر وسطاء ومستفيدين محظوظين، فوق استمرار أمريكا والغرب في الاستيراد النشيط للوقود النووي الروسي، واستثناء اليابان لنفسها من حظر الغاز الروسى وتسقيف الأسعار، وربما تسعى روسيا لتكرار تجربة النجاح ذاتها في مجالات تصدير القمح والحبوب والأسمدة، وبوسائل متداخلة، تركت فيها الباب مواربا لإمكانية العودة إلى اتفاق الحبوب، وبشروط إلغاء العقوبات الغربية كافة المتصلة بالمجال الحساس، بينها إعادة ربط «البنك الزراعي الروسي» وبنوك أخرى بنظام الدفع «سويفت» المتحكم به غربيا، ورفع الحظر عن الآلات والماكينات الزراعية، والتأمين المالي والفني لسفن الحبوب والأسمدة الخارجة من روسيا، وبدت هذه الشروط وغيرها، كأنها دعوة لإذعان الغرب لإرادة موسكو، والتفكيك التدريجي للعقوبات الغربية بأكملها، أو كأنها هجوم روسي مضاد على جبهة الاقتصاد، وعلى جبهة الأمن الغذائي العالمي بالذات، دعمته موسكو بإجراءات عسكرية خشنة في البحر الأسود، بدعوى أن سفن الحبوب الداخلة إلى، أو الخارجة من موانئ أوكرانيا، يحمل بعضها أسلحة وقذائف وزوارق مسيرة ذاهبة إلى أو مقبلة من أوكرانيا، مع رفع درجة تأهب سفن ومدمرات الأسطول الروسي الحربي، وتهديدها بتوقيف أو بإغراق أي سفينة تجارية تخالف الحظر الروسي، وهو ما ردت عليه أوكرانيا بالمثل قولا، ولكن من دون مقدرة أوكرانية على فعل المثل الروسي، ومن دون استعداد تركيا وسيط الاتفاق وعضو «الناتو» لمساعدة كييف، فقد أعلنت أنقرة بوضوح، أنه لا استئناف لاتفاق الحبوب من دون روسيا، ولا من دون تنفيذ الشروط الروسية الواردة أصلا في نص الاتفاق المصادق عليه من «الأمم المتحدة»، ما يضع أمريكا و»الناتو» والغرب كله في الزاوية الحرجة، فقد لا يمكنهم القبول علنا وعاجلا بشروط موسكو، وإلا عدّ ذلك هزيمة جديدة للغرب أمام روسيا، وليس بوسعه أيضا، أن يناصر حليفه وتابعه الأوكراني الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ولا أن يتجاوب مع مطالبه الملحة، بأن ترافق وتحمي سفن «الناتو» الحربية كل سفينة حبوب تجارية تأتي من أوكرانيا، لأنه لو فعل افتراضا، فإنه يخالف رغبة واشنطن في تجنب الصدام المباشر مع الجيش الروسي، خشية أن يتطور الصدام إلى حرب نووية مفتوحة، تملك فيها روسيا عناصر التفوق الحاسم في المخزون النووي وصواريخ يوم القيامة، خصوصا مع تضاعف حوادث التحرش الروسي بالطائرات والمسيرات الأمريكية، من البحر الأسود، حتى سماء سوريا، ومع توثق عرى ومناورات التحالف العسكري الروسي الصيني في المحيط الهادئ، وكلها مما ينذر بمخاطر ماحقة، تريد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تحاشيها، وبالذات مع اقتراب موسم عام الانتخابات الرئاسية، التي تشير استطلاعات الرأي المبكرة فيه، إلى تدهور حظوظ بايدن، وعلو كعب منافسه المحتمل دونالد ترامب، في الوقت الذي لا يملك فيه الحلفاء الأوروبيون فرصة ميسرة لإنقاذ قمح وحبوب أوكرانيا، ولا لتأمين استخدام مسار نهر الدانوب، بديلا عن الحصار الروسي في البحر الأسود، خصوصا مع رفض خمس من دول أوروبا الشرقية، وكلها من أعضاء (الناتو) و(الاتحاد الأوروبي)، أن تسهل نقل منتجات الحبوب الأوكرانية «الرخيصة» إليها أو عبر أراضيها، بسبب منافستها لمنتجاتها الزراعية، وغضب مزارعيها ونقاباتهم، وهو ما كان الاتحاد الأوروبي قد استجاب له، وفرض حظرا ساريا على المنتجات الأوكرانية حتى سبتمبر المقبل، تطالب الدول المعنية المتضررة بتجديده.
تبدو موسكو مستعدة للاستطراد في عملياتها العسكرية المتمهلة الصبورة إلى سنوات طويلة، وتلتزم اليوم بموقف دفاعي غالبا، تحافظ فيه على ما ضمته فعلا من الأراضي الأوكرانية
والمحصلة، أن روسيا أفشلت حتى اليوم الهجوم الغربي المضاد عسكريا، وأحبطت رهان واشنطن على الجدوى الحربية للأسلحة المتدفقة بلا حساب إلى الميدان، فوق مساعدات ومنح إعاشة من تبقى من الأوكران، التي زادت كلها حتى اليوم من الغرب كله نحو 500 مليار دولار، وهو ما يعني استنزافا رهيبا متصلا للأموال ولسمعة السلاح الغربي المحترف، ومن دون أمل ظاهر في دفع روسيا إلى تفاوض مريح للغرب، يحفظ فيه بعض ماء وجهه الغائض، فيما تبدو موسكو مستعدة للاستطراد في عملياتها العسكرية المتمهلة الصبورة إلى سنوات طويلة، وتلتزم اليوم بموقف دفاعي غالبا، تحافظ فيه على ما ضمته فعلا من الأراضي الأوكرانية، وربما تضيف إليها باتجاه ميكولاييف وأوديسا، مع انقلاب الموقف الحربي على الجبهات الطويلة، بعد استنزاف طاقة المقاتلين الأوكرانيين والفيالق الأجنبية، وبهدف تحويل أوكرانيا إلى «أفغانستان جديدة» للغرب كله، ولواشنطن بالذات، وعلى قصد أن ينتهي مصير زيلينسكي، إلى ما انتهي إليه الرئيس الأفغاني الأخير الهارب أشرف غني، وأن تكتفي واشنطن من الغنيمة بالإياب المخزي، ومن جانبها، تعاند الإدارة الأمريكية طبعا، وعلى أمل هزيمة الرئيس فلاديمير بوتين وتفكيك روسيا، وهو الرهان الذي خاب مع ما سمي «تمرد فاغنر»، ثم قذف بوتين لكرة «فاغنر» الملتهبة إلى حدود بولندا الأطلنطية عبر بيلاروسيا، وإعلان المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية عن الحاجة إلى تجنيد آلاف الجواسيس من داخل روسيا، وتدبير انقلاب ضد بوتين، الذي يبدو في كامل قوته الشعبية وتألقه الذهني، ويواصل ألعاب «الشطرنج» مع عواصم الغرب، ويحظى بدعم أكبر من الصين الزاحفة إلى عرش العالم الجديد، ومن تحالفات العالم الجديد الاقتصادية، لمنظمة «بريكس» وجماعة «شنغهاي» وغيرها، وحتى من الدول الافريقية المتضرر الأكبر من أزمة الغذاء العالمي وغلاء أسعار القمح، وقد ذهبت هذه الدول إلى بوتين في «القمة الروسية ـ الافريقية»، وفي منتدى «سان بطرسبرغ» الاقتصادي، الذي يتخذه بوتين منصة لكسب تعاطف وتأييد شعوب الجنوب العالمي عامة، ويعرض استعداد روسيا وحدها لحل مشاكل وأزمات الغذاء العالمية كافة، وتصدير منتجاتها الهائلة من القمح والحبوب والأسمدة بأسعار تفضيلية مخفضة لأصدقاء روسيا، أو حتى منح القمح مجانا للمحتاجين غير القادرين على الدفع، وهكذا يستنزف بوتين، وينسف ادعاءات الغرب، التي تتهم روسيا بأنها وراء أزمة الجوع في العالم