- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
عبدالحميد توفيق يكتب: أزمة أوكرانيا.. وشيءٌ من دفاتر الحروب والأزمات
عبدالحميد توفيق يكتب: أزمة أوكرانيا.. وشيءٌ من دفاتر الحروب والأزمات
- 10 أبريل 2022, 12:55:55 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عبدالحميد توفيق
لكل حرب دوافعها ومسبباتها وغاياتها.
القاسم المشترك لجميعها يفصح عن أن الأكثر صعوبة وخطورة لا يكمن في مسار الحرب وتبعاتها المباشرة على المتقاتلين وعلى الضحايا من الأبرياء وعامة الناس فحسب، بل يتعلق بمرحلة ما بعد نشوبها وبعملية التحكم في مساراتها، وبكيفية معالجة جروحها العميقة التي تحدثها أدواتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية لدى جميع الأطراف.
وقد استدعى النزاع الروسي-الأوكراني إلى حيز الذاكرة بعضاً من صفحات الحروب والأزمات الكبرى التي عصفت بالبشرية. "لن يموت الرجال دائماً بهدوء".. عبارة دوّنها عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز في كتابه "العواقب الاقتصادية للسلام"، الذي نشره عام 1919. "كينز 1883-1946" كان أحد المشاركين في مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب العالمية الأولى، والذي نظمته دول الحلفاء مع الإمبراطورية الألمانية عام 1919، بصفته مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء البريطاني لويد جورج.
خرج المؤتمر، كما هو معروف، بمعاهدة "فرساي"، التي حمّلت ألمانيا كامل المسؤولية عما أفضت إليه الحرب العالمية الأولى، وفرضت عليها مديونية هائلة كتعويضات عن الدمار الذي أحدثته الحرب.
ولكونه عالمَ اقتصاد وصحفيا وخبيراً ماليا، جاهر "كينز" برفضه الشروط القاسية والعقوبات المفروضة على ألمانيا، معتبرا إياها "غباءً أكثر منها غير أخلاقية"، وفقا لما عرضه في كتابه المذكور. وقدم براهين عدة تدعم وجهة نظره القائلة إن "التحامل على ألمانيا سيكون سببا في ظهور أسوأ ما نتوقع".
وبعد استسلام برلين عام 1918 وتوقيع معاهدة "فرساي" 1919، استقال "كينز" من عمله في وزارة الخزانة البريطانية احتجاجا على تجاهل السياسيين لآرائه وملاحظاته، وإهمالهم تحذيراته من مغبة النتائج التي ستترتب على قهر ألمانيا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعد سحقها عسكريا وخنقها بالعقوبات القاسية، واختار لإحدى رسائله إلى والده في تلك الفترة عنوان "خراب أوروبا".
تنبأ في رسالته تلك بمصير قاتم لقارته وقتذاك.
لم يخِبْ حدسُ عالم الاقتصاد الإنجليزي، فالترتيبات المالية لمعاهدة "فرساي" دفعت أوروبا إلى الخراب الاقتصادي، وإلى بزوغ بعض النظم الديكتاتورية فيها، وإلى اندلاع عدد من الحروب داخلها، وترتبت عليها لاحقا الحرب العالمية الثانية، التي بلورت نهاياتُها عالَماً ثنائي القطبية تقاسمته القوتان المنتصرتان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، دون انطفاء جذوة الصراع بينهما، الذي اتخذ صيغة حرب باردة استمرت حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي عندما بدأ الاتحاد السوفييتي يتداعى وصولا إلى تفككه، منذرًا بنهاية الحرب الباردة وبزوغ نظام القطب الواحد بزعامة واشنطن، فدخلت العلاقات الدولية حقبة من الاضطراب وعدم الاستقرار، وتنامت النزعات الفوقية بين النخب والنظم السياسية الغربية بقيادة الأمريكيين تجاه الصيغ حديثة الولادة للأنظمة وللدول التي ظهرت بعد أفول الكتلة السوفييتية.
ومع ذلك ظل الغرب متمسكا بخيار دمج القادمين الجدد في مؤسساته وهياكله ضمن شروطه، فكان لبعضها ما أراد مبكرا.
في ثنايا هذا المشهد الناشئ أوروبياً ودولياً بداية التسعينيات، كانت أوكرانيا حاضرة في إحدى زواياه، ففي شهر أغسطس عام 1991 كان الرئيس الأمريكي الأسبق، الجمهوري، جورج بوش الأب، يزور أوكرانيا بالتزامن مع انهماك الأوكرانيين بالإعداد لاستفتاء شعبي عام بشأن الاستقلال النهائي لدولتهم الوليدة.
خلال تلك الزيارة، ألقى الرئيس "بوش الأب" خطابا حذر فيه من مغبة بروز ما أسماه "القومية الانتحارية" في بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق في حال تم تصعيد خطوات الضغط والابتزاز والتهديد تحت اسم الانتصار الغربي الأطلسي.
لم يَطُل الوقتُ حتى انهار تحذيره وتم دفنه حين غيرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من كلينتون إلى بوش الابن إلى باراك أوباما، مسارها السياسي، وأمعنت في تفعيل مبادئ استراتيجيتها التي كانت معتمدة سابقا في صراعها ضد الاتحاد السوفييتي قبل تفككه ضد روسيا الاتحادية، ومارست أولى الضغوط عليها بدمج دول الكتلة السوفييتية السابقة في هياكل الناتو والاتحاد الأوروبي تدريجيا، واستقطبت في مرحلة أولى إحدى عشرة دولة منها، واستكملت في قمة الناتو في بوخارست عام 2008 خطواتها بدعوة أوكرانيا وجورجيا للانضمام للحلف بدعم وضغط الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، لكنه واجه رفضا صريحا للخطوة من جانب ألمانيا وفرنسا تحسبا لاستعداء موسكو، وتم تجميد الخطوة دون إلغائها.
هل من وجوه شبه بين سياسة الغرب ضد ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدا ما تعلق منها بالعقوبات الاقتصادية القاسية، وبين سياسة واشنطن والغرب ضد روسيا بسبب النزاع مع أوكرانيا حاليا؟
الملامح الأولية تشير إلى ذلك.. والسؤال الأكثر حضورا: ما الطريقة التي يمكن أن تنهي هذا النزاع وتطوي صفحة تبعاته؟ وهل لا يزال ذلك ممكنا؟.. المؤكد أنه لا بد من نهاية لأي حرب مهما طال وقتها واشتد أوارها.. فالتاريخ يخبرنا بأن من يمتلك الإرادة والقدرة على رسم معالم نهايات الحرب يمكنه هو فقط أن يحصد نتائجها ويوظفها في ترسيخ وجوده وفرض شروطه واستثمارها بما يحقق مصالحه.