-
℃ 11 تركيا
-
9 مارس 2025
عبدالحليم قنديل يكتب: عشر دقائق هزت أوروبا
عبدالحليم قنديل يكتب: عشر دقائق هزت أوروبا
-
8 مارس 2025, 11:06:11 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ربما لم تبق وسيلة إعلام واحدة فى العالم، لم تنشر أو تذع النصوص والمشاهد الكاملة لجلسة تأديب وتعنيف الرئيس الاوكرانى المسكين "فلوديمير زيلينسكى" على يد الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ونائبه المتنمر "جى. دى . فانس".
جرت وقائع العشر دقائق الصاخبة فوق بضعة أمتار ومقاعد داخل المكتب البيضاوى، لكن زلازلها راحت تهز الدنيا كلها وأوروبا بالذات، وتنسف كل مراسم وقواعد الدبلوماسية المتحضرة، وبدت البلطجة مدبرة من لحظة وصول "زيلينسكى". فقد تظاهر "ترامب" بامتداح أناقة "زيلينسكى" وقميصه الزيتى على الباب، ثم فوجئ المسكين بصحفى حاضر ينتقد زيه غير الرسمى الذى لا يليق، ثم افتتح نائب الرئيس "فانس" جلسة التأنيب، وحاول "زيلينسكى" الدفاع عن نفسه دون جدوى.
فقد اتهم بعدم تقديم ما يكفى من أمارات الامتنان للسيد "ترامب"، الذى كشف للرئيس الأوكرانى عدم حيازته لأية أوراق لعب أو تفاوض، وأنه يقف ـ أى "ترامب" ـ فى صف واحد مع العالم، ويريد إنهاء حرب أوكرانيا، وأن "زيلينسكى" يخاطر بإشعال حرب عالمية ثالثة.
وحين قال "زيلينسكى" هل يمكننى الرد ؟، قاطعه "ترامب" لا.لا. لقد قلت الكثير"، و"بلدك فى مأزق خطير"، و"أنت لا تنتصر"، و"لديك فرصة للخروج من هذا الوضع بسلام بفضلنا".
ووصل "ترامب" إلى الذروة بقوله المهدد للرئيس الأوكرانى "هل تريدنى أن أكون صارما، يمكننى أن أكون أكثر صرامة من أى شخص قابلته فى حياتك، سأكون صارما للغاية "، وتطور التلاسن من قبل ومن بعد، حتى كان قرار "ترامب" بطرد "زيلينسكى"، وتقديم الطعام الذى كان معدا للضيف إلى موظفى البيت الأبيض.
بعدها، حاول "زيلينسكى" حفظ ما تبقى من ماء وجهه بحوار مع شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، حاول فيه التأكيد أنه لم يخطئ فى حق "ترامب". وكرر الشكر للإدارة والشعب الأمريكى على دعم أوكرانيا فى حرب الثلاث سنوات إلى الآن. ثم عبر المحيط الأطلنطى إلى العاصمة البريطانية "لندن"، ولقى هناك حفاوة واحتضانا بريطانيا وأوروبيا، ووعودا سخية من القادة الأوروبيين بتقديم دعم إضافى قيمته عشرين مليار يورو أسلحة.
وبعد صراخ التحدى الهيستيرى الأوكرانى المدعوم أوروبيا، عاد "زيلينسكى" بعد يوم وساعات من امتداح شجاعته، وأعلن ندمه وأسفه على ما جرى فى البيت الأبيض.
وقال أنه مستعد للتوقيع فورا على "صفقة المعادن الكبرى" التى طلبها "ترامب"، وعلى أية صيغة وصورة يريدها، وأنه مستعد للعمل من أجل السلام تحت "القيادة القوية" للرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" .
بدا الأمر كله كما لو كان قصة صغيرة متكررة بطول وعرض التاريخ البشرى، فمن لا يعتمد على نفسه يلقى هوانا، حتى ولو كان بعيدا عن الكاميرات، وإن كان حظ "زيلينسكى" أتعس مع حضور الكاميرات.
فقد تصور "زيلينسكى" أنه بطل خارق للعادة، ولعبت الميديا الغربية دورا هائلا فى تلميع واصطناع صورته، وفى أمريكا ذاتها، كان يذهب ليلقى استقبال الأبطال الفاتحين فى الكونجرس ووسائل الإعلام، وفى الجلسات المسترخية أمام المدفأة مع الرئيس السابق العجوز "جو بايدن"، ثم جاءه الذى تعود على السخرية من "بايدن"، واتهامه بالغباء لتقديمه 350 مليار دولار دعما للرئيس الأوكرانى فى حرب خاسرة، ومن دون أن يتلقى فى المقابل غير الخسران و"سواد الوش"، وتوريط واشنطن فى هزيمة فادحة أمام روسيا.
وقد اعتبر "ترامب" أن "زيلينسكى" من أتباع "بايدن"، وأراد مع نائبه "فانس" التنكيل بسلفه "بايدن" فى شخص "زيلينسكى".
قال "فانس" مباشرة للرئيس الأوكرانى "قمت بالترويج للمعارضة (جماعة بايدن) فى بنسلفانيا فى أكتوبر الماضى . ألا يمكنك أن تقدم بضع كلمات تقدير للولايات المتحدة . وللرئيس ترامب الذى يحاول إنقاذ بلدك ". ثم دخل "ترامب" مباشرة فى الموضوع، وقال للرئيس الأوكرانى: "أنت محاصر هناك . الناس يموتون . أنت تفتقر إلى عدد كاف من الجنود . هذا فى الواقع سيكون أمرا جيدا . ثم تقول لا أريد وقف إطلاق النار . أريد المضى قدما . انظر . إذا كان بإمكاننا تحقيق وقف إطلاق النار الآن . سأنصحك بقبوله . حتى يتوقف الرصاص عن الطيران . ويتوقف رجالك عن الموت".
وحين عقب "زيلينسكى": "دعنى استشر شعبنا عن رأيهم فى وقف إطلاق النار"، عاد "ترامب" فصدمه "هذا لا يعنينى" ؟ وأضاف: "لقد تجاهلوا بايدن . ولم يظهروا له أى احترام ومع ذلك فهم (الروس) يحترموننى. بوتين تحمل الكثير خلال فترة عملنا معا . واجه مطاردة ساحرات ملفقة تضمنته . وتردد روسيا . روسيا . روسيا هل سمعت عن ذلك ؟ كان ذلك جزءا من مخطط خادع يتعلق بهانتر بايدن وجو بايدن . هيلارى كلينتون . آدم شيف المخادع . كانت خطة ديمقراطية. كان عليه أن يتحمل ذلك وقد تحمله . لم ننته إلى الحرب (....) واجه بوتين اتهامات تعلق بأمور مختلفة . كل ما يمكننى قوله هو . ربما انتهك بوتين اتفاقات مع أوباما وبوش . وربما فعل الشئ نفسه مع بايدن . ربما فعل . ربما لم يفعل . لست متأكدا مما حدث . ومع ذلك لم ينتهك اتفاقات فى وجودى . إنه مهتم بعقد صفقة ( . . .) ومع ذلك أنت لم تظهر أى تقدير على الإطلاق، وهذا حقا غير لطيف ( . . .) حسنا . اعتقد أننا رأينا ما يكفى الآن . يمكننى أن أقول . هذا سيكون بثا تليفزيونيا رائعا .. لنر ما يمكننا فعله حيال ذلك . دعونا ننهى ونغادر".
هكذا أنهى "ترامب" وصلة غرامه وإعجابه بالرئيس الروسى "بوتين" مشفوعة بتعنيف الرئيس الأوكرانى، ثم كان الطرد بلا مصافحة وداع.
وفى حين بدا لساعات عابرة بعدها، أن أوروبا على استعداد لاحتضان "زيلينسكى"، وتعويضه عن فراق أمريكا، فإن أمواج التحدى تكسرت بسرعة، وراح "ترامب" يهوى بالمطارق فوق رأس أوكرانيا وأوروبا معها، وصدر عن وزير دفاعه قرار بوقف الهجمات السيبرانية الأمريكية على روسيا، ثم أتبعه "ترامب" بقرار وقف المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا.
وبدت موسكو متحمسة لهذه القرارات، وطامحة إلى مزيد منها، بينما ابتلع "زيلينسكى" اعتراضاته، وعرض التوقيع الفورى على اتفاقية استنزاف المعادن الأوكرانية النادرة على النحو الذى يريده "ترامب"، وقيمتها فى أدنى تقدير 500 مليار دولار، توضع كلها فى صندوق لصالح الخزانة الأمريكية، وكتعويض مباشر عن 350 مليار دولار منحتها واشنطن إلى "كييف".
كان "زيلينسكى" يجادل بأنها لا تزيد على 120 مليار دولار (!)، بينما لم تعد أوروبا تحتج على فظاظة "ترامب"، وتريد فقط أخذ نصيبها من المعادن الأرضية النادرة فى أوكرانيا مقابل ما دفعته فى حرب خسرها الغرب كله، مع تظاهر الاتحاد الأوروبى ومعه بريطانيا بطرح خطة سلام، ووقف إطلاق نار، يريد "زيلينسكى" أن يجعله مقصورا على البحر والجو، بينما لا تبدى موسكو رغبة فى وقف القتال اليوم، وتصر على تحقيق كامل أهدافها فى حرب أوكرانيا، واعتراف الغرب كله بحقائق الأمر الحربى الواقع، والتسليم بسيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم والأقاليم الأربعة شرق نهر "دنيبرو"، مع رفض وجود أى قوات أوروبية فى غرب أوكرانيا تحت عنوان حفظ السلام أو غيره.
ولا يبدى "ترامب" رغبة فى منح حماية أمريكية لقوات أوروبية فى أوكرانيا، وتكتفى إدارته بإتمام اتفاقية المعادن لصالحها، واعتبارها فى ذاتها ضمانة كافية تقدمها واشنطن، مع الاستعداد المتدرج لإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، واستحداث مشاركات مع الروس للتنقيب عن المعادن فى أراضى روسيا ذاتها، أو فى الأراضى التى أضافتها روسيا من شرق وجنوب أوكرانيا .
وبالجملة، بدت العشر دقائق الصاخبة بالمكتب البيضاوى ظاهرة فى مغزاها، وناطقة بملامح الاتفاق الذى يسعى إليه ترامب مع روسيا.
فالرجل المتسلط المفترى على "زيلينسكى "، لن يكف عنه حتى يخلعه من رئاسة أوكرانيا، ويرميه طعاما للدب الروسى، ويصدم أوروبا بكشف هشاشتها السياسية والعسكرية، وجعل استقلالها الدفاعى سرابا، ويخضعها لما ينوى اتخاذه من إجراءات خشنة، تلزمها بالخضوع التام، ومضاعفة ما تدفعه لواشنطن مقابل حمايتها، إضافة لمضاعفة الرسوم الجمركية المفروضة على صادراتها إلى واشنطن، وإرغامها على استيراد البترول والغاز الأمريكى، وفرض نظم حكم يمينية شعبوية "ترامبية" على عواصم أوروبا، وتجريدها من مزايا الحماية الأمريكية، وربما من حماية المظلة الأمريكية النووية، إن لم تدفع نصف التكلفة السنوية لحلف شمال الأطلنطى "الناتو"، وإعفاء واشنطن من فوائض عبء نحو تريليون دولار تدفعها سنويا، فترامب يريد جعل أمريكا عظيمة حتى لو حطم الغرب كله ودهس الحلفاء الأقربين.
Kandel2002@hotmail.com









