صادق الطائي يكتب: إشكالية هويتنا في مئوية الدولة العراقية

profile
صادق الطائي كاتب عراقي
  • clock 20 ديسمبر 2021, 10:02:30 ص
  • eye 532
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

احتفلت المؤسسات الرسمية في العراق يوم 11 كانون الأول/ديسمبر الجاري بمؤية الدولة العراقية، ولا أحد يعلم لماذا تم اختيار هذا التاريخ بالتحديد، ولم يصدر بيان رسمي من الجهات الحكومية يوضح الأمر، لكن يبدو إن جهات حكومية أرادت الاحتفال في هذا العام، لأنه يتصادف مع مرور قرن على تتويج الملك فيصل على العراق، فأرادت اللحاق بالعام قبل نهايته بأيام.

ربما تم الاحتفال نتيجة عدم الاتفاق على العيد الوطني للعراق، وهي مسألة لم يحسمها البرلمان العراقي، منذ التغيير الذي حصل عام 2003، إذ لم يتم الاتفاق على اعتبار تتويج الملك فيصل بن الحسين الملك المؤسس للمملكة العراقية الحديثة في 23 آب/أغسطس عيدا وطنيا للبلد، لأن قطاعا من العراقيين رفضوا ذلك وهاجموا العهد الملكي بكل ما فيه، بل اعتبروه نموذجا لنظام الحكم «الدمية» الذي نصبت مليكه بريطانيا ليخدم مصالحها، كما رفض أصحاب هذا الرأي مقترحا آخر، تم طرحه حول اختيار 3 تشرين الأول/أكتوبر عيدا وطنيا، باعتباره تاريخ انتهاء الانتداب البريطاني على العراق رسميا، ودخول العراق إلى عصبة الأمم كدولة ذات سيادة كاملة. وحجة الرافضين لهذا الاقتراح إن هذا اليوم هو مجرد تاريخ قبول انضمام العراق لمنظمة دولية، وبالتالي لا قيمة تاريخية حقيقية له.

فتحت الاحتفالات الرسمية بمئوية الدولة العراقية قبل أيام، سجالا قديما متمحورا حول واقعية وجود دولة (العراق)، وإن أصحاب الرأي القائل لا وجود لبلد اسمه العراق تاريخيا، وإنه دولة مفبركة أوجدها الأنكليز عبر إلصاق ثلاث ولايات عثمانية، لا تصمد طروحاتهم أمام التمحيص والتدقيق التاريخي.


بينما يحاجج أصحاب المقترح والداعين له مثل الدكتور عقيل عباس أستاذ العلوم السياسية بالقول؛ «يخطئ الكثيرون عندما يحاججون أن الثالث من أكتوبر 1932، يوم انضمام العراق لعصبة الأمم، لا يستحق أن يعتبر عيداً وطنياً، لأنه يعني مجرد دخول العراق الى منظمة دولية، وبالتالي لا صلة حقيقية له باستقلال العراق، إذ ينطوي مثل هذا التفكير على جهل واضح بتاريخ البلد، أو سوء فهم عميق له على الأقل، لأنه لا ينتبه إلى الصيرورة المهمة والصعبة التي مرّ بها العراق، بعد سنوات ولادته الأولى كدولة، كي يكتمل تشكله تدريجياً كدولة مستقلة ومتماسكة. فكان الثالث من أكتوبر لحظة مهمة ومفصلية في هذه الصيرورة الطويلة التي لم تنته لحد الآن». على الجانب الآخر يرفض مناصرو العهد الملكي الاحتفال بـ 14 تموز/يوليو كعيد وطني باعتباره انقلابا قاده العسكر، وأطاح النظام الملكي والشرعية الدستورية، وفتح الباب لسلسلة انقلابات دموية دمرت البلد. والنتيجة بقاء موضوع اختيار يوم العيد الوطني العراقي هلاميا وسجاليا، لذلك فتحت الاحتفالات الرسمية بمئوية الدولة العراقية قبل أيام، سجالا قديما متمحورا حول واقعية وجود دولة (العراق) وتمت استعادة طرح فكرة أنها دولة «ملفقة» لملمها البريطانيون بعد انتصارهم على العثمانيين في الحرب العالمية الاولى، وبالتالي تم تشكيل دولة اسمها (ميزوبوتاميا) أي بلاد النهرين أولا، ثم صار الاسم الرسمي لها (العراق) الذي تكون من تجميع ثلاث ولايات عثمانية سابقة هي الموصل وبغداد والبصرة. إن مسألة الوجود التاريخي للدول، واستمرار أشكالها الإدارية والسياسية، موضوع كبير وشائك وفيه الكثير من التفاصيل، لكن يمكننا ذكر حقيقة بسيطة ومؤكدة هي؛ إن الدول لا يمكن ان تستمر على حالها على مدى التاريخ، بل إن كل الدول في التاريخ الإنساني مرّت بتغيرات سياسية وإدارية، وانعكس ذلك على أسمائها وحدودها وعلى علاقة سكانها ببعضهم بعضا، باعتبارهم أبناء وطن واحد، والعراق تنطبق عليه هذه القاعدة بالتأكيد. إلا ان البعض يقدمون معلومات غير حقيقية مفادها عدم وجود العراق بحدوده الحالية قبل 1921، ويشيرون الى عدم ذكر اسم (العراق) في المصادر التاريخية، أو في الشعر العربي القديم. وهنا استعير ردا من كتاب سالم الآلوسي المعنون «اسم العراق، أصله ومعناه عبر العصور التاريخية» إذ يقول معددا ورود ذكر تسمية العراق في كتب التاريخ العربي في الحضارة الإسلامية فيقول؛ وردت تسمية (العراقان) التي ظهرت في العصر الأموي، إذ أطلقت على كل من البصرة والكوفة لأنهما عاصمتا البلاد، وكان ذلك يوم ضم معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبيه والي الكوفة وجمع له البصرة، لما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة .

أما أصل وسبب تسمية هذا الجزء باسم (العراق) فيورد الآلوسي مجموعة آراء منها ما ورد في كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، إذ وردت كلمة (العراق) بمعنى شاطئ البحر، ويشير الفراهيدي الى إنه سمي عراقاً؛ لأنه على شاطىء دجلة والفرات حداً حتى يتصل بالبحر على طوله، وأهل الحجاز يسمون ما كان قريباً من البحر عراقا .وفـي كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر» يذكر المسعودي؛ أن العراق سمي عراقاً لمصب المياه إليه كدجلة والفرات وغيرها من الأنهار، أما في «الاحكام السلطانية» للماوردي، فيذكر؛ إنه سمي عراقاً لاستواء أرضه حين خلت من جبال تعلو وأودية تنخفض، والعراق في لغة العرب الاستواء. أما في الشعر العربي القديم، فقد ورد اسم العراق كثيرا، وهنالك شواهد لا تحصى، نورد منها على سبيل المثال لا الحصر قول الأعشى، وهو من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس، غزير الشعر، وليس هناك أحد ممن عرف قبله أكثر شعرا منه، إذ قال :

طَعامُ العِرَاقِ المُستَفيضُ الذي تَرى وفي كلّ عامٍ حلّة ٌ ودراهمُ

كما يرد اسم العراق في قصائد الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد العبسي صاحب السيرة الأسطورية في الأدب الشعبي العربي، إذ طلب الزواج من ابنة عمه عبلة واشترط عليه عمه صداقاً من إبل النعمان المعروفة بـ(النوق العصافير) فذهب إلى العراق وسجنه النعمان بن المنذر الذي التقاه في يوم النحس، فقال :

ترى عَلِمَت عُبَيلَةُ ما أُلاقي *** مِنَ الأَهوالِ في أَرضِ العِراقِ

طَغاني بِالرِيا وَالمَكرِ عَمّي *** وَجارَ عَلَيَّ في طَلَبِ الصَداقِ

فَخُضتُ بِمُهجَتي بَحرَ المَنايا *** وَسِرتُ إِلى العِراقِ بِلا رِفاقِ

أما الشاعر الاموي الشهير قيس بن الملوح المعروف بـ(مجنون ليلى) فله بيتان من الشعر اشتهرت بشكل كبير يرد فيهما ذكر العراق عندما يقول:

ألا يا حمامات العراق أعنني *** على شجني، وابكين مثل بكائيا

يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ *** فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

وإذ أردنا الاستمرار في إيراد أبيات الشعر التي ورد فيها اسم (العراق) فسنحتاج إلى عدة مجلدات، لكن لا ضير من أن نختتم بذكر أشهر شعراء العربية أبو الطيب المتنبي الذي قال مادحا سيف الدولة الحمدانـي:

كيف لا تأمن العراق ومصر وسراياك دونها الخيـول

وهنا سيرد أكثر من صوت، إن كل ذلك صحيح، لكن هذا الكلام لا يشير إلى العراق بحدوده الحالية التي رسمت على أسس معاهدة سايكس- بيكو عام 1916، والتي طبقت على أرض الواقع عام 1921 باستيراد أحد أبناء الشريف الحسين بن علي ليتوج ملكا على عرش العراق. وهنا لا بد من تكرار الإشارة إلى أن الكيانات السياسية أو الإدارية للدول دائمة التغير، تبعا للظروف والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية، هذا الأمر ينطبق على كل بقاع العالم، فالامبراطوريات التي كانت تضم دولا متعددة تفتت لتولد منها دول جديدة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك في منطقة الشرق الأوسط، يمكننا الإشارة إلى أن أقدم دولة حافظت على كيانها المتعارف عليه هي الدولة المصرية، ومع ذلك كانت هذه الدولة حتى عام 1954 تختلف بشكل كبير عما هي عليه اليوم، إذ كانت تضم مصر والسودان وبعض أراضي الصومال، وقبلها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت دولة محمد علي باشا تشمل مصر والسودان والشام والحجاز وجزءا من تركيا، واستمر هذا الحال حتى عام 1840. كذلك حال عدة دول شرق أوسطية مثل فارس التي لم تعرف باسمها الحالي (إيران) ألا في عام 1925 على يد رضا بهلوي الذي عمل على إسباغ مظاهر الحداثة على مملكته، إذ نرى (فارس) تتوسع تارة فتضم أراضي مختلفة كالعراق وأذربيجان وأفغانستان، وتنحسر تارة لتصبح اسما يطلق على جزء صغير فقط من الوجود التاريخي لتلك الدولة.

إن أصحاب الرأي القائل لا وجود لبلد اسمه العراق تاريخيا، وإنه دولة مفبركة أوجدها الأنكليز عبر إلصاق ثلاث ولايات عثمانية، لا تصمد طروحاتهم أمام التمحيص والتدقيق التاريخي. وأنا اعتقد أن وراء هذه الطروحات نوايا مريبة أبرزها، يمكن أن يتجلى في فكرة مفادها: مثلما كنا دولة مفبركة تكونت من تلاصق ثلاث ولايات، يمكننا اليوم أن نفك هذا الارتباط ونعود للتقسيم مرة أخرى.

كاتب عراقي

التعليقات (0)