- ℃ 11 تركيا
- 14 نوفمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: الثابت والمتغير في الدولة الحديثة
د. سعيد الشهابي يكتب: الثابت والمتغير في الدولة الحديثة
- 3 يناير 2022, 9:42:07 ص
- 451
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يفترض أن يكون عمر الدولة الحديثة أكثر من ثلاثة أرباع القرن، إذا افترضنا أن انطلاق النسخة المعدلة من نمط الحكم حدث بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. لماذا افتراض البداية هنا؟ لأن العالم الغربي الذي دمرته تلك الحرب التي انتهت بانتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا ومعها اليابان وإيطاليا، قرر إعادة بناء العلاقات الدولية مستقبلا بما يتناسب مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وواجه بذلك المعسكر الشرقي الذي كان قد تبنى الشيوعية قبل ثلاثين عاما (أي بعد الثورة البلشفية في العام 1917).
وعلى مدى الأربعين عاما اللاحقة استخدم الغرب مقولتي الديمقراطية وحقوق الإنسان سلاحا في الحرب الباردة التي خاضها مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي. ومنذ العام 1945 بدأ تنظيم العلاقات الدولية بما يثبّت موقع الدولة الحديثة في السياسة الدولية. فما هو الثابت وما المتغير في هذه المنظومة الإيديولوجية السياسية؟
في المنظور الغربي الذي سعى لفرض «إرادة المنتصر» على العالم، كانت الديمقراطية أهم ما قدمه للعالم في مجال الحكم، وأتبعها بحقوق الإنسان التي بقيت ملازمة للمشروع الديمقراطي. ولذلك يمكن القول أن الدولة الحديثة يفترض أن تؤكد محورية هذين الدعامتين لانتاج حياة مدنية هادئة توفر لمواطني الدولة قدرا من السعادة المادية وكثيرا من القناعة النفسية المستمدة من شعور الإنسان بوجوده. وهنا يفترض أن تبرز الحرية كثابت آخر للدولة الحديثة. وبدونها تنتفي الحداثة عنها، وتعود قيم العصور الوسطى حاكمة. وإذا كان رواد هذه القيم قد أضفوا قيما أخلاقية على قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فان منظّري الغرب على امتداد تاريخه المعاصر قد أولوا الاقتصاد موقعا محوريا رديفا أيضا لمشروع الدولة الحديثة، ورأوا أن الاقتصاد الحر يتكامل مع الحرية والديمقراطية ويساهم في احترام حقوق الإنسان. هذه الثوابت يفترض أن تحظى بقدر من التقديس لدى المنظّرين الغربيين. ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت بعضهم (مثل فرانسيس فوكوياما) للاعتقاد بأن الديمقراطية الغربية تمثل ذروة الانتاج السياسي الإنساني، ولذلك ينطلق السؤال هنا عما إذا كانت هذه الثوابت ما تزال تحظى بمحورية حقيقية لدى قادة «العالم الحر» الذي يقود المسار السياسي والاقتصادي للعالم الحديث. ثم لماذا تراجع بعض هؤلاء المنظّرين عن مواقفهم في غضون عقد واحد فحسب؟
مثلا تراجع فوكوياما نفسه عن حماسه للديمقراطية الليبرالية، وبدأ يرفض السياسة الأمريكية القائمة على هذا الأساس، وطالب حكومة بلاده بأن تدعم التعليم والتنمية لتكون لها الشرعية الكافية لنشر الديمقراطية على العالم الجاهل الذي مازال غارقا في وحل نظم الحكم المتخلفة من دينية ودكتاتورية عسكرية أو غيرها من النظم الشمولية والملكية غير الدستورية.
فأين وقع الخطأ في هذه الافتراضات؟ من المؤكد أن هناك امتعاضا متفاقما لدى قطاعات إنسانية واسعة إزاء هيمنة القوة العسكرية والدولار والنظام المصرفي الدولي على الاقتصاد العالمي، وكيف يمكن أن يكون هناك مجتمع عصري إذا كان محكوما بعملة واحدة يتوسع نفوذها بتوسع الأداء المصرفي من جهة والهيمنة السياسية من جانب آخر. والسؤال هنا: لماذا فشل التحالف الغربي الذي انبثق بعد الحرب في توفير مستلزمات الدولة الحديثة للتماهى مع نظريات مؤسسي المشروع السياسي الحديث؟ ومتى بدأ التنازل عما كان يعتبر من ثوابت الأطروحة السياسية الغربية؟ وكيف أصبح قادة الغرب اليوم أبعد ما يكونون عن حالة الالتزام بالعمل لانشاء الدولة الحديثة؟ ومتى تحولت القيم التي كانت مطلقة في البداية إلى قيم نسبية تستطيع الظروف الدولية تغييرها بل تهميشها أحيانا؟ أليست الحروب التي نشأت في العالم خلال العقود السبعة الأخيرة تكرارا للعقلية التي أنتجت الحرب الكونية المدمرة؟ أليس غياب الوفاء للمبادئ والقيم وتهميشها على صعيد العلاقات الدولية من أسباب هذا التداعي القيمي والمبدئي والأخلاقي؟
لن يصلح المجتمع البشري بدون احتضانه مبادئ راسخة لا تتغير تقوم على الحرية والشراكة السياسية واحترام الإنسان وحقوقه
وهل يمكن اعتبار دخول الولايات المتحدة على خط الصراع بمنطقة الخليج في إثر الاجتياح العراقي للكويت بداية طريق الهبوط من الذروة الاخلاقية للمشروع السياسي الغربي؟ ومن الذي طرح مقولة اعتبار القيم الإنسانية نسبية وليست مطلقة؟ ولعل السؤال المحيّر: هل تستطيع ثقافة ما بعد الحداثة إقامة الدولة الحديثة الحقيقية؟
الأمر المؤكد أن النزعة نحو الذات قد انطلقت بقوة وعششت في أذهان المنظّرين الغربيين، إلى مستوى منعهم من الاستمرار في الحفاظ على الثوابت. ولعل التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة ابتداء بحرب الكويت في العام 1991 الذي كان بعض الساسة الأمريكيين يعتقدونه انطلاقا لترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان كان الفصل الأخير من مرحلة التبشير الغربي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية. يومها كان هناك شيء من صحوة الضمير لدى منظّري الليبرالية الغربية، فتعالت الأصوات المطالبة بترويج الديمقراطية في العالم العربي، في مقابل التدخل الأمريكي لما عرف بـ «تحرير الكويت». هذا الحماس الإعلامي تراجع في السنوات اللاحقة خصوصا بعد ظهور تنظيم «القاعدة» واستهداف المصالح الأمريكية في المنطقة خصوصا في السعودية وأفغانستان والصومال وكينيا. لكنه ما لبث أن عاد بالتدخل الأمريكي الثاني في العراق في العام 2003 لاسقاط نظام صدام حسين. مرة أخرى اتضح أن المشروع الديمقراطي لم يكن سوى فرقعة إعلامية لم تتحول الى مشروع سياسي ضمن السياسة الخارجية الغربية. فلو كان لدى الغرب جدّيّة لتشجيع التحول الديمقراطي لاتخذ مواقف مختلفة لدعم ثورات الربيع العربي. لكن الذي حدث كان عكس ذلك. فقد استطاع تحالف قوى الثورة المضادة الذي يضم «إسرائيل» منع ذلك تماما، ووقف داعما لسياسات القمع المفرطة لإجهاض ثورات الشعوب واستهداف النشطاء من الشباب العربي في أغلب البلدان. وبعد أحد عشر عاما من تعميق القمع ومأسسة الاستبداد، أصبحت أوضاع الدول العربية مهيّأة لثورات جديدة تصر على استرداد الحرية والحقوق، معتمدة على نضال شعوبها وتضحياتهم، ومستمدة عقيدتها السياسية من المبادئ والقيم الإلهية المقدسة، بعيدا عن محاكاة الآخرين أو مسايرتهم أو التماهي مع أطروحاتهم التي بدأت في العقود الأخيرة تتجهم لكل ما هو مقدس وإلهي المصدر.
هل هناك دولة حديثة حقا؟ ثمة حقيقة يجدر تأكيدها هنا. فالجديد لا يتعايش مع القديم، ولا يصبح الجديد جديدا حتى يصبح القديم قديما حقا. أما ما يحدث اليوم على صعيد علاقات دول «العالم الحر» مع أنظمة الاستبداد فينطوي على مدلولات مختلفة جدا تؤكد انعكاس موجة التأثير. فبدلا من الحماس الغربي لترويج التحول الديمقراطي وإنشاء الدولة الحديثة، يمكن ملاحظة تراجع الحريات في العالم عموما من خلال التشريعات الجديدة التي تتسم بالقمع بتبريرات واهية أهمها مكافحة الإرهاب. وهكذا تبدو القيم والمفاهيم والأسس التي يفترض أن تكون أساس الدولة الحديثة في الغرب معرّضة للمساومة والتجميد والتجاوز، واستبدلت بمقولة منسوبة لأحد الزعماء الغربيين: «ليس هناك مبادئ ثابتة، بل مصالح ثابتة». وصراع المبادئ والمصالح ظاهرة قديمة متجددة. ويفترض أن النهضة الفكرية والسياسية في أوروبا وأمريكا بعد الحرب قد خففت من ذلك التوجه، وأولت المبادئ موقعا محوريا في السياسات الغربية لجهة تعميم «نظام الحكم الصالح» المؤسس على قدر من مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن هذا لم يحدث، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي للمزيد من الاضطراب الإيديولوجي والنفسي والسياسي، وإذا كان الغرب قد اتخذ الإرهاب ذريعة للتراجع عن المبادئ والقيم في المجال السياسي، فان هذا التراجع سيؤدي الى عكس المتوخى منه، ولا يستبعد تجدد ظاهرة العنف السياسي نتيجة ذلك.
لن يصلح المجتمع البشري بدون احتضانه مبادئ راسخة لا تتغير تقوم على الحرية والشراكة السياسية واحترام الإنسان وحقوقه.
كاتب بحريني