- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
د. يسري عبدالغني يكتب : رجل يحمي التراث
د. يسري عبدالغني يكتب : رجل يحمي التراث
- 8 أغسطس 2021, 4:31:13 م
- 802
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ويجدر بنا الإشارة إلي قصة إنقاذ معبدى أبو سمبل ومعابد فيلة وباقي آثار النوبة والتي كان وراءها الدكتور ثروت عكاشة فبعد أن إتخذت مصر قرارها الجسور بإنشاء السد العالي في أسوان عام 1954م كانت إقامة هذا السد إيذانا بخلق بحيرة فسيحة من المياه تغمر منطقة النوبة الزاخرة بآثار حضارتنا التي شدت إليها عيون العالم على مر العصور وفي أواخر عام 1958م كان الدكتور ثروت عكاشة يشغل منصب وزير الثقافة وكان من مهام وزارته الحفاظ على آثارنا القديمة بوصفها جزءا مهما من تراث الحضارة الإنسانية وفي شهر نوفمبر عام 1958م زاره السفير الأميريكي في مصر يصحبه مدير متحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك الذي بادره قائلا جئت إلي مصر لكي أشترى واحدا أو إثنين من معابد النوبة المحكوم عليها بالغرق والفناء بعد بناء السد العالي وقد أزعجته وأثارته هذه الرغبة المفاجئة وأزعجه جدا أن يدور بخلد أحد أن يكون تراث أسلافنا مما يباع ويشترى لذا سارع بالرد عليه معاتبا كان جديرا بمتحف المتروبوليتان ومديره أن يبادرا بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث الإنساني بدلا من التفكير في شرائه
لم تكن هذه هي المرة الأولي التي تتعرض فيها آثار النوبة للغرق فقد سبق وأن تعرضت للغرق الجزئي في وقت فيضان النيل ثلاث مرات قبل بناء السد العالي وكانت المرة الأولى عند بناء خزان أسوان عام 1902م حيث تبع ذلك إرتفاع منسوب المياه خلف الخزان بشكل هدد هذه الآثار والمرة الثانية كانت في عام 1912م بعد التعلية الأولي لهذا الخزان والمرة الثالثة كانت في عام 1932م بعد التعلية الثانية للخزان وفي كل مرة كان يتم عمل مسح للمواقع الأثرية ويتم تسجيلها وعمل الخرائط اللازمة لها لكن عندما تقرر إنشاء السد العالى أصبح واضحا أن جنوب الوادي سيتعرض لإرتفاع كبير لمنسوب المياه بشكل دائم مما سيسبب الغرق النهائي لمجموعة آثار النوبة ومن ثم أصبح من الضروري العمل لتلافي مخاطر إرتفاع منسوب المياه على المواقع الأثرية في هذه المنطقة .
وقد كان هذا اللقاء على قصره بداية إرتباط الدكتور عكاشة بآثار النوبة فرأى أن يزورها مصطحبا معه الدكتور أحمد بدوي أحد كبار العلماء الأركيولوجين وأحد كبار مهندسي الآثار وإستغرقت هذه الزيارة مدة أسبوعين وقد أصابه الفزع عندما إكتشف أن ما كان يجري على أرض النوبة كان مقصورا فقط على تسجيل وتوثيق معابد النوبة على أساس أن هذا الجهد هو كل ما تتسع له إمكاينات الدولة حينذاك وأحس بهول المأساة وإنتابه فعلا الذعر إذ كيف يترك هذا التراث لتغمره مياه النيل وكانت وزارة الثقافة في مصر في ذلك الوقت وليدة لايتجاوز عمرها ثمانية شهور
كان إنشاؤها علامة من علامات الحيوية في نظام الحكم الذي خص الثقافة بهذه الرعاية لذا فلو فرطت هذه الوزارة الوليدة في العمل على إنقاذ تلك المعابد فإن ذلك يعد سبة لن يغتفرها التاريخ للمصريين جميعا وكان مع الدكتور عكاشة خلال تلك الجولة كتاب شائق للأديب الفرنسي الشهير بيير لوتي عضو الأكاديمية الفرنسية كان قد إشتراه منذ بضع سنين في باريس وكان قد جذبه إليه عنوانه موت فيلة وكانت قد صدرت طبعته الأولى عام 1907م بعد زيارة الكاتب لمصر وسفره إلي جنوب الوادى ومشاهدته معابد فيلة وهي مغمورة بمياه النيل وقت الفيضان ويقول الدكتور عكاشة فكنت أقضي نهاري في مشاهدة أوابد العبقرية وليلى أطالع فيه هذا الكتاب وإذا به يجد الكاتب ممن يهيمون بتراث مصر ويقدسونه وإذا هو يفزع لما نال هذا التراث من غمر المياه له بعد أن شيد خزان أسوان في مطلع القرن العشرين الماضي
وإذا هو يناشد المثقفين المصريين بأن يهبوا للذود عن تراثهم متخذا من غرق جزيرة فيلة لؤلؤة مصر وإحدى عجائب الدنيا رمزا لموت مصر القديمة وإيذانا بنهاية هذه الأمة التي خلقت أول وأروع حضارة في العالم وأنهى هذا الكاتب العاشق لآثار مصر كتابه بصرخة فاجعة يتمنى فيها على المصريين أن يهرعوا إلى الحفاظ على تراثهم الخالد ولم يكن مقدرا لمعبدي أبوسمبل وهما أكثر معابد منطقة النوبة إرتفاعا أن يفلتا من هذا المصير الموجع فقد كانت مياه التخزين وراء خزان أسوان لاتتخطى 121 مترا وهو تقريبا نفس مستوى أرضية المعبد الكبير الذي يبلغ 124 مترا بينما كان متوقعا أن ترتفع مياه بحيرة السد العالي التي ستتكون وراءه بعد بنائه إلى مستوى 183 مترا أي بزيادة في الإرتفاع قدرها 62 مترا عن مستوى المياه خلف خزان أسوان وهو ماكان يعني غمر المعبدين تماما بالمياه وإختفاءهما إلي الأبد .
ولد الدكتور/ ثروت عكاشة فى عام 1921م فى القاهرة وهو الشقيق الأكبر للطبيب النفسى الشهير في وقتنا الحالي أحمد عكاشة وقد تخرج فى عام 1939م من الكلية الحربية ودرس فى كلية أركان الحرب من عام 1945م حتي عام 1948م ثم حصل على دبلوم الصحافة من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1951م وكان عضوا في تنظيم الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو عام 1952م ولكنه كان عزوفا عن المناصب وإختار العمل بالثقافة لأنها الأقرب إلى نفسه كما حصل علي درجة الدكتوراه فى الآداب من جامعة السوربون بباريس عام 1960م وقد بدأ ثروت عكاشة حياته العملية كضابط بالقوات المسلحة وعقب ثورة يوليو عام 1952م عمل ملحقا عسكريا بالسفارة المصرية فى بون عاصمة ألمانيا الغربية حينذاك ثم شغل نفس المنصب في العاصمة الفرنسية باريس والعاصمة الأسبانية مدريد مابين عام 1953م وحتي عام 1956م ثم تمت ترقيته ليشغل منصب سفير مصر في العاصمة الإيطالية روما مابين عام 1957م وعام 1958م ثم تم إختياره وزيرا للثقافة والإرشاد القومى من عام 1958م وحتي عام 1962م كما كان رئيساً للمجلس الأعلى للفنون والآداب والذى تغير إسمه بعد ذلك ليصبح المجلس الأعلى للثقافة فى عام 1962م فضلا عن عضويته فى العديد من الهيئات الأخرى ومنها المجلس التنفيذى لمنظمة اليونيسكو بباريس من عام 1962م وحتي عام 1970م كما تم إختياره وزيرا للثقافة مرة أخرى عام 1966م وليشغل هذا المنصب حتي عام 1970م وأثناء فترة توليه وزارة الثقافة إستطاع أن يحدث تغييرا جذريا فى المشهد الثقافى فى مصر أدى إلى نهضة ثقافية حقيقية خاصة على المستوى الفكرى ويراه الكثيرون الشخصية الثقافية الأولى فى مصر وكان إسمه يتردد صداه على إمتداد الوطن العربى الكبير وفى عواصم الثقافة فى قارة أوروبا وبالإضافة إلي ما سبق فقد كان الدكتور ثروت عكاشة عضوا بمجلس الأمة من عام 1964م حتي عام 1966م كما كان نائب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة البندقية من عام 1967م وحتي عام 1977م ثم شغل منصب مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية من عام 1970م وحتي عام 1972م كما كان أستاذا زائرا بالكوليج دو فرانس بباريس عام 1973م وإنتخب زميلا مراسلا بالأكاديمية البريطانية الملكية فى عام 1975م ورئيساً للجنة الثقافة الإستشارية بمعهد العالم العربى بباريس من عام 1990م وحتي عام 1993م كما تم إختياره كعضو عامل في المجمع الملكى لبحوث الحضارة الإسلامية عام 1994م .
وحين تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حقق نجاحا ملموسا في مجال الثقافة والفكر مازلنا نشهد له به حتي يومنا هذا حيث وصل الإشعاع الثقافي إلي كل فرد في مصر غنيا كان أو فقيرا حتي تمت تسمية الدكتور ثروت عكاشة بوزير ثقافة الفقراء وكان مشروعه الأكبر هو حق الجماهير فى الثقافة بعد أن كانت تحتكرها العاصمة والنخبة المثقفة فباستثناء القاهرة والإسكندرية لم يكن هناك معاهد أو مراكز أو قصور ثقافية فى مختلف المدن والمحافظات وكان الدكتور ثروت عكاشة لديه فلسفة أن تنتقل الثقافة من العاصمة إلى باقى المدن الأخرى ولذا فقد أخذ على عاتقه بناء البنية التحتية للعمل الثقافى ومنها قصور الثقافة التى لم يخل منها إقليم من أقاليم مصر وشارك فى بنا ئها أعظم المعماريين المصريين وكان يرى أن قصر الثقافة لابد وأن يأخذ شكل القصر بكل ما فيه من أبهة ولكنها أبهة العلم والمعرفة كما قام أيضا بإنشاء الكثير من الهيئات التى تعمل على إثراء الحياة الثقافية والفنية إلى يومنا هذا مثل المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والهيئة العامة للكتاب ودار الكتب والوثائق القومية وغيرها كما أنشأ أكاديمية الفنون عام 1959م بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة وأسس فرق دار الأوبرا المختلفة مثل أوركسترا القاهرة السيمفونى وفرق الموسيقى العربية والسيرك القومى ومسرح العرائس وأنشأ قاعة سيد درويش بأكاديمية الفنون لعمل الحفلات بها ووجه إهتمامه أيضا للآثار المصرية حيث وضع الأساس لمجموعة متاحف هى من أعظم المتاحف المصرية حتي الآن ومنها متحف الفن الحديث والمتحف الرومانى وتجديد المتحف المصرى كما بدأ تقديم عروض الصوت والضوء بمنطقة أهرامات الجيزة كما كان له دور وطنى بارز من خلال نجاحه الباهر في إقناع المؤسسات الدولية بالعمل على إنقاذ معبدى فيلة وأبوسمبل وباقي الآثار المصرية التي كانت مهددة بالغرق فى بلاد النوبة ومن جانب آخر فقد إهتم ثروت عكاشة بالفن التشكيلي وقام بتشجيع ودعم الفنانين الذين برزوا في عهده وتم تنظيم العديد من المعارض لأعمالهم وتحت رعايته .