- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
د. ايمن منصور ندا يكتب :سالومي و قصة الإعلام الاخيرة
د. ايمن منصور ندا يكتب :سالومي و قصة الإعلام الاخيرة
- 19 يونيو 2021, 10:34:10 م
- 4508
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
"سالومي" ورقصة الإعلام الأخيرة!
قصة الفتاة "سالومي" مع رأس النبي "يحيى بن زكريا" (يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان) قصة مشهورة في التراث المسيحيّ.. فتاة ذات جمال ودلال، تطلب منها أمها "هيروديا" أن تساعدها في التخلص من عدوها "النبي يحيى"، فتحتال الفتاة بأن ترقص رقصتها الشهيرة أمام الملك "هيرودس" في حفل عيد ميلاده (زوج أمها، وكان النبي يحيى يرى أن زواج الملك من هيروديا وهي من محارمه حرام وغير جائز).. كانت سالومي في كل مرحلة تخلع وشاحاً من الأوشحة السبعة التي ترتديها، فيحلق الملك في سماوات النشوة منفرداً، حتى إذا خلعت وشاحها الأخير، وأصبحت عارية تماماً، بلغ الملك في نشوته حدَّاً أن أقسم، أمام حضور الحفل من الأعيان والأمراء، أن يلبي لها أي طلب حتى ولو كان نصف مملكته، وقسم الملوك حقٌّ ورغباتهم واقع، ولذا لم تتردد "سالومي" في طلب رأس النبي يحيى، وهي موقنة بالاستجابة.. وقد كان، وجاءها الرأس على طبق، هدية وقرباناً لها!
في أزمة كورونا، رقص الإعلام في دول العالم المختلفة "رقصة سالومي ذات الأوشحة السبعة"، وكانت الضحية هي رأس الحقيقة. في كلِّ مرحلة من مراحل الأزمة، تخلى الإعلام عن وشاح من الأوشحة، فيما يشبه "رقصة الاستربتيز".. وكلما اشتدت الأزمة أو تعمقت، كشف الإعلام عن وشاح من أوشحته، وتخلى عن مكون من مكوناته.. حتى أصبح الوضع كما نراه: إعلاماً متجرداً من أي وشاح يغطيه.. وبدلاً من أن تصبح الحقيقة العارية جميلة مثل "سالومي"، كانت منفرة وقبيحة أشبه بفيروس الكورونا..
في هذه الأزمة، كانت هناك أوشحة خلعها الإعلام راضياً مرضياً وبرغبته، وأوشحة أخرى أُرْغِم على خلعها، وأُجْبِر على التخلي عنها، وكانت النتيجة واحدة: إعلام في مهب الريح بلا حائط يستند إليه أو ساتر يختفي وراءه.. ولا ينطبق هذا الكلام على الإعلام في مصر فقطـ، بل هو الحال نفسه في وسائل الإعلام في دول العالم أجمع.. الفرق في عدد الأوشحة التي تم خلعها، وفي درجة القبح التي نتج عن ذلك؛ اختلاف في الدرجة وليس في النوع، وفي المقدار وليس في المضمون..
في شارع الضباب
سبعة أوشحة بعضها فوق بعض، وبعضها من بعض، خلعها الإعلام في أزمة كورونا.. الوشاح الأول: وشاح الرؤية الواضحة.. ضبابية المشهد العام العالمي قبل المحلي بشأن كورونا، جعل الإعلام يفقد القدرة على الرؤية الواضحة، خاصة وأن سياراته ومركباته غير مجهزة بمصابيح الشبورة .. أصبح الإعلام كما يقول الشاعر "أعمى يقود سفيهاً"؛ إعلام يفتقد الوعي الكافي، ويراهن على وعي جمهور يسير في ضباب.. في مشهد عبثي أقرب إلى "حوار الطرشان" من ناحية، وإلى مشهد "الشيخ حسني" في "الكيت كات" وهو يقود ضيفه "الشيخ عبيد"، وكلاهما يدعي قدرته على الرؤية، وكانت النهاية غرقهما معاً في بحر الأزمة..
الوشاح الثاني الذي خلعه الإعلام في رقصة الكورونا، هو وشاح "الاتساق"؛ كلُّ الإعلاميين وقعوا في فخ التناقض، وأصبح الشعار "لقد وقعنا في الفخ" هو سيّد الموقف.. جميعنا قال الشيء وعكسه أثناء الأزمة.. جميعنا "هوَّن" من شأن الفيروس في بدايته، و"هوَّل" من تبعاته بعد ذلك، ثم غرق في بحر العجز عن تبني وجهة نظر محددة في النهاية.. جميعنا دافع عن أطروحة الغلق والحظر، وكلنا دافع بنفس الحماسة عن أطروحة الفتح والعودة إلى الحياة الطبيعية مع تحفظات أقرب إلى الغلق.. ليست المشكلة في تبني وجهة نظر، ولا في التعبير عن رأي.. المشكلة أن تعبِّر عن وجهات النظر المتضاربة والمتعارضة بنفس القدر من القوة، وبنفس القدر من الحماسة وبنفس القدر من إنكار أية مواقف سابقة.. وكأن المواقف غير مسجلة، وكأن الأرشيف غير متاح.. وكأن "آفة حارتنا المزمنة هي النسيان" على حدِّ تعبير نجيبنا المحفوظ.
مرثية الحياة الزرقاء
الوشاح الثالث الذي تخلى عنه الإعلام في الأزمة هو وشاح الكلّية والمشهد العام لصالح الجزئية والمعلومات المفتتة.. التجزيء هو جوهر أزمتنا الحقيقية: غطى المشهد الجزئي والمعلومات المتناثرة على المشهد الإجمالي وعلى الرؤية العامة؛ قصص الإصابات الفردية، ومشكلات بعض الأشخاص، طغت على تحليل الموقف العام، وعلى أداء المنظومة ككل.. والخلاصة أكوام صغيرة من المعلومات المتناثرة والمتنافرة، وغير القادرة على رسم لوحة كلّية للموقف العام..وشعور بالضياع والعجز عن الفهم أشبه بشخصيات لوحة"مرثية الحياة" الزرقاء لبابلو بيكاسو: شخصيات عارية تعاني "كومبو" الحياة المعاصرة: الوحدة، والضياع، والعجز، أو كأنَّها النبي موسى وهو يناجي ربَّه "يا ربِّ: غريبٌ، وحيدٌ، مريضٌ"!
وشاح رابع خلعته وسائل الإعلام أثناء الأزمة هو وشاح احترام التخصص.. كلُّ الناس أصبحوا ضيوفاً في وسائل الإعلام للتحدث عن كورونا.. وعلى حدّ تعبير أهل الإحصاء "لم تكن هناك فروق ذات دلالة إحصائية بينهم".. وكان عدد غير المتخصصين الذين تحدثوا في الموضوع أكبر من عدد المتخصصين وبفروق دالة.. كلُّ الكلمات التي قيلت متشابهة، وكلُّ الطرق لم تكن تؤدي إلى روما فقط، بل تؤدي إلى الجهل العام أيضاً.. خبراء المقاهي انتقلوا إلى الفضائيات ووسائل الإعلام، وتبادل حزب الكنبة المواقع مع الإعلاميين.. وعلى حدّ تعبير الفاجومي أحمد فؤاد نجم "والجهل زاد في البتاع(وسائل الإعلام) ولا مقري ولا منقول.. وساد قانون البتاع (السطحية).. ولا علة ولا معلول".. وترتب على ذلك انتشار عديد من الوصفات والنظريات والنصائح التي ضحكنا منها، و"لكنه ضحك كالبكاء" كما قال المتنبي.
ياله من ببَّغاء!
الوشاح الخامس الذي خلعته وسائل الإعلام وهي راضيةٌ مرضيةٌ هو وشاح الموضوعية.. الإعلام كان ذاتياً إلى درجة الشطط، وكان شخصياً إلى حدّ الإفراط.. شخصنة المواقف، والسعى نحو تأكيد وجهة نظر شخصية أيًّا كان اتساقها مع المشهد الدولي العام، وصراع الرغبات الشخصية ووجهة النظر الفردية على حساب الصالح العام، جعل الإعلام غير موضوعي بامتياز.. الإعلاميون في الإصدار الجديد السائد منذ عدة سنوات مصممون على لعب دور المنظرين والمفكرين.. والفكر شخصي في الأساس، وذاتي في الجوهر، وهو ما انعكس على الإعلام: شخصنة المواقف، وذاتية التقييمات.. ودخل الإعلام في صراع وجهات النظر.. كثيرون حول سلطة الإعلام، قليلون عند مصلحة المواطن!
الوشاح السادس هو وشاح العقلانية.. تخلي الإعلام عن الموضوعية جعله يتخلي أيضاً عن العقلانية.. "الشيء لزوم الشيء".. نحن لا نفكر بشكل عقلاني، نحن نستجيب لعواطفنا في كثير من التقييمات.. كان أحمد شوقي في مسرحية "مصرع كليوباترا" يشير إلى الوعي الناقص عند الشعب، وكيف أنَّه " أثَّر البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه ... ياله من ببَّغاء .. عقله في أذنيه".. وكأنْ ألفي عام غير كافية لتغيير طريقة تفكيرنا؛ إذ لا تزال طريقة الأداء الببغاوية القائمة على الترديد بدون تفكير، وعلى التكرار بدون تغيير هي السائدة. وقعت وسائل الإعلام في شَرَك المبالغة في دغدغة مشاعر الناس سلباً وإيجاباً، وفي التركيز على استمالات التخويف الأعمى والترهيب غير المرشد، ففقدت الاستمالات تأثيرها، وأصبح الناس يتضاحكون منها وعليها.. استجابة الناس للاستمالات العاطفية مؤقتة ونفسها قصير.. عكس استجابتهم للاستمالات العقلانية التي يستمر لفترة طويلة .. شطارة الإعلام كانت مطلوبة في توعية الناس وليس في تخويفهم، وفي إرشادهم بدلاً من إصابتهم بالعجز.. وكان دور الإعلام في هذه الأزمة أشبه "بالمُنْبَتِّ" في الحديث الشريف "لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى"! ، فلا هو ساعد الناس على المعرفة، ولا منع عنهم الخوف..
أيام لها تاريخ
الوشاح السابع هو وشاح الرشد.. في التفرقة بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية، أشار الكاتب أحمد بهاء الدين في كتابه "أيام لها تاريخ" إلى أن الفارق المميز هو أن الإنسان "كائن له تاريخ"، أي أنه يتعلم من تجاربه السابقة، ويستفيد من خبراته المتراكمة.. الحدُّ الفاصل بين الإنسان وغيره من الكائنات أنه له ماض يرجع إليه، وله تراث يعبر عن تجاربه.. وتجاهل هذا التراث، وهذه التجارب، يصيب الإنسان "بالألزهايمر" ويجعله نسياً منسياً.. كما أنه يجعله أقرب إلى الغباء الذي يعرفه إينشتاين على أنه "تكرار التجربة ذاتها بكافة تفاصيلها، وتوقع أن تحصل على نتائج مختلفة في كل مرة"!!.. تغطياتنا الإعلامية واحدة في كل مرة، ومتطابقة عبر الفترات المختلفة.. ونتعجب من عدم تحقيق الأهداف المرغوبة أو من تطابق النتائج المتحققة! نتعامل مع كل أزمة باعتبارها أزمة جديدة ليس لها سابقة، وليس لها من دون الله كاشفة.. نبدأ من أول السطر مع كل أزمة.. وننتهي منها في منتصف الصفحة.. ثم نقوم بتمزيقها.. نحن لا نتعلم من تغطياتنا السابقة.. والحصيلة دائماً صفرية..
عندما خلعت "سالومي" أوشحتها السبعة في رقصتها أمام الملك "هيرودس"، كانت تدرك تأثيرها، وكانت تعمل على تحقيق أهدافها؛ فلا توجد هدايا مجانية في عالمىّ السياسة والإعلام.. جميع الخطوات يجب أن تكون محسوبة بدقة، وكلُّ الوسائل يجب أن يتم استخدامها بعناية.. فكرة خلع الأوشحة بدون مبرر، وفكرة التعري بدون هدف تجاوزتها الأنظمة البشرية منذ تركت الحياة في الغابة. وعلى وسائل الإعلام أن تحاول استعادة هذه الأوشحة، وأن تزيد من سُمْك طبقاتها، وأن تحرص على "بطانتها"، وإلا سيكون "رأس وسائل الإعلام ذاتها" هو الهدف التالي في رقصة "سالومي" المنتظرة!!