-
℃ 11 تركيا
-
20 فبراير 2025
د.إدريس آيات يكتب: ترامب وبوتين.. مكالمة هاتفية تهز النظام العالمي وتُخرج أوروبا من الحسابات
د.إدريس آيات يكتب: ترامب وبوتين.. مكالمة هاتفية تهز النظام العالمي وتُخرج أوروبا من الحسابات
-
18 فبراير 2025, 10:39:12 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في مكالمة هاتفية وصفتها واشنطن بـ”البنّاءة”، أجرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب محادثة مطولة يوم أمس (الأحد) مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين( دامت قرابة ساعتان)، تضمنت ملفات أوكرانيا، الشرق الأوسط، الطاقة، الذكاء الاصطناعي، وقوة الدولار.
لكن الأهم ليس المواضيع المطروحة، بل النبرة التي تحدث بها ترامب، التي حملت تقديرًا غير مسبوق لروسيا، متجاوزًا لهجة القارة العجوز، التي اعتادت على أسطوانة “نحذّر، نطالب”، وهي العبارات التي لطالما أثارت سخرية بوتين.
لكن؛ ترامب، وكعادته، لم يخفِ إعجابه ببوتين، مؤكدًا على “التاريخ العظيم” الذي يجمع البلدين، وكيف خاضا الحرب العالمية الثانية معًا، مع تضخيم واضح للأرقام حين قال إن الولايات المتحدة خسرت عددًا مماثلًا لما فقدته روسيا، وهو ما لم يحدث تاريخيًا.
ترتيبًا على ما سبق؛ اتضح لي تمامًا أن بوتين سيمنح ترامب بعض التنازلات الرمزية، ليبدو الأخير أمام جمهوره في الداخل كرجل الدولة القوي، وصانع الصفقات التاريخية. لكن ما وراء ذلك، بوتين يعرف كيف يوظف غرور ترامب لصالحه، محتفظًا بمكاسبه في أوكرانيا.
ترامب، الذي يتفاخر دومًا بقدرته على إبرام الصفقات، يبدو وكأنه يمنح بوتين فرصة ذهبية لتقديم تنازلات رمزية تجعله يبدو كرجل دولة ناجح أمام الداخل الأمريكي، بينما يحتفظ الكرملين بمكاسبه الاستراتيجية دون تقديم أي تنازل جوهري؛ فيما يتلقى الغرب رسالة واضحة: لا مجال للعودة إلى الوراء.
المثير أن ترامب لم تدعو أوروبا بوصفها جزءًا من المحادثات، التي قيل إنّ لمساتها الأخيرة توضع في الرياض السعودية للأسبوع المقبل. بينما أوضح ترامب أن أوكرانيا لن تكون شريكًا أساسيًا في المحادثات في الوقت الراهن، بل سيتم إبلاغها لاحقًا بما تقرر. أي أن زيلينسكي لن يكون سوى متلقٍ للنتائج، لا طرفًا في صياغتها. هذه الصدمة دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لقمة أوروبية طارئة غدًا؛ لبحث تداعيات الاختراق الكبير الذي حققه ترامب لصالح موسكو.
أما زيلينسكي، الذي كان الغرب يصفه قبل عامين بـ”البطل المُقاوم”، فبات اليوم مجرد متوسل يبحث عن بقائه السياسي بأي ثمن. لدرجة أنه خرج في مقابلة للإعلام الأمريكي قائلًا: “يجب أن تدعمونا، لدينا موارد طبيعية هائلة، ومستعدون لتقاسمها معكم بنسبة 50/50، لكن تذكروا، إن تخليتم عنا، فستأخذ روسيا كل شيء!”.
ما هو الدرس للقارة الأفريقية؟!
قال هنري كيسنجر ذات يوم: “أن تكون عدوًا للولايات المتحدة قد يكون أمرًا مزعجًا وخطيرًا، لكن أن تكون حليفًا لها قد يكون أكثر خطورة.” هذه ليست مجرد عبارة بليغة، بل قانون غير مكتوب في العلاقات الدولية، فهمه من قرأ التاريخ، وسقط فيه من لم يتعلم من تجارب غيره.
لطالما رُوّج لواشنطن على أنها دولة ذات استراتيجية طويلة المدى، تخطط لعقود، وتبني تحالفاتها على أسس ثابتة، قد يكون ذلك صحيحًا مع إسرائيل. لكن في حالات الدول الأخرى؛ الواقع يقول شيئًا آخر: كل رئيس أمريكي يحمل مشروعًا مختلفًا عن سلفه، وقد يُسقط كل ما سبقه لمجرد أن مستشاريه الجدد لديهم رؤية أخرى.
الواقع أن مصير الدول المتحالفة معها يتغير وفقًا للأمزجة السياسية لمستشاري الأمن القومي، الذين يتبدلون كل بضع سنوات، ولكلٍّ منهم أولوياته وأيديولوجيته التي قد تنسف كل ما سبق.
هذا النوع من الارتجال في السياسة الخارجية لن تجده في الصين أو روسيا، ولا حتى في تركيا في عهد أردوغان. هناك، مهما تبدّلت الوجوه، تبقى الأولويات الوطنية ثابتة، والاستراتيجيات الكبرى لا تخضع لنزوات الرؤساء.
حين بدأت الحرب الأوكرانية، احتفى الغرب بزيلنسكي كما لو كان تشرتشل الجديد، رفعوه إلى مصاف القادة العظام، جعلوه أيقونة الدفاع عن الديمقراطية، واستقبله الكونغرس الأمريكي استقبال الأبطال، واقفًا يصفق له أعضاؤه لدقائق متواصلة.
لكن ها هو ترامب يعود، ويعيد معه تعريف أولويات أمريكا، وبجرة قلم، يتحول زيلينسكي من رمز الصمود إلى عبء سياسي، ومن “خط الدفاع الأول عن العالم الحر” إلى مجرد ورقة مساومة بين واشنطن وموسكو.
الرجل الذي استُقبل في صيف 2022 استقبال الفاتحين، كان حينها نجم الغرب اللامع، المدافع عن “قيم العالم الحر”، والآن؟ عاد ترامب، فألقي بكل هذا الخطاب في سلة المهملات. لم يمضِ سوى عامين، لكن ما كان يُعامل كحليف استراتيجي صار اليوم عبئًا سياسيًا، مجرد ورقة قابلة للمساومة في مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين.
لم يُفاجئني هذا المصير، فأنا أحتقر الشخصيات التي تلعب دور الدمى في حروب غيرها، لكن رغم ذلك، رؤية زيلينسكي يتوسل للبقاء مع هذا التذلل، محاولًا إقناع أمريكا بعدم رميه تحت الحافلة، تثير بعض الشفقة. رئيس دولة يُقدم بلاده على طبق من ذهب للولايات المتحدة، عارضًا مواردها الطبيعية بالمناصفة مع واشنطن، فقط ليُبقي على دعمها. كم هو محزن أن يُختزل بلد بأكمله إلى صفقة، أن يتحول رئيسه إلى مندوب مبيعات، وأن يتعلم دروس السياسة بالطريقة القاسية.!
فعلوها مع تايوان عندما قرر نيكسون فجأة أن الصين هي الرهان الأفضل، فتم التخلي عن تايوان، التي لم تستعد مكانتها منذ ذلك الحين. فعلوها مع أفغانستان حين تركوا حتى جواسيسهم في كابول لمصيرهم تحت حكم طالبان، فقط لأن بايدن رأى أن الانسحاب هو الخيار الأمثل وفقًا لمزاجه. وها هم يفعلونها مع أوكرانيا، لأن ترامب يرى أن دعمها ليس سوى مضيعة للوقت والمال.
بعد 1.000000 (مليون) قتيل من رجالها، وفقدان ربع أراضيها، وتشريد أكثر من سبعة ملايين من شعبها، تقف أوكرانيا اليوم بلا عضوية في الناتو، ودون أي ضمانات أمنية حقيقية من الاتحاد الأوروبي.
حان الوقت للأوكرانيين أن يتساءلوا: من أجل ماذا تستمر هذه الحرب؟ لقد كانت بلادهم ورقة في يد النخب الغربية، التي استخدمتها لتحقيق مصالحها، والآن تستعد للتخلي عنها. أما زيلينسكي، فقد خرج من هذه المعركة رابحًا، لكن على حساب أمته.
الدرس الجيوسياسي لأفريقيا
أفريقيا اليوم أمام خيار استراتيجي حاسم، لم يعد بالإمكان اللعب على التناقضات كما في الماضي. نحن في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، ومن لا يحدد موقعه بوضوح، سيجد نفسه ضحية صراعات القوى الكبرى، ولن يجد حينها من يصطف معه.
صحيح نُقنع أنفسنا أن الاعتماد على النفس والقدرات الوطنية وحدها تكفي، جميعنا أدركنا زيف ذلك مع الحرب الروسية على أوكرانيا، على رغم القوة الروسية الضاربة كانت بحاجة إلى من يسندها أمام الضِبَاع الغربية التي أرادت تحويلها إلى جيفة، حتى ولو كانت تلك المُساندة من كوريا الشمالية أو إيران.
وإن صح ذلك في الدبّ فنحن أولى بذلك الدرس، إذا توحد الغرب ضد أي من بلدنا، لن ينفعنا الداخل وحده مهما توّحد واصطف خلفنا.
أما أولئك الذين يراهنون على الولاء الأبدي للغرب، فليفكروا جيدًا في مصير زيلينسكي، إن لم يتعلم القادة الأفارقة من مصير زيلينسكي، فربما يكونون هم الضحايا التاليين. والذين يراهنون على “التحالف الاستراتيجي” مع واشنطن، عليهم أن يتذكروا: أمريكا لا تتخلى عن حلفائها لأنها مضطرة… بل لأنها تستطيع.








