- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
دلاوي نصر الدين يكتب: لماذا لا يزال الناس يؤمنون بالأبراج وقراءة الحظوظ؟
دلاوي نصر الدين يكتب: لماذا لا يزال الناس يؤمنون بالأبراج وقراءة الحظوظ؟
- 16 أغسطس 2023, 5:49:10 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كانت جالسةً في مقعد بجانبي في الطائرة المتجهة إلى إسطنبول، رأيتُها تقلّب صفحات كتاب بين يديها، تقف طويلاً عند صفحة أو صفحتين، ثم تقلب صفحات كثيرة بعصبية، وعلى عَجَل، وكأنها تبحث عن شيء لم تهتدِ إليه، أغلقتْ الكتاب وما لبثت أن فتحته من جديد، ثم بدأت تلتفت إليّ بين الحين والآخر، فتظاهرتُ بالغفلة واللامبالاة.
كانت امرأةً في عقدها الثالث، ملامحها جميلة، وأناقتها لا تخفى، وعطرها الأنثوي الموزون يفوح فينعش الحواس، محيّاها وهيئتها يدلان على شأنها ومكانتها، ويُنبئان بوضعها الاجتماعي، سألتْني وابتسامة جميلة تعلو محياها: من فضلك كم ستدوم الرحلة إلى إسطنبول؟ أجبتُها عن سؤالها بما يريحها، ولكني أعلم أن سؤالها لم يكن المقصود، وإنما كان مطيةً لأمر من بعد بدا لها.
طاوعتها، وبدأتُ أحدّثها عن إسطنبول؛ جمالها وماضيها وحاضرها…
أقلعت الطائرة وانقضى وقتٌ ونحن في صمت، ثم التفتتْ إليَّ كما يلتفت ضائق الصدر إلى جهة تنفّس عنه وتؤنسه: "هل تؤمنين بتوقعات الأبراج وحظك اليوم، وتأثير الليل والنهار والشمس والنجوم والقمر…؟".
رأيتُ في عينيها شيئاً، فلم أشأ أن أصدمها بجواب حاسم قاطع، فأجبتُها جواباً بَيْن بَيْن، خلاصته أن قراءة الأبراج وحظوظ اليوم قد يُستأنس بها، وقد يجد فيها طالبها بعضَ حاجتِه وسلواه، ولكنها ليست صحيحةً دائماً، فلا يُعتد بها… ثم طفقتُ أشرح لها بما فتح الله عليَّ في تلك اللحظات، كيف أنَّ الغيب بيد الله وحده، وأن الإنسان هو صانع يومه وغده، وليس عليه أن يستسلم لوضعه فيضعف ويستكين، وأن نجاحه إنما يتحقق دائماً من خلال عمله وسعيه، وأن خَلاصه ونجاته كلاهما مرتبط بمحاولته ومقاومته وتصميمه.
وحين رأيتُ اهتمامها وتركيزها أثناء حديثي إليها سألتُها عن حالها ووضعها، ومناسبة سؤالها، فأخبرتني أنها امرأة متزوجة، وأن زواجها مهدد بالانهيار، وأنها تنتقل بين عواصم العالم بحكم عملها في شركة عالمية، وأن مشاكل الزوجية وضغوط العمل أفقدتها طعم الحياة، وأنها لا تتمنى إلا شيئاً واحداً، وهو الراحة النفسية والاستقرار، وأن تنعم بحياة زوجية سعيدة. ولكن طبيعة عملها وتنقّلها الدائم يحولان دون ذلك، وأنها لا تجد عزاءَها وسلواها إلا في تقليب صفحات كتاب تحمله معها، في حِلها وترحالها، يصاحبها فيؤنسها ويخفف من آلامها، حين يحدّثها عن برجها وحظها في هذا اليوم، وفي اليوم الذي بعده، وفي سائر الأيام، ويعينها على فهم وضعها وعواطفها، ويُنبئها بما تؤمله وما ستلقاه.
استمعتُ إليها منصتاً ولم أقاطعها فاسترسلت في الكلام، كانت كالمكبوت في حاجة إلى التنفيس والفيضان، وما كنت أحب في هذا المقام أن أكون ناصحاً لها أو مشفقاً على حالها، لأن المعنيّ في مثل هذه الحال وفي كل الأحوال يحتاج إلى مَن يستمع إليه ويفهمه، وينصت إليه ويشحنه، ويخاطب فيه حقيقته وإنسانيته، وليس يحتاج إلى مَن يعظه وينصحه.
توقفتْ لحظةً وكأنها شعرت ببعض الحرج فقالت: "عفواً… فقد أزعجتُك بحديثي وأثقلتُ عليك بمشاكلي…". تبسَّمتُ في وجهها وطمأنتُها بكلمات تزيل حرجها وترفع حياءها، تَواصل حديثُها وامتدَّ، ثم ذهب الحديث بنا في أودية ومعانٍ ذات صلة بسؤالها، وخضنا في مواضيع أخرى مختلفة طوال الرحلة، ولم نشعر بالوقت ينفد وينقضي، تأثرتُ بما أخبرتني من أمرها، وعجبتُ كيف تجد عزاءها وسلواها هي وكل الذين سواها في توقعات الأبراج وقراءة الحظوظ! وحمدتُ الله الذي أنقذني من الوهم، ولم يجعلني من الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وحين وصولنا إلى إسطنبول ودّعتُها وشحنتها بكلمات تليق بالحال والمقام، متمنياً لها تمام السعادة ودوام التوفيق، نظرتْ إليَّ بعينين جديدتين مشرقتين، وابتسمتْ ابتسامةً أضاءت وجهها، وقالت: "يا الله.. يا الله.. أشعر بالخفة والانطلاق وكأني خرجت من حبس طويل.. وأضافت إضافة الواثق الحازم: ولن يصحبني هذا الكتاب بعد اليوم، سأفعل ما هو صوابٌ، سأفعل ما ينبغي فعلُه، سأُقاوم، سأُقاوم".