- ℃ 11 تركيا
- 8 نوفمبر 2024
خليل عناني يكتب: أميركا وإعادة التموضع الإستراتيجي في المنطقة
خليل عناني يكتب: أميركا وإعادة التموضع الإستراتيجي في المنطقة
- 29 مارس 2023, 2:59:07 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قبل أيام أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن خطة لسحب بعض من طائراتها المقاتلة الحديثة من منطقة الشرق الأوسط واستبدال أخرى قديمة وأقل كفاءة بها، تعرف باسم طائرات (A-10) وهي من جيل طائرات مقاتلة قديم بدأ إنتاجه في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ولا تقارن قدراته القتالية بالأجيال الحديثة من الطائرات المقاتلة.
قد يبدو الخبر عاديا، فالولايات المتحدة تقوم دوما بعمليات استبدال لمعداتها وقواتها وإعادة نشرها وتوزيعها عبر قواعدها العسكرية المنتشرة حول العالم. ولكن الأمر هذه المرة يبدو مختلفا، لأنه لا يتعلق فقط بمجرد إحلال طائرات قديمة بدلا من أخرى حديثة، وهو أمر لا يخلو من دلالات، ولكن أيضا لأنه يأتي في إطار ما قيل إنه "خطة أميركية أوسع تدعو إلى الاحتفاظ بقوات بحرية وبرية محدودة في منطقة الشرق الأوسط" حسبما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين أميركيين.
ليس غريبا أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بوجود عسكري ثقيل في المنطقة سواء من حيث عدد الجنود الذي يتجاوز أكثر 30 ألف جندي موزعين بين عدد من القواعد العسكرية المتناثرة في دول المنطقة سواء في الخليج العربي أو في العراق وسوريا وتركيا
وقد أثار هذا الخبر أسئلة كثيرة حول خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط، وما إذا كانت هذه المنطقة لم تعد ذات أهمية إستراتيجية حقيقية لمصالح أميركا، خاصة أن الطائرات التي تم سحبها سوف يتم إرسالها إلى مناطق نفوذ أخرى من أجل ردع الصين وروسيا وذلك حسب ما جاء في تقرير "وول ستريت جورنال". فهل تخطط الولايات المتحدة بالفعل للانسحاب من الشرق الأوسط، وهل بدأ العد التنازلي للوجود الأميركي في المنطقة والذي يمتد لأكثر من نصف قرن؟
الحقيقة أن الولايات المتحدة لن تنسحب من الشرق الأوسط، ولا تخطط لذلك في المستقبل القريب وذلك لعدة أسباب:
أولًا: أن هذه المنطقة لا تزال تحظى بأهمية إستراتيجية كبرى للولايات المتحدة بسبب مصالحها الحيوية هناك، والتي يجري تلخيصها دوما في "مربع" المصالح وهي:
- الحفاظ على استمرار تدفق النفط من المنطقة التي تسهم بحوالي 30% من الإنتاج العالمي للنفط وذلك دون مشاكل أو عقبات قد تؤثر على الاقتصاد العالمي، وبالتالي الاقتصاد الأميركي.
- تقديم الدعم العسكري والأمني واللوجيستي لأهم حليف لواشنطن في المنطقة وهو إسرائيل.
- ردع إيران وضمان عدم امتلاكها سلاحا نوويا بأي ثمن.
- مطاردة ومحاربة التنظيمات المتشددة التي دخلت في صدام مع الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين.
والآن يمكن إضافة عامل جديد لتلك العوامل يزيد من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة بالنسبة للولايات المتحدة وهو المتعلق بمواجهة النفوذ الصيني، وبدرجة أقل النفوذ الروسي، الذي تمدد في المنطقة بشكل غير مسبوق، ورأينا بعضًا من ملامحه وآثاره خلال الشهور والأسابيع الماضية سواء من خلال الوساطة التي قامت بها الصين في حل الأزمة بين إيران والسعودية، أو الوساطة الروسية بين السعودية والنظام السوري والتي تمهد لاستئناف العلاقات بين هذه البلدان. فالولايات المتحدة تعتبر المنطقة العربية فناءها الخلفي، ومنطقة نفوذ لا يمكن لأي قوى أخرى عالمية أن تنافسها فيها ناهيك عن أن تحل محلّها بها، وذلك بغض النظر عن مدى واقعية وأخلاقية هذا الطرح أم لا.
ولذلك فليس غريبا أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بوجود عسكري ثقيل في المنطقة سواء من حيث عدد الجنود الذي يتجاوز أكثر 30 ألف جندي موزعين بين عدد من القواعد العسكرية المتناثرة في دول المنطقة سواء في الخليج العربي أو في العراق وسوريا وتركيا.
كما أن قيادة الأسطول الخامس الأميركي لا تزال موجودة في البحرين وهي التي تلعب دورا مهما في توزيع القوات البحرية والجوية إلى منطقة آسيا والمحيط الهندي. ناهيك عن منظومات الدفاع الجوي الصاروخي خاصة بطاريات صواريخ باتريوت بالإضافة إلى سفينتين حربيتين مرابطتين في المنطقة. صحيح أن هذه الأرقام قد شهدت تراجعا خلال السنوات الماضية ولكنها أيضا لا تزال كبيرة وفاعلة ولم يتوقف نشاطها العسكري والحربي والاستخباراتي واللوجيستي طيلة الفترة الماضية.
بل على العكس، هناك ازدياد في النشاط العسكري الأميركي في المنطقة سواء من خلال المناورات العسكرية التي تقوم بها مع دول المنطقة سواء في الخليج أو مصر أو إسرائيل، أو من خلال الضربات التي تقوم بها بين الحين والآخر لتنظيم "داعش" أو للمليشيات المحسوبة على إيران في سوريا والعراق خاصة إذا ما تعرّضت للقوات الأميركية الموجودة بالمنطقة، وذلك على نحو ما حدث قبل أيام في منطقة الحسكة شمال شرق سوريا.
إذًا ليس هناك انسحاب أميركي من المنطقة ولكن هناك ما يمكن أن نسميه "إعادة تموضع إستراتيجي" وهو ما يعني إعادة الوجود والانتشار الأميركي في المنطقة بأشكال وطرق أخرى، وذلك كجزء من إعادة توزيع فائض القوة الأميركية على مناطق النفوذ والصراع حول العالم. وهي مسألة مرتبطة بحالة السيولة العالمية والتحول النوعي في النمط الصراعي الذي نتج عن الحرب الروسية على أوكرانيا وكذلك الصعود العالمي للصين والذي أصبح مصدر تهديد وقلق حقيقي لواشنطن.
من الناحية العملية تعني عملية إعادة التموضع الأميركي في المنطقة عدة أمور منها أولاً تغير أولويات الأمن القومي الأميركي نتيجة لتغير منظومة التهديدات والتحديات والمخاطر الأمنية والإستراتيجية لأميركا. ذلك أن ثمة قناعة أميركية حاليا بأن الخطر الصيني يفوق ويتفوق على منظومة الأخطار في الشرق الأوسط خاصة الخطر الإيراني.
وقد وضح ذلك بشكل كبير في إستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي صدرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي واعتبرت أن الصين تمثل تحديا وتهديدا إستراتيجيا لأميركا يجب التعاطي معه بجدية. وهو ما تؤكده تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن حول التهديدات الصينية والتي كان آخرها قبل أيام حين أشار إلى أنه يجب تحضير الجيش الأميركي من أجل خوض مواجهة مع الصين، وذلك في معرض تقديمه لموازنة وزارة الدفاع الأميركية للكونغرس والتي طالب فيها بزيادة المبلغ المخصص لبناء القدرات العسكرية للجيش الأميركي في المحيط الهادي وكذلك زيادة دعم حماية حلفاء الولايات المتحدة إلى حوالي 9 مليارات دولار بنسبة زيادة 40% على العام الماضي.
ثانيًا: تعني إعادة التموضع الإستراتيجي لأميركا في المنطقة الاعتماد بشكل أكبر على الحلفاء الإقليميين وذلك فيما يخص التعاطي مع التحديات الأمنية والإستراتيجية. ولذلك شهدنا في شهر يناير/كانون الثاني الماضي أكبر مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين الأميركي والإسرائيلي ووضع سيناريو محاكاة لإمكانية توجيه ضربات عسكرية لإيران.
ثالثًا، تعني إعادة التموضع الأميركي أيضا إعادة بناء الهيكل الأمني في المنطقة بحيث يتم دمج إسرائيل به كي تلعب دورا محوريا في توفير الحماية لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة خاصة في الخليج العربي على الرغم من الشكوك الكثيرة حول هذه المسألة. وقد شهدنا على مدار العامين الأخيرين خطوات متزايدة فيما يتعلق بالتعاون في مجال الدفاع الجوي بين إسرائيل وعدد من الدول العربية خاصة فيما يتعلق بمواجهة المسيّرات الإيرانية سواء التي تأتي عبر اليمن أو العراق وسوريا. كذلك ارتفع حجم التنسيق الأمني واللوجيستي بين إسرائيل وعدد من البلدان العربية سواء تلك التي لديها علاقات رسمية مع تل أبيب أو التي تتواصل معها من خلف الستار.
وأخيرًا، فإن إعادة التموضع الأميركية تعني محاولة تبريد الملفات الإقليمية وذلك بما يخفف من حدة الصراعات في المنطقة. وقد شهدنا حالات لهذا التبريد خلال العامين الأخيرين والتي زادت بكثافة خلال الأسابيع الماضية سواء على صعيد العلاقات الإيرانية – السعودية، أو العلاقات السعودية – السورية، أو العلاقات المصرية – التركية، وكذلك تهدئة ملف اليمن وليبيا والسودان وإن بدرجات متفاوتة.
خلاصة القول، فإن ما يحدث حاليا ليس انسحابا أميركيا كما يظن البعض، وإنما إعادة تموضع إستراتيجي سيكون له ما بعده. فالولايات المتحدة لا يمكن أن تتحمل تكلفة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وإلا تكون قد دقّت أول مسمار في نعش نهاية عرشها الإمبراطوري، ليس فقط في المنطقة، وإنما في العالم بأسره.