- ℃ 11 تركيا
- 25 ديسمبر 2024
حماقة.. قصة قصيرة
شعرت بحكة في قدمي اليمنى فاستبشرت خيرًا، يقولون إن القدم أعلم بالخطوات التي ستخطوها، لذا يظن الكثيرون أن حك القدم اليمنى المفاجئ علامة على طريق سنسلكه دون تخطيط مسبق، أو الالتقاء بأمر جالب للفرح، ولم أتخيَّل قطُّ أنني سأرى بعيني ما سأشاهده اليوم.
لم تعد للقدمين القدرة على حملي، آلام العمود الفقري تعتصرني، الانزلاق الغضروفي اللعين يدهس حبلي الشوكي بقوة، وجع لا يشبهه وجع آخر، أضغط الفقرات القطنية بيدي، أتحسس العطب المؤلم في جسدي، ولكني أستمر في التقدم للأمام، تقودني البهجة في طريقي وسط آلاف البشر، ثورة طازجة من تلك الثورات التي لا تحدث غير مرات قليلة على مر التاريخ، ثورة أعادت البهجة للوجوه، والأمل في حياة أفضل، حقًّا، ما يحدث لا تستطيع المشاعر وصفه.
أذكر أول مرة خرجت فيها في مظاهرة، أيام حكم السادات، كنت في مرحلة الثانوية، وحينها أطلق الرئيس مقولته الشهيرة "العام عام الحسم"، ولكن مر العام ولم يتحقق شيء، كانت فورة الشباب واليأس من المستقبل ترسم خطانا، حينها انطلقنا في مظاهرات الغضب، كل أملنا أن نستعيد الكرامة المهدرة، عدت للبيت، بعد أن فرقتنا قوات الشرطة، عيوني ملتهبة ورائحة قنابل الغاز في أنفي.
أمَّا المظاهرة الثانية فكنت في الجامعة، حوصرنا داخل أسوارها ولم نستطع أن نتخطاها، كانت العيون تراقبنا وترصدنا وترصد أسماءنا، تم القبض على أعداد كبيرة من الجامعة وتعدى الأمر كل المحافظات، وقتها اشتعل السخط من ارتفاع أسعار الخبز، السكر، الزيت، الشاي، البنزين وقفز كيلو اللحم ليصل لجنيه، على كل حال ليس هذا هو وقت الذكريات.
الجموع تسير بشكل تلقائي في وسط البلد تتجه ناحية ميدان طلعت حرب للوصول لبوتقة النور، ميدان التحرير، لا أعرف أحدًا ولا يعرفني أحد، ورغم هذا كنا نحن الزاحفين كالفراشات للميدان كأننا على موعد مع القدر، لا أحد ينظر للخلف، كلٌ ينظر للأمام وكأنه يرى مستقبله يشع من بعيد.
رائحة قنابل الغاز المسيلة للدموع تذكرني بالماضي، تخنق أنفاسي، تلهب عيوني، يقترب مني ولد لا يتعدَّى عمره الثالثة أو الرابعة عشر على الأكثر وفي يده زجاجة مياه غازية، يقدمها لي بعطف كي أغسل بها عيني، ربما البياض الذي كسا شعر رأسي ولحيتي التي لم أجد الرغبة في حلاقتها منذ عدة أيام جعلاه يهتم بي، تطلعت إليه بلهفة فصبَّ قليلًا من الزجاجة في راحة يدي، سارعت بغسل وجهي وهو يقول لي:
- أفضل الآن.. ستشعر بتحسن بعد قليل.
تطلع خلف ظهري بقلق وخوف وفجأة وجدته يقول لي:
- اجرِ يا "عمو".
التفت خلفي فوجدت العشرات يهرولون هنا وهناك يلاحقهم جنود الأمن المركزي بهراواتهم الثقيلة، لمنعهم من عبور شارع طلعت حرب لميدان التحرير.
وقفت تائهًا لا أدري ماذا أفعل، ولكن حكة قدمي اليمنى تعرف الطريق، لا أعرف كيف واتتني القدرة على الهرولة، كان الأمر بالنسبة لي كالسائر في نفق من الضوء، شعور يملؤني بالفخر، فساد البلد فاق كل الحدود وآن الأوان ليتغير كل هذا، ثلاثون عامًا من الخداع والنفاق، حلمت بغدٍ أفضل والغد لا يجيء.
بدأ الخوف يتسرب لنفسي وأنا أرى رجالًا في ملابس مدنية يتصيدون بعض الشباب من الجنسين، فوجئت بيدٍ تجذبني من الخلف، أتطلع خلفي بعيني المحتقنتين متحققًّا من شخصيته، إنه أحد المتظاهرين معنا من الصباح، رأيته عدّة مرات يسير بجواري، يهتف معنا، حمدت الله وهو يجذبني بسرعة وقوة لطريق النجاة، الابتسامة تعلو وجهي، أهرول معه ومعنا العشرات، أولاد وبنات في عمر الورد وهتافات تحلق في السماء، يشقُّ طريقه بثقة للأمام لا بُدَّ أنه يعرف الطريق جيدًا.
يتمادى في الاقتراب من الجنود، انتابني الشك والذعر، وشممتُ رائحة الغدر، توقفت محاولًا التملص منه، أو التقهقر للخلف، خارت قواي وأنا أحملق في الفراغ، ترك يدي وإذا به يجذبني من كمر البنطلون بقوة، شعرت بأنفاسي تحترق من هذا المجنون، كنت أعرف نهاية القصة، قذف بي لأحد الرجال والسعادة تملأ وجهه قائلًا:
- استلم.
حاولت المقاومة، وأنا ألعن غبائي الشديد، فوجئت بضربة قوية من هراوة ما فوق رأسي، سالت الدماء فوق عيني، تابعته بنظري المجهد وهو ينطلق بعيدًا مؤدَّيًا التحيَّة العسكريَّة لأحد الضباط، نظرت لقدمي اليمنى التي ما زالت تعاني من الحكة تذكرت المقولة "طريق سنسلكه دون تخطيط مسبق، أو الالتقاء بأمر جالب للفرح".