- ℃ 11 تركيا
- 7 نوفمبر 2024
حسن نافعة يكتب: العالم العربي بين صراعات الهوية والمشروعات الإقليمية
حسن نافعة يكتب: العالم العربي بين صراعات الهوية والمشروعات الإقليمية
- 11 ديسمبر 2021, 6:38:38 م
- 1318
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يمرّ العالم العربي بمرحلةٍ يُعتقد أنها الأسوأ في تاريخه الحديث، فبعض شعوبه مهدّد بالضياع والاندثار تحت وطأة الصراعات والحروب الأهلية والطائفية والقبلية، ومعظم دوله معرّضة، في الوقت نفسه، للتفكك والانهيار الآجل أو العاجل، تحت وطأة آفات داخلية، في مقدّمتها فساد النخب الحاكمة واستبدادها أو ضعوط خارجية، في مقدمتها الأطماع الإقليمية، ما يدفع بعضهم إلى الاعتقاد بأنه عالم أصبح على وشك الخروج كليا من التاريخ.
المفارقة هنا أن الجيل الذي أنتمي إليه، والذي عاش مرحلة شبابه في خمسينات القرن الماضي وستيناته، لم يكن راضيا عن الدولة الوطنية، حديثة النشأة والاستقلال في ذلك الوقت، وكان دائم السخرية منها، ويرى في معظم الدول العربية القائمة مجرّد كيانات قُطرية هزيلة ذات حدود مصطنعة رسمتها المصالح الاستعمارية وحدها، ومن ثم ينبغي إزالتها وإقامة كيانات كبرى تحل محلها، تارة تحت مسمّى “القومية” وأخرى تحت مسمّى “الخلافة”.
معنى ذلك أن الدولة الوطنية في العالم العربي حشرت، منذ بداية نشاتها بين تيارين معاديين، يريد كلاهما تجاوزها. الأول: يطالب بإقامة دولة عربية موحّدة تمتد من المحيط إلى الخليج ويرفرف عليها علم العروبة. والآخر: يطالب بإعادة بناء اميراطوية إسلامية يرفرف عليها علم الخلافة، على نمط الدولة الأموية أو العباسية.
ولأن الأجيال التي رفعت لواء هذه الشعارات الطموحة فشلت في تحقيق أيٍّ منها، فقد بات عليها أن تسلم الراية منكسةً إلى أجيال لاحقة فرض عليها القدر أن تعيش في كياناتٍ حوّلتها الحروب الأهلية والصراعات البينية إلى ركام وأنقاض، أو في كيانات حولها الاستبداد والفساد إلى أشباه دول. وهذا هو المأزق الذي يواجهه الشباب العربي في المرحلة الراهنة.
لا يشكل “العالم العربي”، وفق المنظور العلمي وليس الأيديولوجي، كياناً سياسياً أو عرقياً أو دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً واحدا أو متجانساً.
فهو مقسّم سياسياً إلى 22 دولة مستقلّة، لكل منها نظام سياسي خاص بها، وبعضها يخلو حتى من مجرّد وجود أحزاب أو حركات يسمح لها بممارسة النشاط السياسي. صحيحٌ أنها دول يجمعها إطار مؤسسي واحد هو جامعة الدول العربية، لكنه كان وما يزال إطارا هشّا ومجرّد مظلة لكيانات صغيرة منفصلة، ولم يشكل أبدا نظاماً إقليميا فاعلاً يتمتع بإرادة حقيقية مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء أو بسلطاتٍ وصلاحياتٍ “فوق قُطرية”.
والعالم العربي هو أيضا متنوع الأعراق، فإلى العرب، غالبية سكانه، ينتمي ملايين من هؤلاء السكان إلى قومياتٍ وأعراقٍ أخرى، كردية وتركمانية وشركسية وأرمنية وأمازيغية وأفريقية وغيرها. وهو عالمٌ متعدّد الأديان أيضا، فإلى المسلمين، وهم الأغلبية الساحقة، يشكّل المسيحيون نسباً لا يستهان بها من سكان بعض الأقطار التي تضمّ أقليات دينية أخرى متنوعة.
لن تقوم للعالم العربي قائمة إلا حين تتخلّى نخبه الحاكمة نهائيا عن فكرة التحالف مع إسرائيل، وتستعيد زمام الدفاع عن القضية الفلسطينية، وحين تدرك أن طريق النهوض من الهوة السحيقة التي وقع فيها يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة الوطنية القوية وإعادة بنائها على أسس مدنية وديمقراطية تسمح لكل الأطياف والتيارات بالتعايش والمشاركة الفاعلة
أما عن الطوائف والملل والنحل في العالم العربي فحدّث ولا حرج، فالمسلمون سُنَّة وشيعة ودروز وعلويون وغيرهم، والمسيحيون أرثوذوكس وكاثوليك وبروتستانت وأقباط وموارنة .. إلخ. وإذا نظرنا إلى العالم العربي من منظور تنموي، نجد أن سكانه يتوزّعون بين بادية وحضر، ومزارعين ورعاة، وما يزال مستوى التصنيع والتقدّم العلمي والتكنولوجي فيه محدوداً للغاية. وعلى الرغم من سيادة النظام القبلي في بعض دوله، إلا أن القبائل العربية عادة ما تكون متداخلة وعابرة للحدود السياسية والدينية والطائفية في أحيان كثيرة، ففي داخل القبيلة الواحدة، يمكن أن يوجد السنّي والشيعي، بل المسلم والمسيحي.
وربما يفسّر هذا التنوع الهائل بعض أبعاد الصراعات الحادّة الجارية حالياً في المنطقة، وهي صراعاتٌ تتخفّى حالياً وراء عباءات عرقية أو دينية أو طائفية أو قبلية، على رغم أنها في حقيقة أمرها صراعات سياسية في المقام الأول، ففي داخل كل دولة عربية تقريباً صراعات بين كل المكوّنات العرقية والطائفية والدينية: فالعرب في حالة صراع مع غير العرب ومع بعضهم بعضا، والمسلمون في حالة صراع مع غير المسلمين ومع بعضهم بعضا.
وهناك صراعات فيما بين الدول العربية، وبين الدول العربية وجاراتها غير العربية. ولأنها صراعاتٌ تفاقمت في الآونة الأخيرة، وبدأت تأخذ شكل حروبٍ أهليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ مدمرة وباهظة الكلفة إنسانياً ومادياً، يعتقد بعضهم أن المنطقة العربية لن تعرف الاستقرار والهدوء، إلا إذا أعيد رسم خرائطها وحدودها على أسس جديدة تختلف كلياً عن التي تم اعتمادها في اتفاقية سايكس – بيكو عام 1917، حين كانت دول الاستعمار الأوروبي تقتسم في ما بينها تركة إمبراطورية عثمانية آيلة للسقوط. ومع التسليم بأن الحدود التي رسمتها تلك الاتفاقية لم تأخذ في اعتبارها سوى مصالح الدول الاستعمارية، على الرغم من حرصها، في الوقت نفسه، على إرضاء بعض الأسر أو القبائل العربية المتعاونة مع بريطانيا إبّان الحرب، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا هنا ينبغي أن يدور حول الأسس التي يتعيّن الاستناد إليها لتصبح الحدود الجديدة قابلة لتحقيق الأمن والاستقرار وقادرة على استعادة الهدوء للمنطقة.
يفرض علينا الإنصاف هنا أن نعترف بأن فشل الدولة الوطنية في العالم العربي لا يعود فقط إلى تنوعه الديني أو الطائفي أو العرقي، ولا إلى المحاولات الرامية الى تجاوز الدولة العربية واختطافها من جانب التيارين القومي والإسلامي، كلّ لأسباب ودوافع أيديولوجية مختلفة، وإنما يعود، أولاً وقبل كل شيء، إلى عجز النخب الحاكمة في معظم الدول العربية عن تأسيس نظم سياسية تتّسع لمشاركة كل التيارات الفكرية والسياسية، وتكفل حقوق المواطنة للجميع، بخاصة حقوق الأقليات.
لذا يمكن القول إن الأقليات العرقية والدينية والطائفية ربما لعبت الدور الأخطر في تقويض أسس الدولة الوطنية في العالم العربي، خصوصاً في الحالات التي حاولت فيها تلك الأقليات تغطية انتماءاتها الطائفية بعباءاتٍ أيديولوجيةٍ قوميةٍ أو إسلاميةٍ أوسع. وربما لا أكون مبالغاً إن قلت إن معظم البؤر الساخنة حالياً في العالم العربي تعكس “انتفاضة أقليات” بأكثر مما تعكس ثورات شعوب. لكن هل ستؤدّي إعادة رسم الحدود في الوطن العربي على أسس طائفية أو عرقية إلى إعادة الاستقرار والأمن للمنطقة ككل، أو حتى للطوائف المنتفضة الآن، والتي يتعيّن الاعتراف بأن بعضها عانى كثيراً من قبل؟ أشكّ كثيراً، وأعتقد أن العكس ربما هو الأصح.
قيام دول جديدة في العالم العربي، بغالبيات شيعية أو علوية أو درزية أو مسيحية أو كردية، لن يحلّ أي مشكلة، وإنما سيؤدّي فقط إلى استبدال غالبية متحكّمة بأخرى، ربما تصبح أكثر تسلّطا واستبدادا، ومن ثم فقد لا تتورّع بدورها عن اضطهاد الأقليات التي تتحكّم فيها. أما إقامة دويلة لكل طائفة أو دويلات طائفية نقية وخالية من الأقليات، فلن يكون لها سوى معنى واحد، دخول المنطقة في عمليات تطهير عرقي متبادل، وبالتالي اتساع نطاق الحروب الأهلية واشتداد أوارها وامتدادها مكانياً إلى مناطق جديدة، وزمنياً إلى ما لا نهاية. وإذا استمرّت أوضاع العالم العربي على ما هي عليه، فستنزلق المنطقة حتماً، بوعي أو من دون وعي، إلى مصير أشدّ ظلاما.
الوضع الإقليمي المحيط بالعالم العربي يبدو بدوره ضاغطا بشدّة في اتجاه مزيد من تفتيته وتشرذمه، فحول العالم العربي ثلاثٌ من دول الجوار، تملك كل منها مشروعا توسّعيا بطبيعته.
فهناك إسرائيل، بمشروعها الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية خالصة على أرض فلسطين التاريخية وقادرة على الهيمنة بشكل مطلق على منطقة نفوذٍ تمتد من النيل إلى الفرات. ولأنها دولةٌ تقوم على أسس دينية أو حتى عرقية، إذا افترضنا جدلا أن يهود العالم يشكّلون قومية قائمة بذاتها، فلن تشعر بالأمن الكامل إلا حين تنجح فعليا في تفتيت المنطقة المحيطة بها إلى كياناتٍ طائفية أو عرقية تشبهها.
وهناك إيران بمشروعها إلهادف إلى توحيد الشيعة في المنطقة تحت راية نظام ولاية الفقيه الذي استحدثته ثورتها الإسلامية منذ وصولها إلى السلطة عام 1979، وهو مشروعٌ لن يكتمل بدوره إلا بتفتيت العالم العربي وتفجيره من داخله، بإشعال الصراع بين الشيعة والسنة. وهناك تركيا بمشروعها الهادف إلى استعادة أمجاد الامبراطوية العثمانية، خصوصا بعد تمكن حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الإسلامي، من السيطرة على مقاليد السلطة في تركيا منذ عام 2002. صحيحٌ أن المشروع العثماني يبدو حاليا في حالة تراجع وانحسار، لكن المشروعين الآخرين في حالة تمدّد وازدهار، ويتصارعان للفوز بتركة العالم العربي، رجل المنطقة المريض.
كان في وسع العالم العربي مواجهة كل هذه المشروعات، ووضع حدٍّ لطموحاتها التوسّعية، لو كان لديه مشروعه الخاص، وهو مشروعٌ لا يمكن إلا أن يكون توحيديا أو تكامليا، على نمط مشروع التكامل والوحدة في التجربة الأوروبية على الأقل، بحكم روابط ثقافية وتاريخية عميقة تربط بين أجزائه. غير أن إخفاقة في تهيئة سبل الوحدة والتكامل ومقوماتهما أدّى ليس فقط إلى انهيار حلم الوحدة العربية والإسلامية معا، وإنما إلى انهيار حلم إقامة دولة وطنية عصرية قوية على أي جزءٍ منه. الأخطر من ذلك أن تخلّي الأنظمة الحاكمة في العالم العربية عن القضية الفلسطينية الجامعة، وتسرع بعضها بالارتماء في أحضان إسرائيل، بدعوى مواجهة الخطر الإيراني المشترك، لا يحل أي مشكلة، وإنما يقرّب العالم العربي أكثر من لحظة الانهيار.
لن تقوم للعالم العربي قائمة إلا حين تتخلّى نخبه الحاكمة نهائيا عن فكرة التحالف مع إسرائيل، وتستعيد زمام الدفاع عن القضية الفلسطينية، وحين تدرك أن طريق النهوض من الهوة السحيقة التي وقع فيها يبدأ بإعادة الاعتبار للدولة الوطنية القوية وإعادة بنائها على أسس مدنية وديمقراطية تسمح لكل الأطياف والتيارات بالتعايش والمشاركة الفاعلة، فحين تقوم في العالم العربي دول وطنية ديمقراطية حقيقية، يصبح طريق التكامل والوحدة أمامها ممهّدا وقادرا على اختيار النهج الأكثر تعبيرا عن إرادة الشعوب.