- ℃ 11 تركيا
- 5 نوفمبر 2024
بلال التليدي يكتب: أفكار للتأمل في الحرب الروسية على أوكرانيا
بلال التليدي يكتب: أفكار للتأمل في الحرب الروسية على أوكرانيا
- 12 مايو 2023, 12:18:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أكثر من عام مر على الحرب الروسية على أوكرانيا، والحقائق على الميدان لم تدعم أيا من الرؤى الاستراتيجية التي استشرفها صناع القرار السياسي في موسكو أو الغرب، فلا موسكو أخفقت ولا هي فرضت على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أن تسارعا للضغط على كييف للتفاوض لإنهاء الحرب بفرض جزء من الواقع الذي حققته القوات الروسية في شرق أوكرانيا.
الرؤية الأمريكية والأوروبية، انطلقت من افتراضين: أن موسكو لن تستطيع مواجهة الناتو القائم وقتها، فضلا عن مواجهة الناتو وقد توسع باحتمال انضمام فنلندا والسويد إليه، وأنها ستجد نفسها أمام واقع مختلف، فبدل أن تكون قد منعت اقتراب الناتو من حدودها (أوكرانيا) فستصير مهددة من ثلاث دول جوار يفترض انضمامها إلى الناتو. والثاني، أن قدراتها الاقتصادية لن تمكنها من كسب الحرب على مدى متوسط أو بعيد، بسبب فعالية العقوبات، وبسبب الاستراتيجيات المضادة التي تنسجها أمريكا وأوروبا لتحييد قدرتها على استعمال الطاقة والغذاء كسلاح استراتيجي، ولخلق أزمة اقتصادية داخل موسكو تفكك الجبهة الداخلية وتسهل الانقلاب على حكم بوتين.
الرؤية الروسية، انطلقت هي الأخرى من افتراضين: أن الهشاشة الطاقية لأوروبا، ستدفعها ولو بعد حين إلى فك ارتباطها بأمريكا، بل ستدفع للانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، بما يجعل الحاجة إلى مصادر الطاقة الروسية أولى من تحصين المصالح الأوروبية المشتركة. وأما الافتراض الثاني، فانطلق من خلفية قدرة موسكو على الاستدارة نحو الشرق، وخلق حلف دولي واسع، يستقطب العالم العربي، وإفريقيا، لإحداث العدالة والتوازن في النظام الدولي وللتحرر من الهيمنة الأمريكية وتوسيع هوامش الاستقلال والسيادة الوطنية.
التقييم يفيد ألا أحد كسب الجولة لصالحه، فأوروبا تجاوزت الشتاء القارس دون تهديد حقيقي لسلمها الاجتماعي، وأن تصاعدا للاحتقان الاجتماعي بفرنسا، يرتبط بسياسة الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر مما يرتبط بالآثار المباشرة للحرب على أوكرانيا. أما موسكو، فحالة اقتصادها مستقر، وسط مؤشرات للتعافي، وارتفاع المدخرات من الاحتياطي النقدي، ولم يحدث إلى اليوم ما يمكن أن يعتبر مؤشرات حقيقية لتفكك الجبهة الداخلية، فضلا عن توفر شروط الانقلاب على حكم الكرملين.
تبدو مشكلة هذه الرؤى أنها بنيت بوحي من نموذج الحرب الباردة، الذي تمكنت فيه أمريكا من تفكيك الاتحاد السوفياتي وفرض هيمنتها على النظام الدولي، في حين ثمة متغيرات كثيرة، تفسر المفارقة.
أول هذه المتغيرات، هو تحول روسيا نفسها، فروسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي، فقد نجحت في أن تضمن لنفسها هوية دينية مسيحية، تنحاز لقيم المحافظة والعائلة، وهو ما أكسبها قاعدة اجتماعية ترتكز إليها في بناء شرعيتها السياسية، كما نفت الطابع الإلحادي من هويتها، بما مكن الأقليات الدينية من التعايش داخلها ومن تقوية مصادر شرعية نظامها السياسي. كما غيرت من بنية اقتصادها، فأصبحت أقرب إلى نهج اقتصاد السوق، مع إحاطة نفسها بنخب اقتصادية، تشترك معها في الهوية الفكرية والسياسية، وتخدم مصالحها، فأمنت الدولة بذلك استقرار النخب الاجتماعية الدنيا، من خلال رعاية الدولة، وأيضا ولاء النخب الاقتصادية من خلال العلاقة الأولغارشية، وهو ما يضمن قدرا كبيرا من التوازن الاجتماعي الذي يعيد إنتاج الشرعية السياسية.
لا أحد كسب الجولة لصالحه، فأوروبا تجاوزت الشتاء القارس دون تهديد حقيقي لسلمها الاجتماعي، وأن تصاعدا للاحتقان الاجتماعي بفرنسا، يرتبط بسياسة الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر مما يرتبط بالآثار المباشرة للحرب على أوكرانيا
سياسيا، فقد بنت روسيا أطروحتها الخاصة في تبرير الحرب على أوكرانيا بالاستناد إلى فكرة المظلومية. وبغض النظر عن مدى مقبولية هذه الأطروحة خارجيا، فقد خلقت بها شروط الإقناع الداخلي وتمكنت بها من خلق قاعدة لا بأس بها من الحياد لدى كثير من دول العالم، كما فكت روسيا الارتهان بفكرة الولاء للاشتراكية كقاعدة لبناء التحالفات الاستراتيجية، وأضحت أكثر مرونة في تدبير علاقاتها الدولية، بشكل يفوق أحيانا براغماتية السياسة الأمريكية، فلم تكتف بمحورها التقليدي في الشرق (الصين) وفي العالم العربي (سوريا والجزائر) وفي أمريكا اللاتينية (فنزويلا) ولكن علاقاتها أضحت من الاتساع، بحيث يصعب عد المحددات المعتبرة في إقامتها، فقد اتجهت إلى الهند، وأقامت علاقات استراتيجية مع تركيا، وهي تنسج اليوم علاقات واسعة مع العالم العربي، مخترقة دول الخليج التي كانت تدور في الفلك الأمريكي، ومدت علاقاتها الاستراتيجية بعدد من الدول الإفريقية.
باختصار شديد، لقد أضحت الهوية الدينية لروسيا، والطبيعة المنفتحة لاقتصادية، والبراغماتية السياسية في إقامة العلاقات الدولية، عناصر مفارقة لتجربة الاتحاد السوفياتي، بما يجعل القياس على الحرب الباردة أمرا مضللا.
من جهة الولايات المتحدة الأمريكية، فقد حدثت ثلاثة متغيرات أساسية، الأولى، تتعلق بالتمزق السياسي الذي تعرفه منذ انتخاب الرئيس جو بايدن. ومع أن الخلاف السياسي كان دائما يطبع العلاقة بين الجمهوريين والديمقراطيين، إلا أن انعكاسات ذلك، لم تصل إلى درجة حدوث شرخ في الرؤية الاستراتيجية والأمنية، بل وحتى الاقتصادية والمالية، فقد كانت المصلحة القومية الاستراتيجية غالبة، ولم يكن الخلاف يمس إلا الجوانب التفصيلية، لكن اليوم، تبدو الأزمة المصرفية، وأزمة التضخم، وقضية الإنفاق العسكري، وتقديم الدعم لأوكرانيا، جزءا أساسيا من التوتر السياسي الداخلي، بحيث أضحى ذلك مؤثرا بشكل كبير على رهانات الدولة وأمنها القومي. وأما المظهر الثاني من التغير، فيتعلق بعلاقتها مع محاورها التقليدية، أي أوروبا، ودول الخليج، ودول الاعتدال العربية، فأوروبا، لولا اعتبار أمنها القومي، وتأخرها في إعداد رؤية استباقية للجواب عن أزمة الطاقة، لأمكن أن نرى هوامش كبيرة من استقلالها عن أمريكا. واليوم، تصدر عن صناع قرار سياسي غربي، انتقادات جدية، لأمريكا بسبب استثمارها في الأزمة، ودفعها أوروبا ثمنا لهذه المقامرة، دون تقديم أي تضحية استراتيجية، تعبر عن التضامن الغربي. أما بالنسبة لدول الخليج ودول الاعتدال، فقد انخرطت أمريكا في سياسات دولية، خلقت كثيرا من الشك لديها، فشكلت الحرب الروسية على أوكرانيا هامشا واسعا لتفعيل خيار السيادة وأخذ المسافة، فالأردن لا تزال تشعر بطعنة غادرة بسبب رهانات عزلها وفرض أجندة دولية وإقليمية عليها، والسعودية، لن تنسى أبدا، كيف انحازت أمريكا إلى مصالحها وأبرمت الاتفاق النووي مع إيران مضحية بذلك بمتطلبات الأمن الخليجي، ومصر، هي الأخرى، تركت لشأنها، تواجه أزمة تغول إثيوبيا عليها في سد النهضة، وأزمة تخلي الكل عن مساعدتها في هذه الظروف الحرجة.
أوروبا تعيش أربع أزمات، أزمة تأمين حاجتها الطاقية بعيدا عن موسكو، وأزمة تداعيات العقوبات الأوروبية على موسكو على اقتصادها، وأزمة السلم الاجتماعي الذي يمكن أن يتهدد في أي لحظة، وأزمة توسع هوامش السيادة لدى دول جنوب المتوسط، وتقلص الفائض المستجلب منها أمام واقع الندرة التي تعيشه وتنامي وعي شعوبها مخاطر استمرار الهيمنة الأوروبية.
لقد تغيرت كثير من الشروط، وصار القياس على الحرب البادرة السباق ضربا من الخيال، وصار الحلم بإمكان استمرار الهيمنة الأمريكية أو عودة أوروبا لما كانت عليه، أو انتصار ساحق لروسيا من المفارقات للواقع الميداني.
الأقرب إلى المنطق، الاتجاه لمفاوضات مباشرة، تنتهي بشعور الطرفين على السواء بنصف انتصار ونصف هزيمة، على أساس أن يتم توسيع النقاش بإشراك دول مؤثرة أخرى في العالم حول شروط إعادة التوازان للنظام الدولي.
كاتب وباحث مغربي